الكاتب: صادق الخضور
عن الخليل وعنبها؛ حكايات جدلّت ضفائرها على كتفي الزمن، وأسدلت ستائر خصوصيتها على نوافذ الإطلالة على المشهد، ف" الشهد في عنب الخليل"مقولة لم تأت من فراغ، و"عيون ماء سلسبيل" متلازمة رافقتنا منذ زمن، و"هي إرث جيل بعد جيل"، كلها معطيات تتداخل لتجعل من حبّات عنب الخليل قلادة في جيد الزمن.
خاطبه عزّ الدين مناصرة ذات يوم: يا عنب الخليل لا تثمر...... وإن أثمرت كنء سمّا على الأعداء كن علقم" .....ولا زال الخطاب ماثلا، أذكره كلما عانقت جنبات الحارة التي أسكن " واد الجوز" في بني نعيم، وقد اختارها المناصرة لتكون وسيطا بينه وبين عنب الخليل..." إذا ما استنسمت ريحا ..بواد الجوز غربيّة ... تظلّ تنوح ما ناح الحبّ فوق ضفائر الزعرور" ثم يأتي الحديث عن العنب ليطرّز المصفوفة الإبداعية بطابع تتلمس بين سطوره حلاوة الشهد، فعنب الخليل جالب للعسل دون أن يكون نحلا، بنكهة العراقة التي تشبعّت برذاذ الأرض الطهور، كنعانية كانت ولمّا تزل أرضنا، وإن كان زيتونها تجذّر، فحقول الكرمة في جنباتها تكشف عن سر دفيّن.
حلواني، ودابوقي، وجندلي.....أسماء عدّة لا تفقد بريقها مهما تباعد الزمن أو المدّة، كروم أورقت ومضت عليها سنون فما شاخت أو وهنت، بل نفضت من على كاهلها غبار الزمن، وتدلّت عناقيد العنب في فضاء الروح وقد حفرت لاسمها حضورا لافتا.
في الحسبة ... وكلما أعلى البائعون صوتهم" خليلي يا عنب" شعرت وكأن العبارة على محدودية كلماتها كتاب في حدّ ذاته، تتماهى الكلمات ويبرز حضور عنب الخليل المتدلّي في أعماق نفوسنا قبل أن يتدلّى في كرومنا.
عنب الخليل.أصالة لا تدانيها أصالة، ففيه ومنه الدبس والزبيب والشدّة والملبن، وغيرها من أصناف كل ما فيها لذّ وطاب، وكلها مما يقترن بالعنب إنتاجا، ويزيد سفوحنا ابتهاجا.
من رائعة عزّ الدين مناصرة عن عنب الخليل نقطف هذه المقاطع من حبّات الوفاء لها:
ونحن الأعاريب نعشقها كرمةٍ تتجلّى غلالاتها في المنام
نخبئها في السلاسل , بردانةً , ثم بين الفروع النباتُ
نُمزمزها في الصواني
إذا هلَّ هذا الصقيع على الكائنات
ونقطفها في ديسمبر ,
في عيد عيسى عليه السلام , عليه السلام
***
غريب الدار ياحبي غريب الدار
يظلّ يلوب في البلد البعيد على حدود النار
كعاصفة من العلّيق والأشواك والمرَّار
تهبّ تذيب أفئدةً جليدية
وحول مقابر الموتى من الأحياء
تظلُّ تحوم طول الليل , جنية
تغني الليل , أحلام الثكالى ... والدجى المأفون
وتلعن من أطالوا الليل ياحبرون !!!!
***
عنب دابوقيّ كرجيق النحل على يافطةٍ بيضاء
عنب دابوقيّ يتدّلى من عبّ الدالية كقرط الماس
عنب دابوقيّ لايشبهه أحدُ في الناس
عنب دابوقيّ يصهل مثل منية خضراء
عنب دابوقيّ يتمدد كإمرأةٍ في شمس المسطاح
أملبن كالزبدة كالشهوة في الخلوة مثل ندى التين
***
عنب دابوقيّ من جبل الشيخ ينادي
من جبل الشيخ أيا برّاد
من دمع كروم الكنعانين , صلاة الأسياد
من لهفة جدّتنا في الصحراء على الماء
من طين الحوِرَّ، تعصره، تنتظر النبع المتدفق
في غربتها
من لبن الدالية سأرضع أحرف جدي
من حقل الآرامي
من حجر رخامٍ في مقلع جفرا الكنعانية
عنب دابوقي
*************
سمعتك عبر ليل الحزن أغنيةً خليلية
تصيح طوال جمر الصيف :
أبو الفقراء والأيتام مرّ يقول :
هنا يستيقظ الإسفلت والزيتون
هنا يبكون خلف السدر والزقوم
متى ترجع !!
وهل في القبر من يسمع !!
صراخ فؤادك المرحوم
إذا الأحياء ماتوا في ذرى" أربع" !!!
***
كان نعيميُّ ينهر بغلته في اول خيطٍ للفجر
كي لا تترضرض أثداء العنب الدابوقي
يشرح لي عن سلسلة من نسب لسلالة أجداد الكرمه
كنت أرافقه للسوق على ظهر الفرس الشهباء
يتغزل باللون وبالطول وبالطعم وبالأسماء
قال خليلي من عصر الإحياء :
أنت خليلي كالعنب المرَّ المتأخر في النضج
الأصلب عودا في الوعر وفي الأزمات
تبدأ حين القافلة الخضراء
كان الوسطاء سماسرةٌ يمتصون النصر كدبور
يمتصون عروقي وعروق ابي
حتى لا تسرقه الخمَّارة
حتى لو خسر جهارا بغلته وحماره
الفاسد ياولدي يتخثر في الجسد كجيفه
ثم يجفف نبع القلب
--------------
عنب دابوقي كنعاني شفَّاف كغلاله عذراء
كقناديل بنات النعش الفضي
يتدلى فوق سحاحير الفجر ملاكا يغرق في النوم
عنب يتدلى أحياناً مثل الأكفان
حين نبيعك , يمتلئ القلب بحزن أبدي
يمتلء الجيب بخسران
فبأي طريقٍ نحميك من البهتان !!!
***
سمعتك عبر جمر الصيف أغنية خليلية
تظل ترنُّ خلف التلّ منسيه
إذا ما استنسمت ريحاً بوادي الجوزِ...غربيّة
تظل تنوح ما ناح الحمام على سواقي الحب
فوق ضفائر الزعرور
وفي المذياع، أصوات، علامات أثيرية :
خليليّ أنتَ ياعنب الخليل الحرّ لا تثمر
وإنْ أثمرت، كن سمّاً على الأعداء,
كن علقم!!!