الكاتب: د.احمد يوسف
توطئة:
إن قراءة المشهد السياسي الفلسطيني على مدار قرابة قرن من الزمان، كانت ثلث أحداثه ووقائعه قبل النكبة عام 1948م، والباقي هو ما عايشناه عياناً، وأدركناه من خلال الدراسة والبحث والتحليل.. اليوم، نحن شهود عيان على الكثير مما وقعت فيه القيادات من أخطاء، وما ارتكبه بعضهم من خطايا، أدت إلى انحراف البوصلة، وتنكب بذلك الفلسطينيون الطريق، وضلوا عن السبيل
اليوم، وبعد أكثر من سبعة وستين عاماً قضيناها ونحن نعاني بسبب حالات التهجير إلى أماكن اللجوء والشتات، ومحاولات عديدة لم تكلل بالنجاح لتوحيد الصف الوطني تحت راية واحدة ورؤية جامعة، ما زلنا - حتى الآن - ندفع أثماناً باهظة جراء هذه الحالة من التخبط، وفقدان القائد والدليل.
في علم القيادة ثمَّة علاقات متشابكة بين أزمة القيادة ومجموعة من الأزمات الأخرى، كأزمة الفاعلية، وأزمة المشاركة، وأزمة التخلف، وأزمة الهوية، حيث تقود كل أزمة إلى أخرى، في حين تقع أزمة القيادة في المحور، فتؤدي إلى الأزمات الأخرى، وهذا ما يظهر بوضوح لدى دول المنطقة العربية وشعوبها، ولا تختلف الحالة الفلسطينية عن غيرها من دول الجوار والدول النامية الأخرى.
إن القارئ لصفحات التاريخ الفلسطيني المعاصر، والمتابع للأحداث والتطورات التي شهدتها الأراضي الفلسطينية طوال القرن الماضي، وما انتهى من القرن الحالي، يدرك بأن القضية الفلسطينية كانت تخرج من وعكة سياسية أو أمنية إلى أخرى. لا شكَّ أن الأسباب الكامنة وراء ذلك تختلف وتتعدد، فمنها ما يتعلق بالشعب ذاته، ومنها ما يتعلق بالقيادات التي كانت تفرض سيطرتها بقبول أو رفض الشعب، ومنها ما يتعلق بالعوامل والتأثيرات أو الضغوطات الخارجية، ففي جانب الشعب؛ لم يكن على درجة كبيرة من الوعي السياسي، الذي يؤهله لمعرفة المتغيرات والتطورات وأبعادها السياسية والأمنية وفهمها، فكان - أحياناً - يركن إلى القيادة، وأحياناً أخرى يعتمد على الأشقاء العرب، ويبالغ – للأسف - في الوثوق بهم، هذا في ضوء انشغاله بالأمور المعيشية والتزامات الحياة اليومية، علماً بأن كثيراً من أبناء الشعب الفلسطيني نشأوا مزارعين.
أما القيادة الفلسطينية فيُسجل عليها الكثير من الملاحظات والإخفاقات، ويمكن استعراضها في سياق صيرورتها التاريخية، على الشكل التالي:
شكلت انتفاضة النبي موسى، وثورة البراق في العشرينيات، ردَّات فعل على سلوكيات الصهاينة.. وبالطبع، فإن ما كان مجرد ردة فعل سرعان ما ينتهي بخسارة؛ لأنه باختصار عمل غير مخطط أو مدروس.
لم تكن القيادات الفلسطينية مهتمة بالفكر والثقافة بالقدر الكافي، فكانت بعض القيادات مفروضة بحكم موقعها الاجتماعي أو وضعها الاقتصادي، ولم تكن تتوسد تلك المقاعد عن جدارة ومعرفة بالفكر والثقافة أو الدراية بألاعيب السياسة ومكرها.. إن هذا لا يعني أنها لم تُعلم أبناءها، بالعكس قامت بإرسال بعضهم إلى دول أوروبا لتعليمهم، وكثير منهم استقر في الخارج، بل إنها لم تكن تعطي الثقافة المجتمعية أهميةً كبيرةً، ولم تكن تعزز الفكر وما يتطلبه من وعي سياسي لدى أبناء المجتمع.
