نشر بتاريخ: 30/08/2015 ( آخر تحديث: 30/08/2015 الساعة: 11:16 )
الكاتب: د.احمد يوسف
في ذكرى مرور عام على انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كانت لنا زيارة لمنطقة الشعث بجانب جبل الصوراني في حي الشجاعية، والتي سطرت فيها المقاومة الفلسطينية ممثلة بكتائب الشهيد عز الدين القسام أروع صفحات البطولة والمجد، حيث كانت أولى المعارك والالتحامات البرية من نقطة الصفر، والمفاجأة التي أذهلت العدو بمواجهته من خلف خطوطه الآمنة، والانقضاض عليه من كل الجوانب؛ فوق الأرض وتحت الأرض، واختطاف أحد جنوده "آرون شاؤول"، مما أفقده صوابه، وأربك حسابات قادته العسكريين، ودفعهم الجنون لاعتماد سياسة الأرض المحروقة (هنيبعل)،وتوجيه أطنان القنابل من الطائرات، وحمم القذائف من المدافع والدبابات لتسوية المنطقة المكتظة سكانياً بالأرض، وجعل عاليها سافلها، بحيث لا ترى فيها غير الركام وأنقاض المباني، ولا تشتمَّ منها إلا رائحة الموت.
كان حجم الدمار في منطقة الشعف شرق حي التفاح مهولاً، وارتكبت إسرائيل - هناك - جرائم حرب، وجرائم بحق الإنسانية، وانتهكت كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية..ومع ذلك، وبعد كل ما فعلته من قتل ودمار، وما قامت به مجازر، خرج جيشها مذموماَ مدحوراَ؛ مطأطأ الرأس يجر أذيال الخيبة والهزيمة.
ستبقى ملاحم البطولة في الشجاعية والمنطقة الشرقية في رفح، وكذلك في منطقة الزَّنة وعبسان، وخطوط التماس في المنطقة الوسطى وبيت حانون، هي لوحات عزٍّ ومآثر مجد شرف لمقاتلي كتائب القسام وسرايا القدس، حيث قاتلوا ببسالة رغم غياب تكافؤ الإمكانيات، ونجحوا في تلقين جيش الصهاينة المعتدين دروساً في فلسفة التضحية والفداء، وصناعة النصر والاستعلاء، وكان الشعار الذي لازم تحركاتهم الجبارة، وجسَّدوه بكل نشوة وجسارة، هو: "احرص على الموت توهب لك الحياة".
لم تقتصر بطولات المقاومة الفلسطينية في التصدي لجيش الاحتلال ودحره، بل سجلت بطولات رائعة في عملياتها العسكرية النوعية خلف خطوط العدو، وخاصة في زكيم، وفي أبو مطيبق، وفي نحل عوز...الخ
استمرت المواجهات المسلحة واحداً وخمسين يوماً، لم يتوقف الطيران الإسرائيلي فيها لحظة واحدة عن استهداف كل مناطق قطاع غزة، بحيث لم يعد هناك مكانٌ آمنٌ لأحد؛ فالمساجد وعمَّارها وكل من لجأ إليها طالته حمم الموت والدمار، وتهدمت العشرات منها على رؤوس المصلين فيها، والمدارس التي ظن الناس أنها مثابة لهم وأمنَّا لم تسلم هي الأخرى من القصف، حيث قتل الكثير ممن لجأوا إليها، وجرح المئات منهم، وكذلك كان الاستهداف للمستشفيات، حيث سقطت على الجرحى والمصابين فيها قذائف المدفعية والدبابات. لقد ألقت إسرائيل بكل أسلحتها ونخبها العسكرية إلى المعركة، والتي أرادتها أن تكون فاصلة بهدف كسر شوكة المقاومة الفلسطينية، وخاصة كتائب الشهيد عز الدين القسام، ولكن الله (عزَّ وجلَّ) أراد بهؤلاء الرجال الأشاوس أن يُحقَّ الحق ويبطل الباطل، وأن تُطوى صفحة الادعاء الكاذب لأسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، حيث نجحت المقاومة في قهره، وتمريغ أنفه في التراب، وردَّسبحانه وتعالى بهؤلاء الرجال من نخبة القسام وسرايا القدس المعتدين على أعقابهم خاسرين.
