نشر بتاريخ: 30/08/2015 ( آخر تحديث: 30/08/2015 الساعة: 11:01 )
الكاتب: جميل السلحوت
التعليم في فلسطين "مشاكل وطموحات"
المنهاج الاسرائيلي في مدارس القدس العربية
يأتي قرار المعارف الاسرائيلية وبلدية"أورشليم" بتطبيق المنهاج الاسرائيلي على خمس مدارس من مدارس القدس العربية المحتلة في بداية العام الدراسي الحالي 2013-2014 ضمن سياسة تهويد كلّ شيء في هذه المدينة، لكن هذه المرّة فان التهويد يستهدف الانسان وثقافته، ويخطئ من يصدق الرواية الاسرائيلية أن أسرلة المنهاج الدراسي في مرحلة التعليم الالزامي جاء بناء على طلب الأهالي، أو ادارات وهيئات التدريس في تلك المدارس، بل هو مفروض فرضا، ولن يتوقف على المدارس الخمس المذكورة، بل ستتبعها بقية المدارس بشكل تدريجي ضمن خطة مدروسة ومحكمة. وللتذكيرفقط فان سلطات الاحتلال طبقت المنهاج الاسرائيلي على مدارس القدس العربية فور وقوع المدينة تحت الاحتلال في حرب حزيران 1967.
وكانت النتيجة هو هروب الطلاب من المدارس الرسمية الى المدارس الخاصة، والى المدارس الفلسطينية الواقعة خارج حدود بلدية القدس حسب التقسيمات الادارية للمحتلين، حتى أن المدرسة الرشيدية-كبرى مدارس القدس الثانوية- كان عدد الطلاب فيها أحد عشر طالبا، وعدد المدرسين 33 معلما. ثم جرى تحويل المدرسة الى مدرسة صناعية في محاولة لجذب الطلاب، لكن الوضع لم يتغير، وفي تلك الفترة نشطت جمعية المقاصد الخيرية التي أسّسها المرحوم محمود حبيّة مع المرحوم حسني الأشهب مدير التربية والتعليم في محافظة القدس قبل وقوع المدينة تحت الاحتلال، نشطوا في تأسيس المدارس الخاصة التي سميت في حينه "مدارس حسني الأشهب" ومدارس الأوقاف الاسلامية، لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلبة في هذه المدارس التي كانت تدرس المنهاج الأردني المعدل المعمول به في بقية مدارس الضفة الغربية المحتلة.
وفي محاولة من الاسرائيليين لفرض سيطرتهم على القدس العربية بعد قرار الكنيست الاسرائيلي في 28-6-1967 من جانب واحد في مخالفة واضحة للقانون الدولي، ولقرارات مجلس الأمن الدولي، ولرغبة المقدسيين الفلسطينيين، فانهم –أي المحتلين- كانوا معنيين بوجود تعليم رسمي تحت سيطرتهم، فانهم شكلوا لجنة لدراسة أسباب عدم التحاق الطلبة المقدسيين بالمدارس الرسمية، وكانت احدى النتائج التي توصلت اليها اللجنة أن الطلبة المقدسيين يريدون الحصول على شهادة الثانوية العامة-التوجيهي- وليس البجروت الاسرائيلي، لأنهم يلتحقون بالجامعات العربية، فقررت السلطات الاسرائيلية اعادة تطبيق المنهاج الأردني المعدل الى مدارس القدس العربية أسوة ببقية مدارس الضفة الغربية، مع الابقاء على اللغة العبرية-التي لم تحسب كمادة نجاح ورسوب- وعلى كتاب"مدنيات اسرائيل"للصف الابتدائي الرابع.
وفي العام 1974 عاد المنهاج الأردني المعدل الى المدارس الرسمية في مختلف المراحل، وعاد حوالي 50% من الطلاب الى المدارس الرسمية، في حين بقي الآخرون في المدارس الخاصة وفي المدارس الفلسطينية المحيطة بالمدينة والواقعة خارج حدود البلدية؟ مع التأكيد أن الزيادة الطبيعية للسكان لم يصاحبها بناء مدارس لتستوعب هذه الزيادة، ولولا المدارس الخاصة لكان حوالي 50% من الطلبة المقدسيين في مرحلة التعليم الالزامي خارج المدارس حتى يومنا هذا، لعدم وجود صفوف دراسية تستوعبهم، حيث يبلغ النقص في عدد الصفوف الدراسية حوالي 2200 صف دراسي. وفي حينه صرح تيدي كوليك رئيس بلدية القدس وقتئذ أن البلدية والمعارف الاسرائيلية يسمحون للمدارس الخاصة في المدينة بمزاولة أعمالها لعدم قدرة المدارس الرسمية على استيعاب الطلبة، ولأنها توفر عشرة ملايين دولار سنويا على البلدية. وفرض المنهاج الاسرائيلي على الطلبة المقدسيين الفلسطينيين يعني أدلجتهم منذ نعومة أظفارهم على الفكر الصهيوني والقيم الدينية اليهودية، والولاء لدولة اسرائيل، وسلخهم عن ثقافتهم العربية وانتمائهم القومي، ويأتي قرار تطبيق المنهاج الاسرائيلي مكملا لمصادرة الأرض والتوسع الاستيطاني، ومحاصرة المدينة بالكامل ومنعها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي. حيث لم يبق ما يمكن تهويده سوى دور العبادة والعمل جار على تقسيم الأقصى أو هدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
للحفاظ على مسيرة التعليم في فلسطين
