الكاتب: نصير احمد الريماوي
كان زقاقا ترابيا ضيقا تحيط به من الجانبين أشجار، السرو، واللوزيات، والتين ،والكينا، والرمّان، والصبّار، والصنوبر، والورود.. مزيّن بجمال الأشجار خلابة المنظر والطيور الدّاجنة والعصافير تتقافز هنا وهناك على فروعها وعلى السلاسل الحجرية باحثة عن رزقها أو تراها منهمكة في بناء أعشاشها وحراستها.. وكنّا نحن أهل الحي نتراقص في أرجائه كالفراشات المتسابقة على الزهور مزهوّين بهذا الجمال الرَّباني..
كان الحي نابضا بالحياة.. وقد اتسع مع اتساع رَحابة قلوب أهل الحي.. أصبح شارعا محفوفا بجمال الطبيعة وجمال ساكنيه، وأضحى الحاضنة الطبيعية لأحلام الطفولة وقصصها، ومليء بالمواقف، والأحداث، والحكايات، وكلما تطور واتسع تتسع وتتطور معه الذكريات..
يشعر من سكنه أو دخله أو مر منه يوما ما بأن شارع الحي يجمع ما بين الحُبّ والحياة في آن واحد رغم معاناة شعبنا وقهره.. كنّا نفرح لطرد الحزن والبؤس من حاراتنا وننشر البهجة والسرور في الأزقة غير عابئين بما يحدث من حولنا..همّنا أن نزيح الكآبة عن وجوه شوارعنا المَكلومة الحزينة المشتاقة إلى أحبتها الذين هجروا الحي وتركوا بصمات خطواتهم وآثارهم التي لا تُمحى على مَرّ الزّمان..
لحجارة بيوته وأشجاره رونق خاص تُعتبر بحد ذاتها شواهدَ تاريخية تُروي قصص وحكايات القاطنين، الذاهبين والعائدين، والغائبين والحاضرين، والمتطلعين لغد مشرق، ومن استشهدوا في درب النضال والسائرين الحالمين ليوم الحرّيّة...
كلما أقصده، أسير عليه بخطىً وئيدة، وأقف على أطلال الذكريات الجميلة والمؤلمة وتستوقفني تلك اللحظات الحميمة التي عشتها مع أعزِّ النّاس.. لكنَّه الزّمان والقدر وظلم الاحتلال - الذي فرّق بين الأخ وأخيه والأهالي- نَصَّفهم إلى نصفين.. داخل الوطن وخارجه، فصار الداخل مهموما والخارج مغموما..
والجسد ينادي على بعضه المُتشتِّت، وينتظر لحظة العودة كي يلتئم الجسد الواحد وتعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها..
ما بين حفيف الأشجار، وجوقات زقزقة العصافير، وتغريد الطيور، ودبيب خطوات الناس في غدو ورواح وهم يكدّون ويكابدون شظف العيش، والألعاب التراثية الشّتوية والصيفية التي يمارسونها الأطفال، ومراسم الأعراس التراثية ، تشاهد كيف يرسمون لوحات فنية تراثية غنيّة بالثقافة الفلسطينية، ويخطّون بشقائهم أروع صور العيش الكريم والبطولة، ويحفرون في بطون التاريخ ملاحمهم مع قسوة الحياة...
هذا الشارع ليس شارع الذّكريات فحسب، بل إنه مَعبَد الذّكريات و مستودعها وأرشيفها الشّفَوي والمادي.. خاصة و أن للمكان دائما أثر بالغ في حياتنا وتكوين شخصياتنا كما هو متعارف عليه..
عندما يحتضنني الشارع بحنانه أتذكر وأتخيل كم كتبنا عليه بخطواتنا وهمساتنا أجمل حروف بِمداد من ذهب.. وكلما أسير عليه كأنني أسير في دفاتر ذكرياتي بحُلوها ومرِّها أتصفحها وأقلِّبها صفحة تلو الأخرى عَلِّي أجد بين سطورها ما يهدئ روحي ويريح الأعصاب..أحيانا ينتابني شعور بأن نبضات القلب تبدأ بقرع داخلي مثلما يُقرع جرس الكنائس، وأحيانا أخرى تختنق الروح، وتنقبض النفس، ويتملّكني الشّوق والحنين إلى تلك الأيام الخوالي، لولا أن الكتابة هي صديقي المخلص في الحياة اليومية استطيع من خلالها الفضفضة وتفريغ ما بداخلي لتفجر داخلي مثل البركان الثائر..
أنظر من حولي في كل الاتجاهات والحسرة تَعتصِرني باحثا عن نصفي الآخر الذي خطَّها ودوَّنها معي فلم أعثر إلا على آثاره والوقوف على أطلاله..
كانوا هنا.. لعبنا هنا.. تعلمنا هنا كنّا نذهب إلى المدرسة معا مثل النهر الهادر في كل صباح.. أين ذهبوا وهجروا الدّيار التي مازالت تبكيهم صبح مساء؟ أسأل البيوت العتيقة، والأشجار الشامخة، والطيور، وزِقاقِه.. أسأل أصباحه ومساءاته، ولياليه ونجومه الشّاهِدة.. فيُسمِعُني حَفيف الأشجار عويله ولحن العودة الحزين .. وتُبلغني الطيور برسائلها السَّماوية وتُهديني من شَدوها العذب ما يُسعد الروح ويخفف عن كاهلي مرارة الفراق..
أحاور هذه الأشياء.. أحاول فهم إيماءاتها ولغة تموّجاتها مع هبوب الرّيح.. ألاحظ كأنها تواسيني تارة أو كأنها تبوح لي بسرٍّ دفينٍ ويجب البحث عن فك طلاسمه.. عندئذ أتذكر أنني لوحدي أسير وقد اقتربت من نهاية الشارع في بلدة بيت ريما مسقط رأسي.. في هذه الأثناء أخرج منه ونفسي لا تطاوعني على الخروج أصحو من الحلم الذي يسرقني من حالي برهة ثم أعود إلى واقع الحياة والأمل يحدوني...
______
17/8/2015م
[email protected]