كانت ساحة المعركة في الشجاعية مفتوحة على كل الاحتمالات، ولكنَّ المقاومة حسمتها بتسجيل النصر، الذي جعل العدو الإسرائيلي يرتد على عقبيه، ويدرك ما تعنيه كتائب القسَّام بمقولتها: "إنَّا اعددنا لكم".
كانت زيارتي في ذكرى مرور عام على انتهاء الحرب هي بغرض إجراء مقابلة تلفزيونية مع فضائية الميادين،وهي لم تكن الأولى– بالطبع - لتلك المنطقة، إذ سبق لي أن قمت بأكثر من جولة هناك، مصطحباً بعض الوفود الأجنبية خلال فترة التهدئة، وبعد أن وضعت الحرب أوزرها، حيث تقاطرت أرتال الإعلاميين لقطاع غزة تبحث عن مشهد ورواية تسجل لهم قصب السبق. لقد وجد الكثير من هؤلاء الصحفيين بغيتهم، حيث إن حجم الكارثة والدمار كان فوق الخيال والتصور، حتى إن بعضهم بالرغم من انحياز محطاتهم الفضائية لإسرائيل إلا أنه أقسم أن يروي كل مشاهداته، وأن يكون صادقاً وأميناً في التغطية، وقد وجدت من بين هؤلاء من جعل الرواية الفلسطينية تتغلب وتنتشر رغم بساطة الإمكانيات، وتحيز الإعلام الدولي - بشكل عام - لإسرائيل.
محمد المغير: نموذج للصحفي المقاوم
إن المقاومة الفلسطينية لم تكن فقط هي هؤلاء المقاتلين الأبطال بزيهم وأسلحتهم العسكرية، بل هي أيضاً تلك الكاميرات التي كانت ترصد تحركات العدو وتسجل كل جرائمه، وهي كل هؤلاء الصحفيين الذين عملوا على مدار الساعة وخلال فترة الحرب يلاحقون كل قذيفة وانفجار، ويطلقون لعدسات الكاميرا العنان لتلتقط المشاهد بالصوت والصورة، حيث يتعذر على ماكينة الدعاية الإسرائيلية الانكار أوالتهرب من الملاحقة القانونية،وذلك عندما تبدأ المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بفتح ملفات الحرب العدوانية على قطاع غزة.
عندما كنت أقرأ يوميات الصحفي د. محمد المغير وهو ينتقي من خلال مشاهداته القصص المؤثرة، ويرسمها بقلمه وبعدسة الكاميرا التي كان يحملها بيده وسط الميدان، قلت لنفسي:إن هذا هو "الشهيد الحي"، فهو من أجل أن يصل إلى موقع الحدث كان يضع روحه على راحته، حيث يلاحق أصداء الانفجارات ليأتي بالروية التي شهدتها عيناه، لينقلها خلال ساعات إلى مسامع الجهات الدولية، حيث تتلقفها الصحافة الغربية، وتتوسع دائرة الحدث والتفاعل الإنساني معها.
ولعلي هنا أنقل بعض ما قالته الباحثة الأكاديمية في جامعة هارفرد الأمريكية؛ سارة روي، والتي قرأت كتاب د. المغير: "من هول القصف"، وعقبت بالقول: "إن الشهادات التي قدَّمها لم تكن فقط حول المعاناة المتفاقمة في غزة، بل كانت - أيضاً - حول صمود وشموخ أهل غزة. إن هذا الكتاب سيظل مع القارئ، وفي ذهنه، حتى بعد وقت طويل من مطالعته".