لن نتكلم هنا عن معاناة بناتنا وأبنائنا طلبة المدارس في مرحلة التعليم الالزامي، فهي كثيرة جدا، تتوزع بين عدم توفر مدارس نموذجية لغالبية الطلبة، وعدم وجود ملاعب حتى للاصطفاف الصباحي، وعدم توفر وسائل تعليم مساعدة، والنقص في المختبرات والمكتبات المدرسية، وعدم توفر الأمن والأمان للطالب في بيته وفي الطريق الى مدرسته وفي المدرسة....الخ.لكننا سنركز هنا على قضية عدم التزام جزء كبير من الطلبة بالدّوام المدرسي بدايته ونهايته، وعدم تقيدهم بقوانين التعليم، وعدم احترامهم لمدرّسيهم، و....هكذا، فما أسباب ذلك؟ وما هي الحلول؟ وفي الواقع أن هناك أكثر من سبب لذلك، منها ما يقف خلفه الاحتلال، ومنها سببه الأوضاع الاقتصادية المتردية في الأراضي الفلسطينية، ومنها عدم وجود قوانين رادعة، وسنتطرق هنا الى قوانين الردع، والردع هنا لا يعني العنف الجسدي أو اللفظي، فكثير من الطلاب وأولياء أمورهم فهموا قانون "عدم تعنيف الطالب" بطريقة معكوسة ومغلوطة، وفهموا أن عدم تعنيف الطالب يعني اعطاء الضوء الأخضر للطالب بتعنيف المعلم، وعدم احترامه، وعدم الالتزام بالدّوام المدرسي وغير ذلك، وفهموا أن كلّ شيء مباح للطالب حتى يكمل مرحلة التعليم الالزامي، و"أنّ القانون يحميه" وأنّ المعلم ملزم بقبول مسلكيات وتصرفات الطالب حتى لو تعرض لاعتداء جسدي من الطالب أو من بعض ذويه، وإلا فانه قد يفقد وظيفته، وقد يُجرّ الى المحاكم بعد تقديم شكوى للشرطة، عدا العطاوي والصلحات العشائرية وتبويس اللحى.
وآمل هنا أن لا يفهمنّ أحد أنني أدعو الى إعادة معاقبة الطلاب بالتعنيف الجسدي أو اللفظي، أو فصل الطلبة المشاغبين في مرحلة التعليم الالزامي، كما كان يحصل مع أبناء جيلي في خمسينات وستينات القرن الماضي. بل أدعو الى وضع قوانين صارمة وتنفيذها على أرض الواقع لضبط مسيرة التعليم، وقد سبقتنا الى ذلك الدول-أوروبا وأمريكا- التي قلدناها في قانون"عدم جواز تعنيف الطلاب" فقد رافق تلك القوانين قوانين رادعة ضبطت العملية التعليمية دون تعنيف، وبذلك تقدّم التعليم عندهم ويتطوّر باستمرار لافت، وكانت النتائج نبوغ العلماء وما واكب ذلك من ثورة علميية تكنولوجية أذهلت العالم.
وسأعطي أمثلة على ذلك مما شاهدته من قوانين تعليمية في أمريكا أثناء زيارتي لإخوتي هناك، وتحديدا في مدينة شيكاغو، التي يبلغ عدد الطلاب فيها أكثر من التعداد السكاني لشعبي جميعه، فقبل حوالي عامين كان علاء ابن شقيقي داود في الصف التاسع، في مدرسة نموذجية، تبعد عن بيته حوالى 3 كيلو متر، وفي الحيّ الذي يسكنه"بريدج فيو" وسكانه في غالبيتهم من المغتربين العرب وبعض المسلمين، واصطفّ علاء –في الحيّ وليس في المدرسة-مع ثلاثة أطفال عرب من جيله في مشاجرة صبيانية على زميل لهم من أصول تركيّة وبطحوه أرضا، وفي اليوم التالي تقدم الطالب تصحبه والدته بشكوى الى إدارة المدرسة، فأوقفت الادارة علاء وزملاءه عن المدرسة لمدة شهر حتى تبحث القضية، وعقدت جلسة تأديبية للطلبة حضرها مديرة المدرسة، والباحثة الاجتماعية، وضابط السلوك، وممثل عن مديرية التعليم، وممثل عن لجنة أولياء الأمور، وممثل عن البلدية، وطُلب من أولياء الأمور احضار محامٍ للدفاع عن الطلبة المتهمين بممارسة العنف ضد زميل لهم خارج حرمة المدرسة، وبعد الجلسة التأديبية التي حضرها محامٍ عن علاء تقاضى ألفي دولار، صدر القرار محذرا من خطورة الموقف، وبالتالي: نقل الطلبة"المعتدين" الى مدارس داخلية في ولاية أخرى، أو أن ينقلهم ذووهم الى مدارس خارج المقاطعة التعليمية لمدة سنتين، وتبين أن المدرسة الداخلية تقع في معسكر تدريب للجيش، وتطبق على الطلبة فيها القوانين العسكرية ومنها، اجبار الطالب في الخامسة صباحا ، على الركض مسافة أربعة كيلو مترات، واختار شقيقي داود –رأفة بابنه- أن ينقله الى مدرسة تبعد عن البيت أكثر من 40 كيلو متر، وكان يستيقظ في السادسة صباحا كي يوصل ابنه الى المدرسة، وليذهب بعدها الى عمله، وعند انتهاء الدوام المدرسي كان يترك عمله ليعيد ابنه من المدرسة.وعلاء الآن يتعلم في مدرسة ثانوية تبعد عن البيت حوالي كيلو متر، ويدرس فيها حوالي 3000 طالبة وطالب، والتعليم فيها هادئ ومنتظم مثل بقية المدارس، وهي لا تتهاون في أيّ صغيرة أو كبيرة، وفي بداية العام الدراسي الحالي كنت هناك، واتصلت موظفة من إدارة المدرسة بشقيقي داود تخبره عن مخالفة قام بها ابنه علاء، وتكرارها سيوجب عقابه، والمخالفة كانت أنّ علاء أخذ معه الكتاب المقرّر لإحدى المواد الدراسية ونسي أن يأخذ معه الدفتر.