الجهوية بدل الهوية الوطنية
لقد بدأت ملامح الانقسام الفلسطيني بعد انتهاء حكم دولة الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، حيث كان الفلسطينيون متنازعين بين الإسلاميين، الذي يشكلون وريثاً للدولة العثمانية، والقوميين الذين يرتبطون ببريطانيا الانتدابية وحكومة تركيا العلمانية، فكل طرف كان ينظر إلى فلسطين من منظاره الخاص.
باختصار: كانت الأحزاب الفلسطينية منقسمة على نفسها، وتعمل لأجندتها وارتباطاتها الخاصة، ولم تكن تعمل وفق رؤية وطنية أو مظلة سياسية ومرجعية واحدة، والسبب هو أنها كانت أحزاباً عائلية، فكانت عائلات كبيرة تشكل أحزاباً كردة فعل على سيطرة عائلة أخرى على حزب، وهذا ما عزز الفرقة وشتت الصوت الواحد، الذي كان من المفترض أن يواجه الانتداب البريطاني، الذي عمل على نقل ملكيات الأراضي لليهود بعدما سمح لهم بالهجرة الواسعة إلى أرض فلسطين. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأحزاب كانت تمثل الطبقة العليا، ولم تكن تتمتع بعمق شعبي واسع، وكانت أشبه بأحزاب الرفاهية في عالمنا المعاصر.
لقد غابت الشراكة السياسية والتعاون بينها، وكانت الأراضي الفلسطينية تعيش حالةً من التنافس غير الشريف بين الأحزاب أو العائلات والطبقات البرجوازية، وهو ما يعني باختصار أن عملية صنع القرار كانت مبعثرة حسب القوة والموقف، ولم تكن عملية ممنهجة ومتكاملة.
ومن الجدير ذكره، أن قياداتنا السياسية قد عملت – للأسف - جنباً إلى جنب مع بعض الأنظمة العربية، ومع بريطانيا؛ الإمبراطورية الاستعمارية الأولى – آنذاك - في العالم، على إجهاض الثورة الفلسطينية؛ لأنها كانت – وهذا هو بيت القصيد - تتعارض مع مصالحهم وأعمالهم، وعلاقاتهم الإقليمية والدولية.
وتشير العديد من المراجع والمصادر التاريخية إلى أن القيادة الفلسطينية كانت تقول في الخفاء عكس ما تتفوه به في العلن، وهذا ما ظهر جلياً في تحقيقات لجنة بيل، حيث أبدت القيادة الفلسطينية مرونة كبيرة في التعاطي مع اللجنة والحلول السلمية من خلف الستار، في حين رفضت ذلك أمام الملأ، وهذا يعني باختصار أن شخصية القيادة الفلسطينية في ذلك التاريخ (1930 – 1940م) كانت مأزومة وتعاني من خلل كبير.
لقد أحسنت القيادة الفلسطينية حينما رفضت قرار تقسيم فلسطين رقم 181، الصادر في 29 نوفمبر1947م، مسجلة عليه عدداً كبيراً من الملاحظات، أبرزها أنه يعطي اليهود 54% من مساحة فلسطين بعدما كانوا يسيطرون على 7% منها، في حين أن أعدادهم كانت قليلة بالمقارنة بتعداد الشعب الفلسطيني آنذاك. لكن ما يمكن تسجيله على القيادة الفلسطينية - آنذاك - هو ارتباطها بالمؤثرات الخارجية، وتنازعها على الحكم، وبالتالي جاء رفض قرار التقسيم من منطلقات المصلحة الخاصة؛ عائلية أو شخصية أو حزبية، وذلك لأن تقسيم فلسطين كان سيؤدي إلى ضياع مساحات كبيرة من أراضي تلك العائلات.
لقد شهدت فترة ما قبل عام 1948م تناحراً وتراجعاً في العلاقات الاجتماعية، وهذا مرده إلى الانقياد الطوعي لسياسة بريطانيا الانتدابية، التي قامت على مبدأ "فرّق تسد"، وقد ظهر هذا واضحاً في التناحر بين القطبين؛ آل النشاشيبي وآل الحسيني، حينما عزلت بريطانيا رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني، وعيّنت راغب النشاشيبي بدلاً منه.
