الأربعاء: 25/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

كوابيس الخيبة ونقد التاويل في" رواية القادم من القيامة"

نشر بتاريخ: 04/10/2015 ( آخر تحديث: 04/10/2015 الساعة: 14:02 )

الكاتب: رائد الحواري

هذا العمل الاول الذي نتناوله للكاتب وليد الشرفا، وهو من الاعمال النادرة التي تستحضر افلام سينمائية لكي تخدم النص، فبعد "اسماعيل فهد اسماعيل" الذي استخدم فلم طرزان في رواية "الحبل" وأفلام شالي شبلن في رواية "كانت السماء زرقاء" جاء وليد الشرفا ليستحضر مجموعة من الافلام في رواية واحدة، كعوامل مساعدة على ربط الحدث الروائي بالموضوع السينمائي، وهذا الامر يجعل المتلقي يربط بين ذاكرته عن الفلم والنص الروائي.
وما يمز هذه الرواية وجود اربع كوابيس تأتي الراوي في المنام، لتعكس لنا حالته البائسة وما يعاني من اضطراب وكآبة، وكلها جاءت لتؤكد لنا حالة عدم الاتزان وعدم القدرة على نسيان/تجاهل الماضي.

كما هي عادة الكتاب الفلسطينيين الذين يجعلون من فصل الشتاء موعد للموت وللقتل، ايضا يؤكد لنا الكاتب هذه الامر بحيث كانت كل احداث الرواية تجري في فصل الشتاء، رغم تعاقب الزمن واختلاف المكان.

صورة الانتهازي إن كانت من المناضل او من رجل الدين او من المجتمع، كلها قدمها لنا الكاتب لتفضح هؤلاء من خلال الطرق والمنهج الذي يستخدمونه لتحقيق مأربهم وفي المقابل قدم لنا صورة الانسان النبيل، المنسجم بين مبادئه وأفعاله، ورغم أنه كان شبه وحيد في ذلك النبل، إلا أنه كان كافيا لكي لا يجعل الظلام/المجتمع/الواقع برمته أسود.


الثقافة الروائية التي قدمها لنا الكاتب متعددة، وتتوزع ما بين افلام السينما الى اغاني عبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي والأغاني الشعبية الفلسطينية الى استحضار نص مسرحي غربي، ومن ثم الأفكار الغربية عن المجتمع العربي من خلال صديقة الراوي الذي تمثل رؤيتها واقعا يلامس الحقيقة، الى وجود اقتباسات من القرآن الكريم، كل هذا وضعه الكاتب في "القادم من القيامة"


الصراع بين الماضي والحاضر
موضوع الرواية يتحدث عن الصراع بين الماضي البائس والحاضر الزاهي، لكن حجم المأساة في الماضي لا تجعل بطل الرواية يهنئ بالحاضر، فيكون عرضة لهواجس التي تسحق كل الفرح والهناء الذي يعيشه في فرنسا، فأول حالات الصراع بين الحاضر والماضي كانت من خلال الاحدث الاهم والأبرز ألموت، الموت الذي سرق منه صديقه، فيقدم لنا مقارنة بين طقوس الدفن في الماضي/الوطن وبين الحاضر/فرنسا، "هنا يختارون الزهور والموسيقى التي ستوضع على قبورهم، يتعاملون مع الموت كحدث عادي، لكنه نهائي، لا يفكرون كثيرا بالأسئلة الغيبية الساقطة من ألسماء ص10، هناك اختلاف كبير من طقوس الدفن بين الواقعين، وهناك مفاهيم اجتماعية متباينة تتعلق بالميت، ألمدفون، فالمقارنة بين الورد والموسيقى شيء والندب والبكاء شيء أخر، كما ان طبيعة المجتمعين مختلفة، ففي الحاضر لا يهتمون الى اين سيذهب الميت الى الجنة ام ألنار بينما في الماضي يحملون هم الميت اين سيذهب وكيف سيحاسب، فرغم انه ميت إلا انه يبقى حاضرا ومؤثرا في الآخرين.