وعلمتُ بمخالفة أخرى وهي أنه تم توزيع ساندويتشات"هامبورغر"على الطلبة في وجبة الغداء، وأحدهم فلسطيني مسلم، وبعد أن أكل لقمتين سأل المعلمة إذا ما كانت اللحمة لحم خنزير، فأجابت بالايجاب...فألقى الساندويتش في سلة القمامة وصاح في وجه المعلمة: لماذا فعلتموها؟ ألا تعلمون أنني مسلم وأن لحم الخنزير حرام؟ ففصلوه من 22-5 حتى نهاية العام الدراسي لأنه صرخ في وجه معلمته، وسمحوا له بالعودة لتقديم الامتحانات النهائية، مع حرمانه من علامة الواجبات المنزلية وهي 40% من مجموع العلامات، ولولا حذر ادارة المدرسة من اعتبار القضية عنصرية دينيه لفصلوه كليا. ولولا أن الطالب مجتهد لرسب في صفّه.والأمثلة كثيرة، لكنها تأكيد على ضبط العملية التعليمية في مدارس طلابها بالآلاف وينحدرون من أصول مختلفة وثقافات مختلفة. وأن أولياء الأمور يراقبون أبناءهم الطلبة ويوجهونهم باستمرار خوفا من الوقوع في المحظور. فلماذا لا توجد عندنا قوانين رادعة للحفاظ على مسيرتنا التعليمية؟
التعليم مرّة أخرى
لا يمكن التعامل مع التعليم والمؤسسة التعليمية بشكل عادي، فبالتعليم تنهض الشعوب والأمم، ولا شكّ أن الفارق بيننا وبين الشعوب المتقدمة هو فارق علمي، والشعوب المتقدمة علميا متقدمة في بقية مناحي الحياة المختلفة، كما أن أحد أسباب الهزائم التي نعيشها، والتي أضعنا فيها أوطانا، وخسرنا فيها أنهارا من الدماء الزكية هو الجهل وعدم التقدم العلمي، ولإغراقنا في الجهل فقد حولنا الهزائم الى انتصارات، وبرأنا أنفسنا من أسباب ذلك، وحملنا المسؤولية لغيرنا... والحديث هنا يطول ولسنا في مجال بحثه.
وما يهمّنا هنا هو التعليم الالزامي وكيفية الحفاظ عليه وتطويره، ولا بدّ هنا من التذكير بأهمية فاعلية أطراف العملية التعليمية وضرورة تشابكها لنجاح عملية التعليم، فالتعليم يقوم على التعاون بين الادارات المدرسية وبين أولياء الأمور، واذا كنا نصرّ على ضرورة وجود إدارات وهيئات تدريسية مؤهلة وذات كفاءة، إلّا أن هذا يتطلب أن يصاحبه قوانين تعليمية رادعة، وأولياء أمور معنيون بتعليم أبنائهم، ومن يتجول في محيط غالبية مدارسنا وخصوصا في القدس، سيجد طلابا من مختلف الأعمار يتسكعون في الشوراع في ساعات الصباح بعد قرع جرس بدء الدوام الدراسي، وبعضهم قد يضيّع أكثر من حصة دون اكتراث، ودون خوف من عقاب، وبعض الأطفال يخرجون من بيوتهم الى المدرسة بعد الثامنة، علما أن بيوتهم لا تبعد كثيرا عن المدرسة، فأين أمّهاتهم وآباؤهم؟ وما هو دورهم وحرصهم على تعليم أبنائهم؟ وبعض الطلبة في الاعدادية والثانوية يتسكعون في الطرقات يدخنون ويلهون، وإدارات المدارس ممنوعة من عقابهم، وأولياء أمورهم لا يهتمون بسلوك أبنائهم. بل إن بعض أولياء الأمور لا يعرفون الصّفّ الدراسي الذي وصل اليه أبناؤهم وبناتهم، وبعضهم يذهب الى المدرسة في نهاية العام الدراسي ليعتدي على المعلمين لأن ابنه أو ابنته رسب في الصف.