واستكمالاً لأزمتها وعلَّاتها! وافقت القيادة الفلسطينية كما الحال بالنسبة للقيادة العربية على وقف حرب ،48 وإعطاء اليهود هدنة، فقضوا وقت الهدنة محتفين بالانتصار الذي حققوه في المرحلة الأولى من الحرب، ولم يكونوا يدركون ما كانت تجهزه لهم العصابات الصهيونية.. إن هذا الفعل غير الحكيم كان مرده عقم الوعي لدى القيادة من ناحية، وتغليب المصالح الشخصية من ناحية ثانية، وعدم الاستعداد للمبادرة والمبادأة والعطاء والتضحية.
وبعد احتلال فلسطين عام 1948م، عانت القضية الفلسطينية من فراغٍ قياديٍ كبيرٍ، إذ كان الحاج أمين الحسيني (رحمه الله)؛ الزعيم والقائد، قد لاحقته تهديدات القتل والاعتقال، مما اضطره للهرب إلى لبنان وتركيا، ثمَّ استقر به الحال في ألمانيا، حيث أخذ في التحرك لطلب الدعم والنصرة لأهل وطنه في فلسطين.. كما استشهد عددٌ لا بأس به من القيادات العسكرية، واستمرت الحالة هكذا، حتى تمَّ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، ثم كانت انطلاقة حركة فتح في يناير 1965م، حيث دخلت الحركة في أكثر من عملية أو اشتباك عسكري مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لعدة سنوات، وقد حققت بعض النجاحات التي منحتها احتراماً وتقديراً على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أن تخبط القيادة الفلسطينية في تعاملاتها مع النظام العربي أدت لانقسامها، وتراجع هيبتها العسكرية، حيث ذاقت مرارة الهزيمة في الأردن بعد أحداث أيلول الأسود 1970م، ثم عاشت الحصار الطويل في لبنان، مما اضطرها للخروج منه إلى تونس ودول عربية أخرى بعد تسليم سلاحها عام 1982م.
وهذا الأمر الذي سمح للصهاينة وقيادة لبنان اللحديَّة – آنذاك - بتنفيذ أبشع المجازر بحق الفلسطينيين هناك، وخاصة في مخيمي صبرا وشاتيلا.. وفي هذه الحالة، يمكننا تسجيل عددٍ من الأخطاء القاتلة والملاحظات المثيرة للتساؤل، أولها؛ أن القيادة الفلسطينية خرجت بأمان من لبنان، دون الإلحاح لمعرفة مصير الفلسطينيين هناك، وثانياً؛ لم تتدخل القيادة من أجل حماية الفلسطينيين الذي يتعرضون للقتل، وثالثاً؛ كثيرٌ من القيادات الفلسطينية كانوا منشغلين – للأسف - بأعمالهم الخاصة، وكثير منهم كانوا – أيضاً – هم من يتصدرون المشهد ويقودون المرحلة.
اتفاقية أوسلو: الاستدراج والخديعة
لقد وجدت القيادة الفلسطينية نفسها غارقة في بحر من الأزمات، وهو ما أجبرها على الدخول في مفاوضات سرية في أوسلو، بمعزل عن المفاوضات العلنية التي كانت تجري في واشنطن برئاسة د. حيدر عبد الشافي (رحمه الله).. ولعل الأسوأ من المفاوضات نفسها، كان هو سريتها المطلقة، وعدم كفاءة الفريق المفاوض، وغياب الوضوح في استراتيجية التفاوض، وآليات تنفيذ الاتفاق، حيث انتهت الأمور باتفاقية أوسلو بشكلها الأمني، والتي يعتبرها الخبراء بمثابة الدستور الذي حدد للسلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير المسار المستقبلي.
ولعل الشخصية الوطنية التي احترمها الشارع الفلسطيني لنزاهتها وطهارتها الثورية ووطنيتها هي د. حيدر عبد الشافي، الذي قدَّم استقالته من رئاسة الوفد المفوض عندما اشتم وجود تلاعب من جهات فلسطينية أخرى، تتحرك من خلف الكواليس ولديها أجندات مشبوهة.
