نشر بتاريخ: 24/08/2015 ( آخر تحديث: 24/08/2015 الساعة: 16:01 )
الكاتب: عطا الله شاهين
تذكرُ المرأة بأنّها وجدتْ نفسها عالقةً وسط اشتباكاتٍ كانتْ تدور في مُخيّمٍ قريبٍ ولمحتْ طفلاً كان يُطلُّ برأسِه مِنْ خلف سورِ حديقةٍ مزروعةٍ بأشجارِ الصّنوبر، فقالتْ في ذاتها يبدو أنّ الطّفلَ علِقَ في تلك الحديقة واختبأَ مِنْ إطلاقِ النِّيرانِ الكثيفة التي كانتْ تمرُّ مِنْ فوق رأسه.
فالمرأة كانت تشعرُ بالتّعبِ مِنْ استمرارِ الاشتباكات لوقتٍ طويل دون تقطُّع ، فراحتْ تنعسُ على مقودِ سيّارتِها المُصفّحة وغفتْ للحظاتٍ إلا أنّها كانتْ تقوم بفتحِ عينيها بين الحين والآخر لكيْ تراقبَ ذاك الطّفلَ المسكين فهي كانتْ مصممةٌ على أخذه من تحت القصف ، ولكنّها لمْ تستطع مِنْ كثرةِ إطلاق النيران في المنطقة .
وبعد مُرورِ عدّةِ ساعات من اشتباكاتِ ضارية إلا أنها لم تعد تسمع أزيز الرصاص وراحتْ تزحفُ على بطنِها صوبَ ذاك الطّفل .. والليلُ بدأ يهبطُ بعتمته ، وكانتْ السّماءُ في ذلك الوقت مُلبّدةٌ بغيومٍ سوداء ماطرة ، لكنّ الرّياح أزاحتها لمنطقةٍ أُخرى.
وحينما وصلتْ المرأةُ إلى ذاك الطّفلِ رأته يرتجفُ مِنَ الخوفِ ،وقالتْ له :لا تخافُ سوف آخذكَ معي لإبعادكَ من هنا بسيّارتي المصفّحة .. ها هي سيّارتي تقفُ هناك فيمكنكَ رؤيتها مع أنّ الليلَ حالكٌ بعتمته ..
فأجابها بصوتٍ خائف ، بلا، إنّني أراها بصعوبة ، مع أنّه في تلك اللحظة لمْ يرَ شيئاً وراح يحضُنها وبدأَ يزحفُ معها بدون تردُّدٍ صوب السّيّارة .. وعند وصولهما إلى بابِ السّيّارةِ قامتْ بفتحِ البابِ بهدوءٍ خوفاً مِنْ أنْ يسمعَها المتقاتلون وأدخلتْ الطّفلَ الخائِف والمُرتجف وأجلسته بجانبِها على المقعدِ الأماميّ وكانَ يبكِي بصمتٍ مُريب .. وراحتْ المرأةُ تُهدّأُ مِنْ روعه وتحضُنه بصدرِها وقالتْ له :سأُوصلكَ إلى بيتكَ فيما بعد ، والآن علينا استغلال الهدوء الذي حلَّ فجأة على هذا الحيّ ، لكي نبتعد من هنا ، وقالت له أنتَ باستطاعتكَ أنْ تنامَ الآن .. فجسمكَ بارد جدا ..
فقال لها وهو يحضنُها: لمْ أعُدْ أشعرُ بالخوفِ وأنا في حُضنكِ ، واقتربَ مِنها أكثر وقالَ لها بصوتٍ مُنخفض: أنا هنا أشعرُ بأمنٍ رائعٍ وغير عاديّ لمْ أشعر به مِنْ قبل .. فقالتْ له : لا خوفُ بعد الآن ، فأنتَ في حُضْنٍ امرأة رائعة ..
تذكر المرأة بأنّ الطّفلَ كان يبتسمُ وكأنّه في تلك اللحظات فهِمَ ماذا كانتْ تقصدُ تلك المرأة الغريبة واللطيفة ، وقال لها : هناك كُنتُ خائفاً مِنْ خوفٍ بشع أمّا هنا أرى الخوفَ رائعا، فهنا أشعرُ بخوفٍ يختلفُ عن ذلك الخوف الذي عشته لساعاتٍ .. وبعد دقائقٍ معدودة نعسَ الطّفلُ لوقتٍ من الزّمن في حُضْنِها حتى عادَ أزيزُ الرّصاص يُسمع مِنْ جديد .. فنهضَ الطّفلُ مذعوراً وكانَ مُحيّاه مليءٌ بالحُزْنِ لأنّه تذكّر أُسرته التي تركها قبل ساعاتٍ، وتذكّرَ أصدقاءه وراح يبكي ، ولكنّ المرأة كانتْ تخفّف مِنْ حُزْنه باحتضانه وكانت تقول له لا تخافُ ، ففي النّهايةِ سنصلُ إلى بيتكَ على الرّغمِ مِنْ سقوطِ القذائفِ مِنْ حولنا ، لكنّ الطَّفلَ ظلَّ فرِحاً لأنه ابتعدَ عنْ الخوفِ البشعِ ووجدَ في مُحيّا وحُضن تلك المرأة خوفاً أجمل وأرقُّ مِنْ ذاك الخوف الذي عاشه في عتمةٍ مخيفة كانتْ تشقّها الرّصاصات ..
فالطفل ظلّ غارقاً بمحيّاه الفرِح في حُضْنِها وكانَ يتمتمُ ما أجملَ أنْ يتذوّقَ الطّفلُ جُنونَ الحياة .. وما هي إلا لحظات حتى أدارتْ المرأةُ محرّكَ السّيّارة وانطلقتْ بسرعةْ وظلّ الطّفلُ نائماً على كتفِها بابتسامةٍ تعلو وجهه وبدأ يهذي من سروره ويتمتم ما أروعَ الخوفُ هنا .. أُحبُّ أن أبقى هنا..