واذا ما دعت ادارة المدرسة الى اجتماع لأولياء الأمور لبحث قضايا تهمّ أبناءهم وبناتهم فان الاستجابة للدعوة شبه معدومة، وحتى في قضايا مخالفات الطلبة الفردية فان أولياء الأمور لا يستجيبون لدعوة اداراة المدرسة لبحث مخالفات ابنهم، ويصاحب ذلك عدم وجود قوانين رادعة ونافذة لمخالفات الطلبة، وكأن الالتزام بالدوام المدرسي، واحترام النظام والقانون أصبحت غير مهمّة، وحتى أن هناك طلبة يقومون بتكسير ممتلكات المدرسة من أبواب ونوافذ ومقاعد وغير ذلك دون رادع.
ومن اللافت والمؤسف أن بعض الطلبة يحملون في حقائبهم سكاكين وغيرها من الأدوات الحادة ليعتدوا بها على زملائهم، وهذه يأتون بها من بيوتهم، فأين دور الآباء والأمهات؟
وكثير من الطالبات والطلاب وفي مراحل عمرية مختلفة يحملون هواتف نقالة"بلفونات" علما أنهم ليسوا بحاجة لها، فمدارسهم لا تبعد كثيرا عن بيوتهم، ويستعملونها في الصف لسماع الأغاني، أو لإرسال الرسائل الصامته لبعضهم البعض، ولا ينتبهون للمعلم، وما يتبع ذلك من فشل في الدراسة، قد يصل الى التسيّب من المدرسة ليزداد عدد العاطلين عن العمل، وغير ذلك.
وبالتأكيد فان إدارات المدارس وهيئاتها التدريسية غير قادرة على ضبط العملية التعليمية بدون تعاون أولياء الأمور.
واذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فإن وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، والمؤسسات والجمعيات والأندية مطالبة بتوعية الجمهور حول أهمية التعليم، وحول المطلوب منهم للحفاظ على أبنائهم لتكميل دراستهم وللالتحاق بالجامعات، وكذلك لخطباء المساجد دور في هذا المجال، فبدلا من التركيز على زواج القاصرات وشتيمة من يخالفون الخطيب في الرأي، حبّذا لو يتم التركيز على التعليم وأهميته، لأنّ التعليم الصحيح هو مكمن الدواء لمشاكلنا على مختلف الصعد.
ولمّا كان البعض يطالب الجامعات بتخفيض معدلات القبول في مختلف الكليات، فيا حبّذا لو أنّهم يحرضون الطلبة على الاجتهاد ليحصلوا على معدلات عالية تؤهلهم للالتحاق بالجامعات.
كي تكتمل العملية التعليمية
طرحنا في الحلقات الثلاثة الماضية ضرورة التزام الطلبة بالدوام المدرسي والالتزام بالنظام، والحفاظ على ممتلكات المدرسة، والتعاون بين إدارات المدارس والهيئات التدريسية من جانب، وأولياء الأمور من جانب آخر، ورغم النواقص الموجودة في مدارسنا ودورها في إعاقة العملية التعليمية مثل: عدم وجود ملاعب في غالبية مدارسنا، وعدم وجود غرف صفيّة لائقة، وعدم وجود مختبرات ومكتبات ووسائل ايضاح، إلّا أن هذا يجب أن لا يمنعنا من تعليم بناتنا وأبنائنا ضمن الظروف المتاحة لنا، مع العمل على تحسين هذا المتاح حتى نصل الى ما نصبو اليه، وقد طرح أستاذنا عبد المجيد حمدان مشكورا قضية التعليم بالاقناع وليس بالتلقين في تعقيبه على الحلقة السابقة، وهذه قضية مهمة تحتاج الى نسف أساليب التعليم القديمة، لنتساوى مع الشعوب المتقدمة، والتي تسير فيها العملية التعليمية بشكل رائع، وبالتالي فإن ارتفاع مستوى التعليم فيها ملحوظ بشكل لافت، ويصل الطلاب فيها الى الجامعات بمستوى جيد جدا، وحتى أن المناهج الجامعية وطرق التدريس في جامعاتهم تختلف عمّا عندنا كثيرا، وعلينا الاعتراف بأن خريجي جامعاتهم مؤهلون ويمسكون نواصي العلم أكثر من خريجي جامعاتنا، ولذلك أسباب عديدة، ومنها التعليم بالاقناع وطرق البحث العلمي وليس بالتلقين كما هو عندنا، وقد يستغرب بعضنا أن تكليف الطالب بعمل أبحاث في الدول المتقدمة تبدأ من الصف الابتدائي الأول بما يتلاءم وعمر الطالب ومرحلته التعليمية، وعمل الأبحاث يعني تحريض الطالب على استعمال العقل والتفكير، وزيادة المعلومات، لذا فان الوظيفة المنزلية التي تعطى للطالب قد تتفوق على المنهاج الدراسي المقرر، ولها 40% من المعدل السنوي العام. أي أن الطالب الذي لا يقوم بالواجب البيتي الذي يكلفه به المعلم سيرسب في صفه حتما، واذا ما بحث الطالب عن المعلومة بنفسه، فانها ستترسخ في عقله ويصعب عليه نسيانها، وهذا يقودنا الى قضية تعزيز المعلومة