لقد عانى المشهد الفلسطيني من صراعٍ حادٍ بين الوطني - القومي والإسلامي، حيث ظهرت هذه المسألة بعد أربعينيات القرن الماضي، لكن القوى الخارجية الاستعمارية رحَّلتها إلى ما بعد 1967م، بحيث لم تتمكن حينها (م. ت. ف) من فكِّ طلاسم تلك الجدليات، بل إنها لم تُعنَ بالأساس بعملية إدماج الإسلاميين واستيعابهم؛ لأنها كانت تدرك أنهم الأكثر مقدرة على الحشد والتعبئة من غيرهم، وهو ما يعني أنها كانت تخشى على مستقبل مكانتها ومصير كوادرها.
هذا وقد شهدت فترة الانتفاضة الأولى فراغاً قيادياً، فلم تتمكن الانتفاضة من تشكيل غرفة عملياتٍ أو قيادةٍ موحدةٍ، وهو ما جعل الجهود الفلسطينية مبعثرة.. ولعله من الطبيعي القول: إن هذا كان عملاً مقصوداً من بعض قيادات منظمة التحرير، التي كانت حركة فتح تديرها، حيث وجدت قيادة المنظمة خلاصَها في الانتفاضة، خاصة بعد الضربات التي أصابتها بمقتلٍ في كلٍّ من الأردن ولبنان، وهو ما جعلها تبذل كل جهدها لتعويض خسائرها السابقة من خلال الرهان على الانتفاضة، إلا أن ما تحقق من "إنجازات" لم يكن بالطبع على مستوى الحلم والأمل الفلسطيني.
للأسف، أظهرت المفاوضات والنتائج التي تمَّ التوصل إليها، بأن الفريق المفاوض لم يكن كله مؤهلاً لحمل الأمانة، أو بالخبرة التي عليها الطرف الإسرائيلي، وكان بين هؤلاء مجموعة من النفعيين والمنتفعين.. إذ لم تكن "مصلحة الوطن" تتقدم على جدول أعمالهم، بقدر ما كانت مصلحة التنظيم والقيادة، وهذا ما تظهره تلك العبارة التي قالها السيد أبو مازن للرئيس ياسر عرفات عام 1991م: إن "السفينة ستسير بك أو بدونك"، وذلك في إشارة منه إلى أن المفاوضات والترتيبات السياسية للمنطقة ستمضي، بغض النظر عن قبول أو عدم قبول أبو عمار (رحمه الله) بها.
وبُعيد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط 1991م، أخطأت القيادة الفلسطينية بتأييدها الرئيس صدام حسين (رحمه الله) ضد الكويت، فانعكس هذا سلباً على مئات آلاف الفلسطينيين المقيمين في الكويت، والذين فقدوا بسبب هذا الاجتهاد الخطأ وظائفهم وأعمالهم وأموالهم ودراستهم.
لقد ارتكبت القيادة الفلسطينية خطأً استراتيجياً في مفاوضات أوسلو، حين أخذت القضية بعيداً عن الحاضنة الدولية، وعندما قامت كذلك بتأجيل التفاوض على القضايا المصيرية (الثوابت الوطنية) إلى مرحلة مفاوضات الحل النهائي. وجاءت أوسلو – للأسف - خارج السياق التوافقي الفلسطيني لتأسيس برنامج تصالحي، إلى برنامج وسياسات أمنية تتعارض مع برنامج المقاومة، ووضعت حداً للمطالبة بتطبيق القرارات الدولية، وأصبح النظام السياسي الفلسطيني مشوهاً، وذلك بسبب غياب الوعي السياسي والقانوني والإداري، وأصبحت الصلاحيات متنازعاً عليها بين قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ومجلس الوزراء.
اتخذت القيادة الفلسطينية قرارها بالتصدي للمقاومة، والعمل على تدجينها وكسر شوكتها، فقادت أجهزتها الأمنية سلسلة من الحملات والملاحقات لكوادرها المقاتلة، وفق ما نصَّت عليه اتفاقية أوسلو، وبالتالي أظهرت مدى ارتباطها بالاحتلال الإسرائيلي، ومدى ارتهانها للقوى الخارجية، وبالتالي أظهرت نفسها أمام الشارع الفلسطيني بأنها قيادة على الشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس قيادة له. كما أن الفترة التي أعقبت تشكيل السلطة أظهرت تشويهاً في إدارتها لدفة السياسة، وتعثر مسارات تعاملها مع الاحتلال وفصائل العمل الوطني والتيارات الإسلامية العاملة على الساحة.