الراوي لا يستطيع الهناء بما يعيشه من رفاهية وهناء، رغم توفر كافة متطلبات الراحة والرفاهية التي يعيشها "ألبس اجمل ألثياب وأقود سيارتي الفاخرة الى حيث يستحيل الليل نهارا، كل شيء هنا ملون الزجاج الارضيات والزهور والنساء لا يعيش احدا ممن حولي أية تأنيب ألضمير بل على ألعكس كلما زادت لذائذهم زادت نشوتهم، اتمنى بالفعل ان اعود وأعيش اللذة التي كنت استشعرها عندما كان صديقنا يقراء علينا مراسيل عشقه وغرامه" ص10، رغم الواقع ألزاهي وما فيه من رفاهية ولذائذ ومشاهد مشتاه تجعل الانسان ينخرط فيها، يكون الماضي حائلا بين الراوي وهذه المتع واللذائذ، فكأن ماضيه مرض مستفحل يمنعه من الاقدام على تلك النعم والحياة الجديدة، فالراوي يعي حالته المرضية، يعلم بان به علة، ويعرف مصادرها وأسبابها فيقول: "ربما شعرت بانه يجب علي ان اتخلص من كل شيء يذكرني بأي شيء، سوى انني الآن هنا وحسب، اعيش بنجاح عظيم في شركة مهتمة لتصميم برامج الكمبيوتر... لكنني الان لا افكر بشيء سوى الاستغراق في الحياة، وقهر ألموت ص11، بهذا الكلام يوضح لنا الراوي طبيعة حالته، يرد التمتع بما هو فيه، وتحقيق ذاته من خلال الابداع في عمله، لكن الذاكرة، الماضي، يقفان له بالمرصاد، وكأنهما المحرم/اللعنة، اللعنة التي تمنعه من الاستمتاع بما هو فيه.


بعد هذه الحالة التي يمر بها الراوي، يبدأ يحدثنا عن حالة الصراع الداخلي، الصراع بين الحاضر والماضي، الذاكرة التي لا تريد ان تتخلى عن ماضيها، فيقول عنها: "ما الذي فعلته طوال اربعين سنة سوى اجترار الذكريات" ص15، إذن الماضي وما فيه من كروب وانتكاسات يهيمن على الذاكرة، ومن ثم يشكل حاجزا بين حاضر الراوي وتلك الذكريات المؤلمة.


وهنا ينتقل الراوي الى الحديث عن نهايته، فهو يريد أن يتوب/يكفر عن خطيئته فيقول: "سأوصي بدفني الى جانبه حتى لا يكون وحيدا في مماته" ص17، لن يتم حسم الانتهاء/التخلص من ذكريات الماضي إلا بعد نضوج الصراع ووصوله الى ذروته.


ففي حياته الحاضرة يحاول في اكثر من موقف ان يتجاهل الذكريات، يتعايش مع الحاضر، لكنه يكتشف هذه الحقيقة، "منذ غادرت الوطن وأنا اسير على الجمر، نحو تعريف واحد للحياة، هو الهرب الى الأمام لكني قسريا اعود لأرتطم بالماضي" ص65، بهذا يكون الراوي قد حدد مشكلته وعليه أن يتخذ قراره لحلها.


الاكتآب
عدم قدرة الراوي على تجاوز الماضي البائس الذي يطارده، كان لا بد أن يشعر بحالة من الاكتآب، فهو يرى الحياة البهية ولا يستطيع التنعم بها، وكأنه عاجز عن نيل الملذات والأفراخ من هنا يقول: "أصرخ الآن: ها ها ها ها ها وحدي في هذه البلاد الباردة" ص50، بهذه الوحدة التي وضع نفسه فيها جعلته يعاني أكثر، فلا مكان/احد يفضي له مما يعاني، فقد وضع نفسه في سجن الذكريات، والبلاد التي ترسل كل يوم القتلى الى القبور وتبقى الارامل والأيتام يعانوا من وطأة الفاسدين والانتهازيين، من هنا نجد حالة المرض أخذت طابع المازوشية، فاخذ يتلذذ بالألم وما يعيشه من قهر فيقول: "كلما شبعت جعت أكثر لقد فقدت لحظة اللذة بمعناها الأصلي ص64، ضمن هذا الواقع والحالة غير السوية التي يمر بها الراوي، كان لا بد له من اتخاذ قرارا يحسم أمره، فإما يبقى عاني مما هو فيه، أو يقرر العودة الى البلاد التي تلاحقه وتحرمه من التنعم بالحياة.


