الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الشعب الذي فاض دما وكبرياء وعبادة

نشر بتاريخ: 29/08/2015 ( آخر تحديث: 29/08/2015 الساعة: 11:26 )

الكاتب: عيسى قراقع

هو شعبي، الصغير الكبير الممتد من اول الدنيا الى آخر الدنيا وابعد، يفيض دما وحبا وكبرياء وعبادة، الحاضر في الزمان والمكان، لا يفنى ولا يزول، المقاتل في الحرب حتى آخر شهيد في القيامة، والعاشق للسلام حتى آخر حمامة تفرد جناحيها على فضاء السماء.

هو شعبي، اراه يحفر الارض كي يطلع الماء من جذور القمح ويغني صيفا وشتاء ولا يتعب، واراه يحفر جدارا ليطل على جهات الشمس الاربع، مبلولا بالبحر ودورة الارض، والفصول السبعة في مواكبها بين الجليل والنقب.

هو شعبي ، الشهيد والاسير، الطفل والام والاب والمرأة والجريح والفقير والعامل والفلاح والمعلم والمهندس والطبيب، المسلم والمسيحي، وما خلق الله من تعددية في رائحة الشجر البشري الواقف على هذا الساحل وتلك التلال ، وهي تمشي باياديها وقلوبها حيث كان المسيح والرسول واولياء الارض الصالحين.

هو شعبي، ام الاسير العجوز المتسلحة باليقين والحلم، تحمل صورة ابنها، وتدق جدران السجن، تضيء العتمة بعينها، وتبتسم لولد يكبر بكوفيته هناك ويصير نبيا.

هو شعبي، ام الشهيد تزغرد في جنازة ولدها، ترش الحناء والورد ، وتقنع العالم انه لازال حيا ، تراه في حوش البيت، او في الصلاة يوم الجمعة، يقبل يديها ويغادر عندما تناديه النبوءة والرصاصة وصرخة الحجر.

هو شعبي، الخارج من الف مذبحة ومذبحة، التائه بين المسافات والحدود، من خيمة الى خيمة، من معسكر الى معسكر، لكنه واضح الملامح، سمرته، بريق عينيه، يعرف كل من يراه انه متجه الى القدس، يتحرر من اللجوء والاقامات المؤقتة، يموت واقفا، او يعيش صامدا، يرفض الهوية المزيفة.

هو شعبي المنتفض كثيرا سنة وراء سنة، يتصدى للذل والعبودية ، يرفع سارية الكرامة والعزة اينما يكون ويظل عاليا عاليا، لا تأخذه سنة ولانوم، لا سجن ولا قبر، لا سلام اقتصادي ولا سلام استيطاني، يعرف كيف يمر عن الحاجز، ويعرف ان هناك بستان خلف البعيد يناديه، ويعرف ان في احشاء التراب ذهب الحرية.

هو شعبي، الاسير ذو الروح العنيدة، يقارع السجن بجوعه الطويل الطويل، يجف المحيط ويتعب السجان، ولا يموت الا عندما يريد ان يموت، يفك قيده ويخرج الى الناس جمعا، او مطرا، او يوما من ايام الفرح المباركات الصاخبات.

هو شعبي، اعتز به، همساته، اغانيه، دموعه، سهره على الحياة قطرة قطرة، جدارته في البقاء الاسطوري رغم مخططات الموت السياسي ، ورغم هذا الاحتلال الذي يرتد دائما الى الوراء ، ولا يدخل المسجد كما دخله اول مرة.

هو شعبي، اسماء واسماء، منذ بدء الخليقة حتى ابد الآبدين، وفي كل اسم قصة ورواية وصوت رياح، وفي كل ريح بشرى لأغصان الشجر وقدوم السحاب مخاضا وولادة.

هو شعبي، لا تسعه دولة ، ولا كل الارض تكفيه كي يرى العالم وجهه الحرّ المسفوح على الروايات والحكايات، الهجرات والنكبات والقصائد والاغاني، ولكل من اراد ان يبقى بلا ضيم او سجن، او ضحية تسقط في فراغ الصراع.

هو شعبي، خرج منه الهواء والنار والتراب والصوت والضوء والدم والايات المباركات والمعجزات الخالدات، وكان هنا الزمان، وكان هنا المكان، هو النص الاول والاخير في ميزان العدالة لمن يسمع او يتقدم بجراة الى هذه الجهة من الارض.

هو شعبي ، لا ينام ولا يهدأ، يخرج من بين الصفيح ومن ثقوب الصخر، يملك كل الاسئلة والذخائر الانسانية والثقافية والحضارية ، والقدرة دائما على الانتصار واضاءة الشمعة، واطلاق الصرخة والوصول الى رفرفة القلب .

هو شعبي الجميل البارع، الهاديء الغاضب، القادر المتوحد في مسجده، والمتعبد في كنيسته، أقوى من الجغرافيا المحطمة، واكبر من حشره في معازل مرقمة ومسيجة.

هو شعبي، ياسر عرفات، جورج حبش، محمود درويش، ابراهيم طوقان، مروان البرغوثي، احمد سعدات، اداورد سعيد، توفيق زياد، خليل الوزير، احمد ياسين، فتحي الشقاقي، عمر القاسم، فارس عودة، كريم يونس، ابراهيم ابو الغد، سميحة خليل، سميح القاسم، ويفيض ويفيض، بطولات وكوفيات و أعراس.

هو شعبي، المدن والقرى والمخيمات والظلال، النهر والرمل والزيتون والرواية، عشبة تدل علينا، جثة محروقة تدل عليهم، وكان محمد ابو خضير يعطي البرهان والاشارة.

هو شعبي، امراة على البئر وأخرى في المظاهرة، بنات في المدرسة وأخريات في الجامعة، جدائل معقودة بحبال الشمس ساطعة ساطعة، حب آخر يسيل في جنازة، وغزل يطير بين المقلاع والرصاصة.

هو شعبي لم يأت من صحراء خالية من الوجود الانساني ومن الصور، لا يحمل توراة مسلحة، ولا جنون الغيتو ورهاب المحرقة، ذاكرته تموج كلما دخل ولد مدرسته وقالت له فلسطين: إقرأ....