ومن الجدير ذكره، أن القيادة السياسية تعاملت مع إسرائيل، في حين تعاملت الأجهزة الأمنية والعسكرية مع الكل الفلسطيني، فلم تحاول القيادة الفلسطينية حل خلافاتها مع الإسلاميين بالوسائل الدبلوماسية، بل أخفقت في ذلك؛ لأن كل ما قدّمته كان – للأسف - حلولاً استسلامية، وقد رأى فيها الشارع ونخبه السياسية أنها تنازلات عن الحقوق والثوابت الفلسطينية، وهو ما لم تقبل به الحركات الإسلامية، التي رفعت شعار "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، وهذه المسألة أسست للانقسام الداخلي في وقت لاحقٍ.
أما انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام 2000م، فقد رأى البعض أن عسكرتها كانت خطيئة كبرى، وأنها تمَّت باتفاقٍ مسبقٍ بين القيادة الفلسطينية ودولة الاحتلال، وذلك من أجل التفاوض من جديد على بعض المسائل، وترويجها على أنها جاءت حقناً للدماء الفلسطينية، وفي ذلك تنازل جديد من القيادة الفلسطينية.
وبعد دخول القيادة في مفاوضات كامب ديفيد وفشلها، ثم موافقتها على مبادرة السلام العربية في عام 2002م وانتهائها بعد عقدين من الزمان بصفر كبير، وذلك على رأي السياسي المخضرم أحمد قريع (أبو العلاء)، وجدت القيادة نفسها أمام عقبة كأداء تتمثل في شخصية رئيس السلطة الفلسطينية؛ السيد ياسر عرفات، فكانت هناك إرهاصات باحتمالية التخلص منه، وهذا ما حدث فعلاً، وطويت بذلك صفحة الرئيس عرفات في 11 نوفمبر 2004م. ثم جاءت قيادة أكثر مرونة، ولكنها كانت أكثر تسيباً وانبطاحاً، وعملت على طي صفحة أنصار عرفات، وذلك – بحسب رأي البعض - حين قام الرئيس (أبو مازن) في عام 2005م بإحالة كل الموالين لعرفات إلى التقاعد رغم تاريخهم النضالي وتضحياتهم، وهذه الحالة أظهرت مدى إعطاء الأولوية للمصالح الشخصية على حساب الكفاءة والوطنية، وكعادة السياسيين: المواقع المتقدمة هي فقط للموالين.!!
لم تستطيع القيادة الفلسطينية بناء اقتصاد مقاوم بمعزل عن التبعية للاحتلال الإسرائيلي، بل على العكس تماماً، قامت بتوقيع بروتوكول باريس الاقتصادي، والذي كرّس التبعية الاقتصادية لإسرائيل من ناحية، وحرم الفلسطينيين من تصدير منتجاتهم الزراعية من ناحية أخرى.
وشهادة للتاريخ، فإن بعض الأعمال العسكرية للمقاومة، وخاصة في منتصف التسعينيات، قد أعطت الذريعة لإسرائيل للتهرب من استحقاقات أوسلو، وعدم الوفاء بما عليها من التزامات.
انتخابات عام 2006م: الأمل والألم
عندما دخلت حماس الانتخابات البرلمانية في يناير 2006م؛ حققت فوزاً كاسحاً، ووافقت على تحمل مسئولية تشكيل الحكومة منفردةً، بعد رفض حركة فتح التعاون معها، ووجدت نفسها وحيدةً في مشهد الحكم والسياسة، وهو ما جعلها عرضةً للانتقادات الكثيرة، ومحاولات التآمر لإجهاض فرص نجاحها.
كانت الانتخابات الفلسطينية محطة مهمة للملمة الكل الفلسطيني، بحيث يكون الإسلاميون جزءاً من الخارطة السياسية، والتمكين للصف الفلسطيني من استعادة وحدته تحت مظلة منظمة التحرير، ولكن – للأسف – كانت المناكفات السياسية والأساليب التي تعامل بها الطرفان؛ فتح وحماس، مع بعضهما البعض مخيبة للآمال، وخارج سياق توقعات الشارع الفلسطيني، حيث أحكمت حركة حماس قبضتها على الحكم، ولم تنجح – رغم المحاولة - في بناء شراكة سياسية وتوافق وطني، وكانت خطيئة حركة فتح هي في تعمدها إفشال حكومة حماس، وقطع الطريق أمام سفينتها، وتعمد حرمانها من الاقلاع.