الاحلام والكوابيس
هناك حلم واحد وثلاثة كوابيس يسردها الراوي تبين لنا الحالة النفسية التي يمر بها، فهي بمجملها كانت تعبر عما يمر فيه، وفي ذات الوقت تعمق الحالة المرضية التي يعيشها، ففي الحلم الاول كان هناك شيخ مع حمارته انتظره اهل ألبلد يمر كل واحد منهم اصبعه سبابته ويضعه تحت ثدي الحمارة، ويحلب له عليه، فيمص الرجل إصبعه ويهرب فرحا" ص19و20، المقصود من هذا الحلم أن الناس قد شربوا الغباء والجهل شربا عن طريق حمارة ألشيخ وهم سعادة بهذا الجهل والغباء.
اما الكابوس الاول فكان فيه الراوي ملقى على اللوح الخشبي المخصص لغسل الموتى، ... قال ألشيخ لا حاجة الى ألماء إنه يغتسل بدمه، وهكذا ظلت الكلاب تنهشني وأنا حي" ص49، هذا الكابوس يحاكي عناصر الفساد ممثلة بالشيخ، الذي يشكل أحد عناصر الفساد في المجتمع، وكان تواجد الكلاب يرمز للشراسة والنذالة معا.


وفي الكابوس الثاني ايضا كان الشيخ حاضر وفاعلا "مطروح على لوح زجاج، الزجاج يتحطم تحتي، يمسك الشيخ بيدي اليمنى ويضع رجله على كتفي، تفوح النتن من حذائه وبنطاله، وعلى كتفي الايسر يجلس الشاعر يفعل الشيء نفسه، رائحة عطر تزكم انفي، ... اختنق اقف على البرزخ بين الحياة والموت... يخلع الشيخ ملابسه الداخلية يحشرها في فمي، بعصاه يدخلها في حلقي، لا استطيع ألصراخ انه اكثر من ألموت ص99، هنا يكون طرفي الفساد، الديني والسياسي يقومان بقتل الراوي، الذي يمثل الضمير ألحي، فكأنهما يقتلان الخير في المجتمع، وإذا تمعنى بطريقة القتل وجدناها طريقة تحمل شكلا من اشكال التعذيب، وهي ليست عملية قتل عادي.


الكابوس الثالث يتحدث عن حفلة زفاف "يجلس صديقي على منصة ألزفاف والى جانبه تجلس بومة سوداء،... وخلفه تصطف القبور ترقص شواهدها تتمايل، تجلس الهياكل العظمية على الأرض يأتي الطعام،... فيسيل منها المرق على رؤوس حامليها، لحم كثير تأكل الهياكل ألعظمية ص107، بهذا الكابوس ينهي الراوي حديثه عن الاحلام التي ترهقه، وهي في مجملها متعلقة بالأحدث ألروائية فالشخ في الكابوس الاول كان يتماثل مع الواقع عندما اعتدى على البنت التي التجأت إليه، وبعدها اعتداه على بنات ألمؤذن، وفي الثاني كانت التحالف والتعاون بين الشيخ والشاعر، يتماثل مع الواقع الذي جعلهما يتحالفان معا، فيزكي الشيخ الشاعر وفي المقابل يقدم الشاعر المال ويسكت/يتجاهل افعال الشيخ ألقذرة، وفي الثالث كان يحاكي زواج الشاعر من زوجة صديق الراوي الذي استشهد.


إذن الكوابيس كانت تخدم الفكرة التي يريد تقيدمها لنا، مما جعلها ترسخ في الذهن أكثر، إن كان من خلال الحديث الواقعي، أو تناولها من خلال الكوابيس.