قبل أسبوع، شاركنا في حفل توزيع هذا الكتاب، والذي هوعبارة عن مجموع تلك اليوميات والمشاهدات التي سطرها د. المغير بقلمه، وأخذت طريقها لفضاءات الصحافة الغربية بمخزونها العاطفي من المواجع والأحزان، والتي جسَّدت صور الكارثة والبطولة لشعبٍ كتب بدمه ملاحم العزِّوالصمود وألحان المجد والخلود.
إن الصحفي الفلسطيني د. محمد المغير هو الآخر جندي مقاوم،ويستحق من قياداتنا السياسية أن تقدر تضحياته، وتمنحه كلمة الشكر على درع يشهد له بالتميز والإبداع، ويجعله يشعر بالعز والفخر بين أهله وأولاده؛ لأنه كان خلال الحرب "مشروع شهيد" يتقدم بكاميرته الصفوف كما المقاتل.
أتمنى على الأخ الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، والأخ الكبير إسماعيل هنية (أبو العبد)، دعوته، وتثمين جهده بلقاء وتحية، حيث إنه من غير اللائق أن يتلقى الشكر والتقدير في العواصم الغربية ولا يلقاه في بلاده.!!
لقد شاهدنا حفل توزيع الكتاب في فندق الروتس بغزة، حيث اكتظت القاعة بالمئات من الشخصيات الاعتبارية التي تمثل كل ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، وعبَّر الشارع الفلسطيني عن تقديره لذلك الصحفي/الجندي المجهول، الذي ظل يكتب عن معاناة شعبه وقضيته المأساوية باللغة الإنجليزية لسنوات طوال، وينجح في إيصالها للعالم الآخر، الذي اعتاد الإعلام الإسرائيلي احتكار الرواية فيه.
إن الصحفي القدير د. محمد المغير، والذي فتحت له الصحافة العالمية أبوابها للكتابة فيها، منحته وسام الصدق الجدارة ليكتب رواية شعبه ومعاناته تحت الاحتلال. لقد نجح في إيصال صوته وقلمه إلى العديد من وسائل الإعلام الغربية، وأخيراً منحته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إذن الدخول، وهي الصحيفة الأولى في أمريكا والتي لا يسمح محرروها - عادة - لأحد بتوجيه الانتقادلإسرائيل، وذلك لأن ما يكتبه د. المغير أصبح عليه إقبال في الغرب، كما أن سلعته الإعلامية دخلت سوق المنافسة في بورصات الرأي العام العالمي.
ومن الجدير ذكره، أنني عندما كنت أعيش في واشنطن العاصمة خلال حقبة التسعينيات، كنت أقرأ له وبإعجاب؛ لأنه أولاً من مدينة رفح التي هي بلدتي التي نشأت وترعرعت بها، وثانياً لأنه صغير السن، ويكتب بتميز وإبداع أثار احترامي وتقديري له.
لقد أدركت وأنا أقرأ التفاعل الكبير مع يومياته، أن هناك في المقاومة كما السيف مجال للقرطاس والقلم.
رجال القسام: براعة الأداء وصناعة المفاجأة
في برنامج "الصندوق الأسود - رفح الاتصال مفقود"، الذي بثته قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ 27 أغسطس 2015م، والذي قام بإعداده الصحفي المتألق دائماً تامر المسحال، حيث أظهر الشريط القسَّام في إحدى ابداعاته العسكرية التكتيكية، وطريقة تنفيذه للعملية البطولية "كمين أبو الروس"، التي جرت يوم الجمعة الموافق ... أغسطس 2014م، في المنطقة الشرقية من مدينة رفح، والتي جاءت روايتها على النحو التالي: اثنان من عناصر القسَّام بملابس مدنية يخرجون من نفق بالقرب من مركز تجمع للقوات الإسرائيلية، وذلك بهدف لفت أنظارتلك القوات الخاصة من لواء جفعاتي،حيث تتقدم عناصر من الوحدةلاعتقال الاثنين، وعند وصولهم تخرج لهم من تحت الأرض سرية من نخبة القسام،ترتدي زي الجيش الإسرائيلي وتقوم بالاشتباك معهم، فيقتل ضابطان، ويأسر القسَّام الضابط الإسرائيلي هدار جولدين..تقوم وحدة النخبة في القسَّام – بشكل متعمد- بترك جثة الشهيد "وليد توفيق مسعود" خلفها،وهوقائد ميداني في كتائب القسَّام، وكان يرتدي لباساً يحاكي لباس الجيش الإسرائيلي..كان الهدف – بالطبع - من ترك جثة الشهيد (رحمه الله) هو إيهام الجيش الإسرائيلي بعدم وجود أيٍّةمفقودين من جنوده،مما أعطي لوحدة القسَّام - التي أسرت الضابط- الوقت الكافي للانسحاب، وتأمين إخفائه، وتشتيت سيطرة الجيش الإسرائيلي على العمليات في الميدان.