أحداث يونيه 2007م: الكارثة وشرخ الوطن
ثمان سنوات عجاف مرَّت بعد الأحداث المأساوية في يونيه 2007م، دفعنا جميعنا ثمنها، وخسرت معها القضية إنجازات – ولو محدودة - كنا حققناها. كانت تلك الأحداث الدامية خطيئة كبرى، ونكبة جديدة حلَّت بالشعب والقضية، وتقع فيها المسئولية على الطرفين؛ فتح وحماس، من حيث غياب الحكمة وحسن التدبير من ناحية، والمزاجية السياسية التي صبغت أداء الرئيس أبو مازن من جهة أخرى.
ولعل ما نرصده - أيضاً - كأخطاءً استراتيجية قاتلة، هو أننا ارتضينا وضع كل الصلاحيات في يد شخصٍ واحد وهو الرئيس أبو مازن، وتعطيل أي فاعلية لمنظمة التحرير، وتهميش الفصائل، وتحجيم دورها السياسي، من خلال تغييب فعالية الإطار القيادي المؤقت، كلها أسباب أدت لشلل الحياة السياسية الفلسطينية، وما آلت إليه الأمور، بحيث أصبحنا كياناً هزليا،ً نعيش حالة سريالية عنوانها: "حكومتان لشعب بلا وطن".
إن هناك سياسات خاطئة قامت بها القيادة الفلسطينية، وهي التي أسست للانقسام الذي حدث في 14 يونيه 2007م، حيث كانت هناك بعض الدلائل التي تشير قراءتها إلى أن جهاتٍ في القيادة كانت تريد أن تسيطر حركة حماس على قطاع غزة، ثم تتركها لتديره بمفردها من أجل إرهاقها، وجعلها تعود منهكة إلى بيت الطاعة الذي تديره مؤسسات السلطة، وهو ما لم يحدث إلا بتوقيع اتفاق المصالحة في 24 أبريل 2014م في غزة.
لقد شهدت مرحلة الانقسام الفلسطيني وما بعدها جملة من الإخفاقات وخيبات الأمل، والتي هي بالطبع بفعل القيادة السياسية، أهمها: حكم الفرد وغياب المرجعية الوطنية، وانعدام الاتفاق حول رؤية واحدة لمشروعنا الوطني، وأيضاً فقدان البرنامج الوطني المشترك، إضافة لتعطيل الحوار الوطني، وغياب ثقافة التعددية السياسية وتقبل الآخر عند كلٍّ من حركتي فتح وحماس، كما أن ارتهان القرار الفلسطيني بشكل عام لتوجهات الأطراف الخارجية وراء استبداد كل الأطراف، وتفردها في صناعة القرار.
باختصار: إن حركة حماس كجزء من القيادة الفلسطينية وسلطة اتخاذ القرار، قد ارتكبت هي الأخرى جملة من الاجتهادات الخطأ، منها: أنها دخلت الانتخابات بكل ثقلها، وألقت بكامل أوراقها حين فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وارتضت تشكيل الحكومة العاشرة بمفردها، دون إدراك لأبعاد ما كان يبيت لها من مكائد، ويتهددها من أخطار رتبها البعض لها، حيث كان المطلوب أن تتحول حركة حماس حينها من العمل الدعوي والفعل المقاوم إلى كواليس الحكم ودهاليز السياسة. بالطبع، لم تتمكن حركة حماس من التكيف مع وضع الحكم الجديد، وبالتالي ظلت تراوح مكانها بطريقة مرهقة، بحيث تشتت جهودها في حسبة غير متوازنة بين متطلبات الحكم، ومقتضيات الدعوة، وتبعات أفعال المقاومة.
لم تتمكن حركة حماس - أيضاً - من الاستقواء بالفصائل المناهضة لحركة فتح ولها تحفظات على قرارات منظمة التحرير، كما أنها لم تنجح في استيعاب اليسار وعمل تشبيك وتقارب معه، علماً بأن الأخير لديه الكثير من العلاقات وأشكال التواصل مع المجتمع الدولي.