بمكافأة الطلبة المتفوقين خصوصا في أبحاثهم، فلا غرابة مثلا أن تجد في شهادات الطلبة النهائية معدلات لبعض المواد أكثر من الحدّ الأقصى، كأن تجد معدل طالب في الرياضيات مثلا 120%. وفي المرحلة الثانوية تجد طلابا قد أنهوا أكثر من 15 ساعة معتمدة للجامعة قبل التحاقهم بها، وهذا ما شاهدته بنفسي في أمريكا. والتعليم بالاقناع يصاحبه منهاج دراسي ملائم، ومن المحزن أن ترى أطفالا في مدارسنا يحملون حقائب مدرسية قد تفوق قدرتهم الجسدية في حملها، فالكتب المقررة مضخمة وفائدتها قليلة، بينما في الدول المتقدمة يركزون على المعلومة المفيدة وليس على عدد صفحات الكتاب، وقد يفاخر البعض منا بأنه يعرف على سبيل المثال أسماء عواصم مختلف دول العالم، دون أن يسأل أيّ منا نفسه عن الفائدة المرجوّة من تلك المعرفة، فهل يعلم العارفون منا أن الطالب الأمريكي ينهي الثانوية العامة وكل ما تعلمه من التاريخ لا يزيد عن أربع صفحات تتعلق بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، مثل سنة استقلالها وحدودها ومساحتها وعدد ولاياتها...الخ. بينما تجده يعرف في العلوم أضعاف ما يعرفه خريج مدارسنا. وفي الجامعة يعطى كلّ تخصص حقه في التوسع المعرفي.وسيكون لنا حديث عن المناهج الدراسية أيضا.
مناهجنا التعليمية
وإذا أراد المتابع المهتم أن يرى مدى عقم مناهجنا التعليمية، فهذا يتطلب منه أن يطلع على على نماذج من المناهج المطبقة في الدول المتقدّمة في مختلف المجالات، مع التأكيد على أن التعليم في بلداننا نحن العربان يعاني من مشاكل متداخلة، ما أن تخرج من إحداها حتى تدخل ما تلاها وهكذا الى أن تعود الى النقطة التي انطلقت منها، فمناهجنا مضخمة والنتائج المرجوّة منها غير مدروسة، وفي غالبيتها لا تتطوّر مع تطوّر الحياة، فمثلا مادّة التاريخ العربي تتكلم عن الدّولة الاقليمية، ولا تقدّم للطالب أن الوطن العربي دولة واحدة تقاسمها الغزاة الأوروبيون، ففي الشمال الافريقي استولى البريطانيون على مصر والسودان، واستولت فرنسا على دول المغرب العربي"تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا" في حين استولت ايطاليا على ليبيا، وفي المشرق تقاسمت فرنسا وبريطانيا منطقة الهلال الخصيب وبلاد الشام تنفيذا لاتفاقات سايكس بيكو عام 1916، فاستولت بريطانيا على العراق والأردن وفلسطين، في حين استولت فرنسا على سوريا ولبنان، كما احتلت بريطاني الساحل الجنوبي للجزيرة العربية فيما يعرف الآن جنوب اليمن، قطر، عمان، البحرين، والامارات العربية المتحدة. وتبع ذلك في تشرين الثاني-نوفمبر- 1917 صدور وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان لهم ذلك في 15-5-1948 حيث تمّ الاعلان عن قيام دولة اسرائيل، وبدلا من ترسيخ فكرة الدولة العربية الواحدة هناك وصف لبعض الشعوب العربية الصغيرة بأنّها أمّة! وهذه عملية تعليمية تضليليّة وتجهيليّة للطالب، تكرّس الاقليمية والتشرذم.
أمّا المواد العلمية فتكاد تكون أمرا ثانويا في مناهجنا، ونحن هنا –أقصد العربان- نغرّد خارج السرب، فكثير من "مفكّرينا" خصوصا "المتأسلمين الجدد" يعتبرون العلوم الشرعية أساس العلوم، في حين أنّ العالم جميعه يعتبر الرّياضيات أساس العلوم، فلذلك هم غزوا الفضاء الخارجي، وداسوا وجه القمر بأقدامهم ورفعوا أعلامهم عليه، وهم في طريقهم لاستيطان المرّيخ، بينما نحن نسبح في بحور الجهل، ونخرج من دنيانا فقراء مهزومين تفتك بنا الأمراض، راضين بذلك على أمل النّعيم الذي ينتظرنا في جنّة الحياة الأخرى التي لا يعلم كنهها إلّا الله. ولم يتساءل "مفكّرونا" عن أسباب التقدم التكنولوجي الذي تعيشه الدول المتقدمة، تماما مثلما لم يتساءلوا عن أسباب التقدّم الاقتصادي الهائل في الدول المتقدّمة، فدولة مثل بلجيكا لا يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين شخص، ثرواتها تعتمد على صيد الأسماك وتصنيع الأخشاب من غاباتها، يعادل دخلها القومي دخل المملكة السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم. والحديث هنا يطول.
