الكاتب: كفاح مناصرة
كل إنسان يقدم طلبا للالتحاق بالعمل في الأجهزة الأمنية الفلسطينية أو أية أجهزة، حالها يشبه الحالة الفلسطينية، عليه أن يتوقع إخضاعه من جهات الاختصاص ليس فقط للتحقق من انه خال من الأمراض السارية أو المعدية أو انه لا يعاني من مرض أو علة أو إعاقة ما، بل على الراغبين أيضا توقع إخضاعهم لتشخيص سلامتهم وصحتهم النفسية أيضا وللأسف هذا الإجراء لا يتوقعه الراغبون في الالتحاق بالأجهزة من جهة، ومن جهة أخرى المسئولين في الأجهزة الأمنية لا يهتمون أبدا بفحص السلامة النفسية للملتحقين ولا يخضعون لأي تشخيص في هذا المجال.
إن الحادث المؤسف الذي جرى اليوم في بيت لحم، حادث التصادم بين أبناء الشعب الواحد، بين أفراد من احد أجهزة الأمن والشبان من مخيم العزة يذكرنا بمدى الحاجة إلى تشخيص الحالة النفسية للأفراد الراغبين بالالتحاق في الأجهزة الأمنية، والتحقق من أن الراغبين معافون، ليس فقط جسدياً وإنما على وعي بالإشكاليات النفسية وتطوير قدراتهم من السيطرة عليها وضبطها. فلقد عانى أبناء شعبنا ما عانوه من الاحتلال الإسرائيلي الذي مارس صنوفا لا حصر لها من ألوان وأشكال العنف ومنها التعذيب الجسدي والنفسي ولم يبق شكل من أشكال العنف والقهر إلاّ ومورس بحقهم، خصوصا في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. إن تجربة عشرات الألوف من الشبان الذين اكتوت أجسادهم بهراوات المحتلين وتعرضوا للإذلال والقهر، ومنذ لحظة اعتقال أي فرد منهم وصولا للحظة الإفراج عنه يتعرض لمنهج نفسي يود إذلاله وكسر إرادته ومعنوياته وكسر شخصيته، والشبان الذين تعرضوا للإذلال على الحواجز أو أثناء تفتيش منازلهم ليلاً أو ما عانوه خلال حظر التجول الذي كان يفرض على قرانا ومدننا ومخيماتنا. هؤلاء غالبا ما يعانون من مشكلات أو اضطرابات نفسية لعل أخطرها ما يطلق عليه: بسيكولوجية "التوحد مع المعتدي .
كثير من الأفراد الفلسطينيين يعانون من "التوحد مع المعتدي" الذي نجد انعكاسه في تصرفاتهم وسلوكياتهم تجاه الآخرين. وهي سلوكيات اختزنها الفلسطينيون طوال سنوات الاحتلال جراء ما تعرضوا له من قهر وذل وهوان. وحتى لا يقذف هؤلاء الضحايا بما هو مخزون بداخلهم من قهر وحتى لا يقذفون ما بداخلهم من غضب تراكم على مدى العقود الخمسة الماضية على شعبهم وعلى أنفسهم بشكل غير واعي يجب العمل على تعميم الوعي بمخلفات الاحتلال وما يحدثه من آثار نفسية وتحديدا بين أفراد الأجهزة الأمنية .
إن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أفقدت أبناء وطننا ثقتهم بأنفسهم بسبب تعرضهم للبطش والتعذيب ومصادرة أحلامهم. ومجموع تلك الممارسات عادة ما دفعت وتدفع (وان كنا لا نرغب بالاعتراف بذلك) إلى حالة "التوحد مع المعتدي" فنستعير منه سبله وطرائقه العنيفة في معالجة ما نختلف عليه أو يعترض سبيلنا في تنفيذ واجباتنا أو أدوارنا أو في تنفيذ مهامنا وتنفيذ ما يطلب منا من قبل مسئولينا . إن "التوحد مع المعتدي" وبحسب الخبراء يعني أن يتقمص الفرد شخصية المعتدي في تعامله مع من هم اضعف منه قوة، فمن يعاني من حالة "التوحد مع المعتدي" يمارس للأسف كل أشكال العنف والتعذيب التي تعرض لها ضد ضحيته أو ضد من اختلف معه أو ضد من شعر انه اقل قوة وإمكانات منه؟ وهذا ما يسمى بسيكولوجيا "التوحد مع المعتدي"
. لذلك السؤال الهام والضروري هنا ومن باب الالتزام بالمسؤولية،هو: ما مدى خلو كثيرين من أفراد الأجهزة الأمنية، الحراس على حياتنا وأمننا وراحتنا وممتلكاتنا، من هذا الموروث الذي تسرب إلى دواخلهم ودون رغبةً منهم؟ لذلك وجميعنا يرى حالة الاستغراب والتساؤل وعدم الفهم، وحالة عدم التميز عند مشاهدة حالة حيث أحد أفراد الأجهزة الأمنية يمارس عنفا قاسيا ضد احد أبناء شعبه. هذا العنف الممارس حتى لو كان فرديا وهو كذلك أو كان نادر الحدوث فهو سلوك مكتسب يشبه إلى حد كبير إلى حد التطابق مع سلوك العدو تجاهنا. فالتوحد مع المعتدي" وكما يرى العالم ابن خلدون هو "عادة ً ما يسلك المقهور سلوك القاهر". وأيضا برأي د.احمد عكاشة فان المقصود بالتوحد مع المعتدي" هو "أن العمليات النفسية المختلطة تجعل من يتعرض للقهر والتعذيب والاهانة يسلك بعد حين نفس نهج من قام يوماً بإيذائه.
". إن من واجبنا جميعا التعاون لإيجاد حلول ومخارج للعديد من الإشكاليات ومنها مثالا تصرف عدد من أفراد احد الأجهزة الأمنية الفلسطينية تجاه احد الشباب قبالة مخيم العزة اليوم الجمعة الموافق 19 أيلول 2015 عندما انهالوا عليه ضرباً وهو اعزل ودون أن يبدي أية مقاومة.
إن خيار الردح والسب والتهجم والتخوين أياً كانت الجهة التي يصدر عنها، لا يفيد إطلاقا في معالجة ما جرى فلا هو ينصف المعتدى عليه ولا يساعد على معالجة اتجاهات الميل للعنف المتزايدة بين أوساط المواطنين بشكل عام وليس فقد لدى أفراد في أجهزة الأمن. وحتى لا نغمض عيوننا عن أية ممارسات تسيء لأجهزة الأمن الذين هم أنفسهم يوم أمس من تمكن من إلقاء القبض على مجموعة من اللصوص الذين سرقوا بنك الاستثمار فرع الرام شمال القدس المحتلة وأعادوا الأموال لأصحابها. إن علينا واجب تشخيص وفهم الزيادة في الميل للعنف التي لا تقتصر على بعض أفراد الأجهزة الأمنية بل يلاحظ أن هناك ميل عام للعنف بشكل عام بين أبناء شعبنا الأمر الذي يستدعي من جهات الاختصاص التدخل لتشخيص وفهم ما نعانيه من ميل للعنف لإيجاد تفسيرات لسلوكيات متفردة ولكنها منتقدة رسمياً وشعبياً حتى لا تتأصل تلك الممارسات وحتى لا تتجذر فينا وحتى يعود أبنائنا وكل من يعمل بالأجهزة الأمنية إلى بيوتهم وأسرهم بعيدين عن أي لوم للذات أو الشعور بالذنب.