بعد الأحداث المأساوية التي قسمت ظهر الإجماع الوطني عام 2007م، أخفقت حماس؛ الحركة والحكومة، في إشراك الفصائل الأخرى في تكوين جسم إداري لإدارة شئون قطاع غزة، وكان هذا سيخفف عنها عبء الإدارة وكلفتها الثقيلة، ويشرك الفصائل بتحمل جزءٍ من عملية الإخفاق السياسي أو تقاسم الفشل الإداري، وربما يعيد السلطة لمسئوليتها القانونية.. لكن بقيت حماس تدير غزة كحكومة، وكان عليها تحمل الكثير من الالتزامات، التي تنوء بحملها الجبال كحركة مقاومة تواجه الاحتلال من ناحية، وتعاني من الحصار وتكابده من ناحية أخرى.
لم تدخل حماس الانتخابات وفق قراءة واقعية للأحداث والتطورات الداخلية والإقليمية والدولية، ولم يطفُ على السطح صوت الخبراء والمختصين وقرارهم، وكانت تفتقر إلى ماكينة إعلامية تواكب التطورات، وكان أعضاء المجلس التشريعي التابعين لها جُلّهم من العلماء والأئمة ونشطاء العمل الدعوي ورجال الإصلاح، لدرجة كان يوصف معها المجلس التشريعي بأنه "تجمع لرجال الدين والإصلاح"، بعيداً عن الدور الرئيسي المنوط به.
التفرد بالسلطة: الخطأ والخطيئة
لعل واحدة من أكثر الأخطاء القاتلة، والتي تحولت بفعل تأثيراتها على واقعنا السياسي إلى خطيئة ندفع ثمنها اليوم جميعاً، هي حالة التفرد بالقرار والتي منحناها بأيدينا إلى الرئيس محمود عباس، وسمحنا له بامتلاك كل الصلاحيات، بحيث غدا هو الأول والآخر والظاهر والباطن في صياغة حاضرنا ومستقبلنا السياسي!! اليوم الرئيس (أبو مازن) هو بمنزلة الفرعون الذي يتمتع بأهلية القول (أنا ربكم الأعلى).!!
نعم؛ هذا الواقع شاركنا نحن جميعاً بصناعته؛ فتح وحماس وباقي فصائل العمل الوطني، وطورنا هذا الخطأ ليتحول إلى خطيئة يدفع ثمنها - اليوم – شعبنا جميعاً.
وكما سمعنا وعلمنا، فإن الرئيس أبو مازن كان مثلنا يشكو ويتذمر من تفرد الرئيس الراحل ياسر عرفات بالسلطة، واستحواذه على كل المواقع السيادية، وهيمنته على عملية اتخاذ القرار؛ أي تغييب كامل للعملية الديمقراطية، وتهميش شبه كلي للمؤسسات.. واليوم، لا يختلف اثنان بأن إدارة الرئيس (أبو مازن) لا تختلف كثيراً من ناحية حيازتها على كامل الصلاحيات، بل ربما تجاوزت كل ما كان يتمتع به الرئيس الراحل، إلا أن الفرق بينهما كبير في مشهد التعامل مع المكونات السياسية والحزبية داخل الساحة الفلسطينية، فالرئيس الرحل (أبو عمار) كان يشكل "مثابة آمنة" للجميع و"حاضنة وطنية" تستوعب الكل.. نعم؛ قد تختلف معه، ولكننا لم نختلف عليه.. كان الرجل زعيماً وطنياً، وكان سمحاً ودوداً في خصومته؛ إذ سرعان ما يأتي إليك، وينهي الخلاف بقبلة على الرأس وكلمة طيبة.
كان الراحل (أبو عمار) يدير خلافاته بحكمة ووطنية، كان متصالحاً مع نفسه، وأبوياً في تعامله مع شعبه وتواصله مع قضاياه وهمومه، وكان أشبه بالأم الرؤوم والصدر الحنون.. كان - بحق – هو كبير العائلة الفلسطينية.