بعد ساعتين من العملية، اكتشف الجيش الإسرائيلي وجود ضابط أسير من جنود قواته الخاصة، والتي نفذتها نخبة القسَّام في غضون خمس دقائق باحتراف وبمهنية عالية.
حتى اللحظة لا تعرف إسرائيل – بالطبع - ما هو مصير بعض جنودها المفقودين، وهل هم أحياء أم أموات.؟
وتأسيساً على ذلك، تبقى كتائب القسَّام هي المالك الحصري للرواية، وهي من يتحكم بالسعر المطلوب لعملية التبادل،بهدف إطلاق سراح أسرانا البواسل من السجون الإسرائيلية.
كتائب القسَّام: مفاجئات العصف المأكول
لاشك أن كتائب القسَّام قد فاجأت إسرائيل والعالم معها بعملياتها النوعية، كما أن الشارع الفلسطيني أذهلته مشاهدات الفعل المقاوم، ولم يُصدق أن كل هذه الحالة من القدرة والشموخ، والثقة والروعة القتالية،يأتي بها رجال القسَّام فيمعركة "العصف المأكول"، والتي تظهرحُسن الإعداد والتجهيز؛سواءفي العتاد أو في التكتيك العسكري، وهي كلها ماركة مسجلة من ابداعات القسَّام.. والتي عبرت عنها إحدى الصحف بالمفاجآت العشر التالية:أولاً) الجعبري يُبعث في سماء تل أبيب "صاروخ J80"؛ثانياً) الرنتيسي في حيفا.. صدق الوعد "صاروخR160"؛ ثالثاً)الغول.. البندقيةالوحش؛رابعاً)طائرات أبابيل.. السماءلناأيضا؛ خامساً)الضفادع البشرية.. كوماندوزالرعب البحري؛ سادساً)الأنفاق الهجومية.. نغزوهم ولايغزونا؛ سابعاً)الحرب الإلكترونية.. اسمعو امانقول؛ ثامناً) الساعة التاسعة.. موعدكم مع القصف؛ تاسعاً)المكتب الإعلامي.. إذاقال فصدقوه؛ عاشراً)نقطةالصفر.. لامفر.
هذه النقاط العشر هي عناوين يدرك الشارع الفلسطيني معناها بمنتهى الصراحة والوضوح،وهو الذي كبرت في عينيه صورة المقاومة وفرسانها الأشاوس، والتي عكست بأدائها البطولي وإبداعاتها القتالية ارتفاع قامة هذا الشعب العظيم، حيث أنجزت المقاومة على مستوى عملياتها العسكريةالنوعية الكثير من ملاحم البطولة وألحان الخلود، وارتقى شهداؤها في ساحات الوغى وميادين الجهاد إلى مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وجاءت لنا المقاومة بكل معاني العزِّ والكرامة، والتي افتقدناها كأمة عربية وإسلامية، منذ أن بدأ هذا الصراع مع المحتل الغاصب قبل أكثر من ستين عاماً.
العطار وأبو شمالة: توأم الروح والشهادة
عندما تطالع صور الشهيدين رائد العطار ومحمد أبو شمالة منذ أن بدءا مشورهم النضالي في أوائل التسعينيات، ثم تتابع تطور مشهد العلاقة بينهما طوال تلك السنوات في كتائب الشهيد عز الدين القسَّام، كأحد أيقونات المقاومة الفلسطينية، والذي كان بفضلهما الارتقاء بقدرات الكتائب إلى المستوى الذي شكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، فقامت بوضعهما على لائحة الاستهداف لأكثر من عقدين من الزمان.