وإذا كان واضعو المناهج عندنا لجنة يتم اختيارها من وزارات التربية والتعليم، وتلتزم المدارس جميعها في الدولة بتعليم هذه المناهج، فإن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تقسم الولايات الى مقاطعات تعليمية، وكل مقاطعة فيها لجنة لوضع المنهاج حسب الإطار التعليمي الذي يراه خبراء محترفون في الدولة، وتتابعه عاما بعد عام، بحيث أنّنا نجد أكثر من منهاج في الولاية الواحدة، وعند دراسة النتائج في نهاية كلّ عام دراسيّ تهتم الوزارة بالمناهج التي أثبتت جدواها وتقدّمها للمقاطعات التعليمية الأخرى للاستفادة منها دون فرضها عليهم، وهكذا تتم المنافسة الشريفة بين لجان وضع المناهج للوصول الى الأفضل.
ويلاحظ أن المستوى التعليمي العلمي لطلاب الصف الابتدائي السادس عندهم يفوق المستوى العلمي لطلاب القسم العلمي في مدارسنا الثانوية.
وعدم تجديد المناهج التعليمية عندنا كارثة حقيقية، فعلى سبيل المثال حتى ثمانينات القرن الماضي كان طلابنا يدرسون أن عدد سكان مصر هو ثمانية عشر مليون شخص، وهو عددهم قبل ثورة يوليو عام 1952.
وضخامة مناهجنا التعليمية، تثقل كاهل الطالب، جسديا ونفسيا، مع مردود معلوماتي قليل، ففي بداية العام الدراسي الحالي 2013 رافقت شقيقي داود مع ابنه علاء الذي يدرس في احدى مدارس شيكاغو في الصف الحادي عشر، سلّمت المدرسة علاء ستة كتب هي المنهاج المقرر لهذا العام الدراسي، وهي في عدد صفحاتها لا تساوي عدد صفحات الكتب المقررة للصف الابتدائي الثالث عندنا، مع الفارق في المضمون والمستوى.
أمّا وسائل التعليم المساعدة فحدّث ولا حرج، فمثلا عند تعليم الطلبة هناك عن الثروة الحيوانيّة في أمريكا مثلا، فإنّه يظهر للطلاب على لوحة فلما يبثه "بروجيكتور" تظهر عليه خارطة الولايات المتحدة، وتظهر الحيوانات في أماكن تواجدها تمارس حياتها الطبيعية، وكأن الطلاب يشاهدونها على أرض الواقع، وكذلك بالنسبة للأنهار ومصادر المياه من أنهار وبحيرات والثروة الزراعية وغيرها، وكذلك بالنسبة للمواد العلمية، فطلاب الصف الابتدائي الثالث مثلا يدرسون مبادئ الطاقة، وكيف تتحول من شكل الى آخر، وتقدمها المعلمات للطلبة مع التطبيق العملي على أجهزة مخصّصة وموجودة في المدرسة.
وقد فوجئت هذا العام بوجود مادة إضافية لطلبة الصف الحادي عشر في أمريكا تتعلق بالعلاقات العامة واللياقة في التصرفات، مثل كيف تجلس على طاولة السفرة وأين تضع الملعقة والشوكة والسكين، وفي أيّ يد تحمل كلّا منها، وكيف تقدّم "المملحة"لمن يشاركك المائدة إذا ما طلبها منك، حتى أنّ علاء بن شقيقي داود قال لي بأنهم يعلموننا كيف نحكّ رؤوسنا، أو كيف ننظف أنوفنا؟ وكيف نخاطب والدينا وإخوتنا ومعلمينا ومديرنا، وكيف نسير بصحبة أيّ منهم. إنّهم يعدون الطلبة للدخول الى مجال الحياة....وهكذا. فلماذا لا توجد أمور كهذه في مدارسنا؟ والحديث يطول.
ماذا نوفّر لأبنائنا الطلبة؟
مع أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، خصوصا في فلسطين المحتلة، إلّا أن هذا لا يعني أننا يجب أن نبتعد عن الصحيح، فبناتنا وأبناؤنا الطلبة محرومون من كلّ محفزات التعليم، فغالبية المدارس لا يوجد لها أبنية نموذجية مخصصة للدراسة، وهناك صفوف دراسية في غرف مستأجرة هي في الأصل مخصّصة للسكن وليس للتدريس، ولا يوجد ملاعب حتى للاصطفاف الصباحي، ولا توجد مختبرات ومكتبات مدرسية، ولا يوجد وسائل ايضاح، عدا عن المناهج غير الملائمة، والأمن الشخصي في فلسطين غير متوفر للطلبة في بيوتهم أو مدارسهم أو في الطريق ما بين البيت والمدرسة، وهناك مطالبة بل تطبيق لليوم الدراسي الطويل من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر، مع أن غالبية الطلبة لا يتوفر له ثمن "ساندويش فلافل" مما يبقيه جائعا حتى عودته الى البيت، ولا يتوفر له تدفئة في الشتاء، أو تهوية في الصيف.