إن استحواذ الرئيس (أبو مازن) على كل المواقع القيادية؛ السياسية والعسكرية، مع غياب المؤسسات التشريعية والوطنية، وتعمد تهميش أي دور لها، وأيضاً - وهنا الحالقة - هي مزاجية الرئيس، وتقلبات علاقاته تجاه الآخرين من أصدقائه أو خصومه السياسيين، والتي جعلت الحالة السياسية الفلسطينية تصل إلى مستويات متدنية، وأوضاع كارثية في كل المجالات؛ مثل: شلل مؤسسات السلطة وتنازعها في ظل الانقسام، وعجز المجلس الوطني على الانعقاد منذ العام 1996م، تكبيل أيدي الفلسطينيين عن التحرك من أجل القدس المسجد الأقصى برغم سياسات التهويد والاقتحامات المستمرة، شرذمة الموقف العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية، تفتيت جبهاتنا الداخلية وخلق حالات من الاصطفاف الحزبي البغيض، تعطيل عمل الإطار القيادي المؤقت وقطع الطريق أمام سبل الإصلاح والتدارك، تعليق الفعل المقاوم وشل فعاليته من خلال التنسيق الأمني، التفرد بملف التفاوض دون مرجعية وطنية، ووضع كل أوراق اللعبة السياسية بأيدي الأمريكان، وتهميش دور المجتمع الدولي بشكل ملحوظ!!
إننا بحاجة إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، ليتكيف مع الحالة الاحتلالية التي عليها وضعية السلطة الفلسطينية، والتي تستدعي مشاركة الجميع من الكل الوطني والإسلامي، وهذا يعني إقامة نظام برلماني يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات محدودة، وأن يعاد بناء المجلس الوطني ليكون هو مظلتنا جميعاً، ومستقر حواراتنا، وتحديد رؤيتنا السياسية، واستراتيجيات مشروعنا الوطني نحو التحرير والعودة.
ختاماً: طريق الخروج من المأزق وسبل النجاة
في ساحتنا الفلسطينية، ليس هناك - اليوم - أحدٌ أفضل من أحد، فالكل كان له اجتهاداته الخطأ وأحياناً خطاياه، حيث لحركة فتح أخطاؤها، وكذلك الحال بالنسبة لحركة حماس، فالخلل مرجعه تردي النظام السياسي الفلسطيني، وغياب الشراكة السياسية، وانعدام التوافق الوطني، وتهميش العمق العربي – الإسلامي، وعدم استثمار التعاطف الدولي وشبكات التضامن والتواصل الاجتماعي بالشكل الأمثل.
إن القضية الفلسطينية وبعد أكثر من عشرين عاماً من المكابدة والعنت مع إخفاقات أوسلو، وتمرد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الوفاء بما عليها من التزامات تجاه الطرف الفلسطيني، يعطي لمنظمة التحرير الحق بالبحث عن بدائل أخرى ضمن المرجعيات الدولية كالأمم المتحدة، وهذا يستدعي عدم التسليم لأمريكا باحتكار ملف القضية، والعودة به من جديد إلى الشرعية الدولية.
إن مثل هذه الخطوة تحتاج إلى وحدة الموقف الفلسطيني خلف قيادة تتمتع بالإجماع الوطني والإسلامي، وتحظى بالشرعية العربية والدولية، مع ما يوجبه ذلك من استقرار الحالة السياسية الفلسطينية التي تعاني - حالياً - وضعية مأساوية من التأزيم والتشرذم.
إن تغييب المجلس الوطني الفلسطيني لسنوات طويلة؛ أي منذ العام 1996م، وتعطيل المجلس التشريعي منذ أن وقع الانقسام البغيض في عام 2007م، وتهميش الإطار القيادي المؤقت، كل ذلك أسهم – بشكل أو بآخر – في التمهيد لحكم الفرد، والتأسيس لعقلية الفرعون، وانعدام فاعلية الجميع، واستحواذ مشهد (فاستخف قومه فأطاعوه).
إن طريق الخلاص وحجر الزاوية هو الانتخابات على قاعدة التمثيل النسبي الكامل، والعمل على تحويل النظام السياسي إلى نظام برلماني، وإعادة بناء المؤسسة الشورية المعبرة عن الكل الوطني والإسلامي في الوطن والشتات.
وفي انتظار تحقيق كل ذلك، وأملاً بطي صفحة الخلاف، والعمل بسياسة "عفى الله عما سلف"، يجب منح الإطار القيادي المؤقت صلاحيات واسعة بهدف ترتيب البيت الفلسطيني، والتأكيد من خلال واقع الفعل أنه "لا دولة في قطاع غزة، ولا دولة بدون قطاع غزة".