عشرات المحاولات الإسرائيلية الفاشلة جرت لاغتيالهما أو أسرهما، كما ذكرت صحيفة معاريف، إذ لم تدخر أجهزة أمن إسرائيل من وسيلة لتصفيتهما إلا ولجأت إليها، حيث دمرت بيوتهم أكثر من مرة، وأطلقت عليهم الطائرات بدون طيار (الزنانة- Drone) صواريخها ولكنَّ الله سلَّم، وكتب لهما النجاة.
صحيحٌ، أن الأخوين كانا دائمي الحذر، وليس من السهولة مشاهدة تحركاتهم، والوعي بمسرح عملياتهم، وقد جنَّدت أجهزة الشاباك الكثير من العملاء لمراقبتهم، ولكنها لم تفلح – بأيِّ حالٍ - في اصطيادهم.
اقتصرت رؤيتي لهما في أغلب الأحيان على اللقاءات التنظيمية الخاصة، وأحياناً خلال المشاركة في تقديم العزاء لهما أو في عزاء بعض شهداء كتائب القسَّام، حيث كانا يتواجدان عادة لتقبل واجب العزاء.
إن من أهم الملامح والصفات التي شكلت انطباعي العام عنهما، هو ذلك الهدوء الذي طبع حياتهما،ومحبة شباب الإخوان لهما، والحس الأخلاقي الرفيع الذي تشكلت عليه شخصيتهما..ففي الكثير من الجلسات التنظيمية والشورية المطولة، والتي كانت تمتد - أحياناً – إلى أربع ساعات أو أكثر،تعجب لصمتهم ووقارهم، إذ لا تجد أحداً منهم يتكلم إلا إذا طُلب منه ذلك، كان ذلك ديدن كل منهما؛ أدبٌ رفيع، وكلمات طيبة مقتضبة، وإحساس من يتطلع بشوقٍ للشهادة.
أذكر أننا في أحد الأعياد التي أعقبت الحرب عام 2008/ 2009م، ذهبنا كوفد من الحركة لمواساة الأخوين "أبو أيمن" و"أبو خليل" بعد أن قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف منزل كل منهما، وتسويتهما بالأرض.. وبينما كنا نأخذ صوراً للذكرى فوق أنقاض البيت، طلبت منه أن نلتقي، كي نسجل بعضاً من صفحات حياته ومسيرته النضالية، والتي قد ينفع تدوينها أجيالاً قدتأتي من بعده، إذا ما كتب الله له الموت أو الشهادة.
وعدني الأخ أبو خليل (رحمه الله) بدراسة المسألة والتفكير بها،إلا أن حساسية وضعه في الجناح العسكري للقسَّام، وقربه من الكثير من الملفات الأمنية، جعلت الأخوين يؤثرا الصمت، ولا تسمع عن حديث مسجلٍ معهما.
في ليلة اغتيالهما كنت ساهراً في البلكونة أتابع مجريات الأحداث وأخبار المعارك، وما يرد في الأحاديث الإذاعية المختلفة..وفي حوالي الساعة الثانية والنصف فجراً،قررت الذهاب للنوم داخل المنزل، وبينما كنت ممسكاً بالباب وأضع خطوتي الأولى باتجاه غرفتي، وإذا بعدة انفجارات قوية وقريبة جداً من مكان سكنانا، ولشدتها فإنها تُفزع أشد القلوب قوة وشجاعة، وقد غمرني إحساس غامض بأن هذه الليلة ستكون لتصفية الحساب مع كل القيادات السياسية لحركة حماس، حيث تريد إسرائيل تسجيل إنجازٍ سريع قبل نهاية الحرب، وذلك بعد أن عجزت كل أجهزتها الأمنية والعسكرية في الوصول لقيادات القسَّام، وغدت أسابيع الحرب الطويلة تشكل حرجاً لإسرائيل، ولا يبدو أن جيشها قادر على كسر شوكة المقاومة، والتي ظلت صامدة لم تنل لها قناة،واستمرت في دكِّ المدن الإسرائيلية بصواريخها؛ من سيدوروت إلى حيفا وتل أبيب.