وجزء من المعلمين غير مؤهل للتدريس، وغير متمكن من أساليب التدريس، وهكذا...ومع ذلك نطالب بناتنا وأبناءنا بالابداع والتفوق، فهل طلبنا قابل للتحقيق في ظلّ كلّ ما ذُكر؟
ولكي نقف على حقيقة وضعنا التعليمي المأساوي سأجري مقارنة مع دول متقدمة، فعلى سبيل المثال: لي قريب درس الاقتصاد في احدى الجامعات الأمريكية في شيكاغو، وفي السنة الدراسية الأولى وهي سنة تحضيرية حصل على العلامات كاملة دون نقصان، مما لفت انتباه أساتذته، خصوصا وأن معدله في الثانوية العامة كان 73% فقط حيث تخرج من احدى مدارس القدس الخاصة، فقررت ادارة الجامعة دراسة أسباب عدم حصوله على معدل عال في الثانوية العامة، فأرسلوه الى مدرسة مختلطة نموذجية، وطلبوا منه الدوام في الصف الثاني عشر خمسة أيام في الأسبوع بعد أن أمنوا له المبيت والطعام في فندق خمسة نجوم، وفي الأسب,ع الثاني أخذوه للدوام في الصف الثاني عشر في مدرسة بنات تشرف عليها كنيسة، وبعدها أعطوه نموذجا فيه 400 سؤال ليختار الاجابة الصحيحة من أربع إجابات للمقارنة بين المدرستين اللتين داوم في كل واحدة منهما خمسة أيام، وبين المدرسة التي درس الثانوية فيها في مدينة القدس المحتلة. وبعد ذلك درسوا الأسباب وخلصوا بالنتائج بأن مدارسنا غير مؤهلة للتدريس من جميع النواحي، وأنه لا ينجح فيها الا الطلبة النوابغ لعدم توفر أسباب النجاح.
وقد زرت أكثر من مدرسة في شيكاغو للاطلاع على الفوارق بين مدارسنا ومدارسهم، وقد حفزني على ذلك قبل أكثر من أربعة عشر عاما عندما جاءت رسالة من إدارة مدرسة يدرس فيها ابن شقيقتي فاطمة تطلب أحد الوالدين الى المدرسة لأمر يتعلق بابنهم، وكان في الصف الابتدائي الأول، فذهبت بصحبة شقيقتي لأتفاجأ بأن طلب الادارة كان يتمحور على عدم قبول ابن شقيقتي تناول وجبة الافطار في المدرسة، حيث أنه يتناولها في البيت لعدم علم والديه بأن المدرسة تقدّم إفطارا، وعجبت أنها تقدم وجبة غداء أيضا، وأن المدرسة لها ملاعب واسعة جدا، وفيها موقف يتسع لمئات السيارات، ولفت انتباهي أن الطابق الأول مجرد قاعة كبيرة في صدرها مطبخ ومكان للطعام، والبقية ليلعب فيها الأطفال في الأجواء الباردة، وفي الوسط هناك طاولات عليها دفاتر وأقلام ليأخذ الطالب منها حاجته مجانا، وأن مساحة كل صف 64 مترا مربعا، وفي حائطيه الجانبيين صفّ من النوافذ، وهو مجهز بأجهزة تكييف للبرد وللحرّ، ولا يجوز أن يزيد عدد طلاب الصف عن 27 طالبا، وأن هناك معلمين تزيد خبرتهم التعليمية عن عشر سنوات لتقوية الطلبة ضعاف التحصيل في أيّ مادة دراسية. ولفت انتباهي أن المدارس مخصصة لكلّ ثلاث سنوات دراسية لتكون أعمار الطالبات والطلاب متقاربة منعا لاستغلال الكبار للصغار، فمثلا هناك مدارس من الصف الأول الابتدائي الى الثالث ومدارس أخرى للصفوف من الرابع حتى السادس ودواليك.
وفي المرحلة الابتدائية هناك رحلتان مجانيتان سنويا في سيارات تتسع لخمسة وعشرين شخصا، ويحق للطالب أن يصطحب أحد والديه أو كليهما معه، وتقدم لهم وجبتا افطار وغداء، في الأولى يتعرفون على ملامح مدينة شيكاغو التي تبلغ مساحتها 28 الف كيلو متر، وفي الثانية يتعرفون على مناطق أخرى في ولاية الينوي التي تقع فيها شيكاغو، وفي المرحلتين الاعدادية والثانوية يزور الطلاب ولاية أخرى.
ومن خلال أسئلتي عن وجبات الطعام، وجدت أن الطلبة الفقراء يعفون من ثمن الوجبة الرمزي في مختلف المراحل التعليمية، بينما أبناء الأثرياء يدفعون مبلغا رمزيا لوجبة الغداء في الثانوية، فعلاء بن شقيقي داود الطالب في الصف الحادي عشر هذا العام الدراسي 2013-2014 يدفع دولارين ونصف ثمن وجبة الغداء؟
ورغم اتساع الملاعب اللافت فان الطلاب لا يصطفون في الصباح كما يحصل عندنا، بل يدخلون الى صفوفهم فور سماعهم صوت الجرس، ولا ينشدون للزعيم ولا يقرأون الفاتحة كما يحصل في مدارسنا.
ونظرا للقوانين التعليمية الصارمة والعادلة التي تربّى الطلاب وأولياء أمورهم على احترامها، فان التعليم يسير على ما يرام، فمدرسة علاء بن شقيقي داود فيها ثلاثة آلاف طالبة وطالب ثانوي، وتديرها سيّدة وغالبية هيئتها التدريسية نساء، وهي مدرسة مختلطة، ومع ذلك لا مشاكل ولا فوضى فيها.