أسرعت بالخروج من المنزل، وأيقظت بعض من تواجدوا فيه، وانتقلنا على عجل إلى مكان آخر مجاور.. لم نسمع صوت سيارات الإسعاف لأكثر من ربع الساعة، بالرغم من هول الانفجارات وقربها من المكان الذي كنا متواجدين فيه،الأمر الذي أثار فينا الحيرة والاستغراب.. وعندما بدأت أصوات سيارات الإسعاف تظهر قريباً منَّا طلبت من ابن أخي أن يخرج ويأتينا بالخبر اليقين، بدل الحال الذي نحن عليه من الشكٍّ والتخمين.. أطل سريعاً من الباب وكان يبدو عليه الخوف والهلع، وقال إنه لم يشاهد أحداً. بدأنا من جديد في التساؤل: ترى ما هذه الانفجارات الغريبة التي هزَّت أركان المنزل، وزلزلت المكان، ومن يا ترى هو المستهدف، وصيدها الثمين ؟
ظلت تدور على ألسنتنا مثل هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام، وأخذنا نتابع فضائية الجزيرة وقناة الأقصى لنسمع من إحداهما الجواب، ولكن دون جدوى. ومع آذن الفجر، بدأت ترد لنا الأخبار حول المنزل المستهدف، واحتمال وجود قيادات من حركة حماس بداخله.
ذهب الشباب من حولي إلى المكان، وهو يبعد حوالي مئة وخمسين متراً عن منزلنا، وجاءوا بالخبر الذي أحزنني وأبكاني، إنهما القائدان: رائد العطار(أبو أيمن) ومحمد أبو شمالة (أبو خليل)، ومعهما أخ آخر من قيادات القسَّام في رفح.
وأخيراً.. وقع ما لم يكن في الحسبان، إذ تمكنت إسرائيل بمساعدة العملاء من الوصول إلي المكان الذي تواجدا فيه، وقامت باغتيالهما.. كانت الخسارة التي أوجعت الجميع، وأذهبت بهجتنا بصمود أهلنا وانتصار المقاومة، ولكن هي في النهاية أمر الله وإرادته: "ويتخذ منكم شهداء".
ختامناً: لن نتسلم؛ ننتصر أو نموت
إن الكثير مما شاهدناه أو سمعناه عن عمليات القسَّام والمقاومة الفلسطينية لم يتحقق لي رؤية شبيهٍ له إلا في أفغانستان، والذي سطر الكثير منه الشيخ الشهيد عبدالله عزام (رحمه الله) في كتابه الشهير "آيات الرحمن في جهاد الأفغان"، وكنت قد عشت بعضاً من رواياته هناك.. ولعلي أتذكر ما كتبه صحفي أمريكي زار إحدى جبهات القتال في أوائل الثمانينيات،وقد أثار استغرابه وقوف المجاهد الأفغاني و"الأربي جيه" على كتفه، يصوبه - بثبات وجسارة - من على بُعد عدة أمتار باتجاه الدبابة الروسية،لقد استرعى هذا المشهد انتباه ذلك الصحفي، ودفعه للسؤال حول القوة التي تحرك هذا المجاهد ليواجه الموت بهذه الثقة والاطمئنان.
بالطبع، هو لا يعرف الكثير عن معاني الجهاد، من حيث كون المواجهة بالنسبة للمسلم هي "نصرٌ أو استشهاد".
معركة "العصف المأكول" ستبقى في الذاكرة الفلسطينية واحدة من أروع ملاحم البطولة، التي كسرت فيها المقاومة شوكة الاحتلال، وأذهبت هيبة جيشه، ولقنته درساً في فنون القتال لن ينساه.