المعلمون في مدارسنا
هناك مثل بريطانيّ يقول:"المعلم يولد معلما" “Teacher is born” فهل ينطبق هذا على أبنائنا وإخوتنا المدرسين؟ ويقول الباحثون التربويون أنه يجب أن تتوفر في المعلم ثلاثة أشياء هي: قوّة الشخصيّة، التحصيل العلمي والأسلوب، فاذا كان المعلم مؤهلا علميا وشخصيته ضعيفة أو لا يملك أسلوبا لايصال المعلومة للطالب، أو كلتيهما معا، فانه لن يستطيع القيام بواجبه، وإن توفرت هذه الشروط في المعلم فهل نوفّر له حياة كريمة كي يقوم بواجبه على أكمل وجه؟ فهل نحسن اختيار معلمينا؟ وهل هناك دورات متخصصة لتأهيل المعلمين؟ وهل رواتب المعلمين تفي لسدّ احتياجات أسرهم؟
في خمسينات وستينات القرن العشرين وما قبلهما كان للمعلم مكانة مرموقة، وكان دخله الشهري يفوق دخل عامل في السّنة، وكان المعلم يستطيع أن يبني بيتا، وأن يتزوج من خيرة الصبايا، ومن صبايا ذات جمال وحسب ونسب، بل إن ثقافتنا الشعبية كانت تتغنى بالمعلم، وكانت نساؤنا وأخواتنا وبناتنا يغنّين للعروس ليلة زفافها:
فوق راسك يا فلانه صحنين كزاز
يا هيبه ع عريسك هيبة استاذ
وحتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي تغنّى بدور المعلم في قصيدته الرائعة التي أنشدها في عشرينات القرن الماضي والتي مطلعها:
قم للمعلم وفّه التبجيلا...كاد المعلم أن يكون رسولا
وكانت الأمّهات والزوجات يفاخرن بأن أبناءهن وأزواجهن يعملون مدرّسين، أمّا هذه الأيام فقد انعكست الأمور، فقد تدنّى الوضع الاجتماعيّ للمعلم، وأصبح دَخْلُ العامل أضعاف دخل المعلم، بل إنّ مداخيلل المعلمين متدنّية الى درجة تجبر بعضهم على ممارسة عمل آخر لا يتناسب ومهنته، كأن يعمل سائق سيارة فورد، وقد يحمل بعض طلابه مقابل حصوله على شاقل أو شاقلين من كلّ واحد منهم، مما يفقد المعلم هيبته أمام طلابه تحت ضغط الحاجة. ومع ذلك نطالب مدرّسينا بأن يقوموا بواجبهم على ما يرام.
وعدم مساواة أجور المعلمين بأقرانهم ممن يحملون نفس المؤهلات ويعملون في وزارات أخرى بدرجة مدير فما فوق، خلق مشاكل اجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة.
في حين أن رواتب المعلمين في الدول المتقدمة رواتب مجزية تفي باحتياجات المعلم، فعلى سبيل المثال فان رواتب المعلمين في اسرائيل التي تحتلنا، والتي أهلكت البلاد والعباد، ودمّرت اقتصادنا، والتي جرت مساواتها بأجور المهندسين منذ العام 1982 تساوي ثلاثة أضعاف رواتب معلمينا في مدارس الضفة الغربية وقطاع غزة.
ونتناسى بأنه يجب تقديم حوافز للمعلم حتى يستطيع القيام بواجبه، وحتى يستطيع استكمال دراسته ليعزز قدراته العلمية.
يضاف الى ذلك أن بعض المعلمين يجبرون على تعليم مواد غير المادة التي درسوها في الجامعة، وهم يقبلون ذلك حرصا منهم على الحفاظ على وظيفتهم، ولعدم استغنائهم عن الراتب الذي لا يسدّ رمقهم نهاية كل شهر. وهذا يؤثر سلبا على آداء المعلم، وينعكس سلبا أيضا على الطلبة.
مواهب وإبداعات طالبات وطلاب المدارس
وفي محاولتنا المتواضعة لتشخيص الوضع التعليمي في بلادنا، وما يعانيه من مشاكل وعوائق لها تأثيراتها السلبية على حاضرنا ومستقبلنا، نجد أن لا مناص من التطرق الى إبداعات الطلبة الموهوبين التي يجري قبرها وهي في المهد لعدم وجود من يتبنّاها، مع التأكيد على أن الابداع لا يحظى بأيّة رعاية أو تشجيع، وأنّ معاناة المبدعين تفوق معاناة الآخرين، ونعني بالابداع هنا هي المواهب الأدبية من شعر وقصّة ورواية ومسرحية ونقد أدبي والفنون التشكيلية والنحت والتمثيل المسرحي والسينمائي والغناء وغيرها، ويحضرني هنا ما قاله أحد كبار الكتاب المصريين مازحا في حضرة ضيوفه الكتاب، عندما دخلت طفلته بنت الثلاث سنوات صالة الضيوف، وشرعت تلهو راقصة...فقال لها: ارقصي يا بنت الكلب ع شان تعيشي، فدَخْلُ راقصة عارية في ليلة واحدة يزيد عن ضعف دخل والدك طوال حياته!