الافلام


ايضا يستخدم الراوي الافلام السينمائية لتدعم فكرته ولتأكيد الحدث الذي يريد، حتى انه يربط بين مشهد سينمائي عندما يتم قتل شخصية الانتهازي الاصلع في الفلم، وبين شخصية ألشاعر فكلاهما استخدم الشهداء ليتسلقوا على دمائهم ويستغلوا حدث الاستشهاد، رغم ان لهم دورا بارزا في عملية القتل.
وقبلها تحدث عن فلم يحمل الرمزية عندما قال عنه: "كان الممثل قبل ساعات يجر امه بيده المكسورة، والدم ينزف من جمجمته.. أماه سنعود الى البيت، ظل يجرها ويجر نفسه، حتى دخل ابيت المحترق، وهناك القى بنفسه مبتسما على ركبتها" ص13، وهذا المشهد يتماثل مع عودة الراوي الى القرية ومواجهة جيش ألاحتلال حيث رفض الخضوع لأوامر الجندي فيطلق عليه النار ويستشهد.
وفي الفلم الثالث يتحدث عن "عجوزان يتبادلان الهمسات وللمسات،... كان الرجل يمد يده من تحت تنورتها" ص21، وهنا ايضا يتماثل هذا الحدث مع ما قام به الشيخ من رذيلة بحق الفتاة التي استجارت به وبحق بنات المؤذن.


البيئة الاجتماعية الفاسدة
ليس من السهل ان يتكيف الانسان النقي مع مجتمع يتفشى فيه الفساد والانتهازية وفقدان ألقيم، فهما ضدان، كلا يسير بعكس الآخر، ومن الصعب على الفرد أن يواجه مجتمع بكامله، لأنه سيكون عرضة لهجمات لا يعرف من اين تأتيه، وكما يقول احد الأدباء "الاقوى من يواجه العلم وحيدا" يقرر الراوي، أن يكون هذا الاقوى الذي لن يهادن الفساد الفاسدين، وسيعريهم امام القراء، ولو كأضعف الإيمان، فيقول عن انزلاق المجتمع الفلسطيني نحو ألانحطاط "تأتي شاحنة ألطحين يذهب الجميع، الخباز واللحام وبناء المختار وأبناء الشيخ كل يجر حماره يحمل كيس او كيسين، يأتي الشاعر بسيارته، يتجمع اهل البلد حوله يتسابقون للسلام عليه، يشتد صراخ الناس
ـ انا ما اخذت
ـ مهو انت عندك مئة غنمة لشو جاي
ـ اللي منهم احسن منهم" ص92، بهذا الشكل ينزلق المجتمع صاحب الكرامة نحو ألانهيار، الكل يركض خلف ألمعونة، المقتدر والمحتاج يسعون لاهثين للحصول عليها، المشهد السابق يبين لنا حجم المأساة التي يعاني منها المجتمع، فعندما صور لنا الراوي مشهد الخباز واللحام وابن المختار وابن ألشيخ، كانوا كلهم مقتدرون وليسوا بحاجة لمثل هذا الإذلال، لكن انحدار المجتمع نحو مفهوم ألأخذ وفقدان مبدأ ألعطاء جعل الكل دون استثناء يشارك في الانحطاط.
نقمة الراوي على الوضع الفلسطيني كبيرة، وهو يتكلم بحرقة، ومن باب الحرص على الوطن والشعب معا، فمن خلال هذا الحوار يبن لنا حجم المأساة التي يمر بها الفلسطيني:
"ـ هزيمتنا مزدوجة، داخليا وخارجيا، الغريزة التي جعلتك ثوريا ستجعلك تلهث وراء كيس الطحين
ـ لا تقرفني بفلسفتك..
ـ لا تكمل، كيف نكون وزراء وثوارا؟ مقاتلين ومترفين؟ أيه نظرية هذه؟
ـ مش عارف، ربما نصبح نموذجا فريدا.


ـ نحن نموذج فريد في صناعة ألهزيمة تقف على ألحاجز يمر من جانبك ألوزير يشير إليه الجندي بالعبور، ينظر الى الناس بعين مفتوحة" ص101، اعتقد، ليس هناك مثلا يشابه/يماثل الواقع الفلسطيني، الرئيس والشعب يمر من نفس المعبر حيث يقف جندي ألاحتلال، والذي يستطيع ان يوقف الرئيس بعينه، فلا احد كبير عنده، ونقول عن انفسنا نحن شعب حر ويرد الحرية!.


بهذا المشهد يكون الراوي قد واضع اصبعه على الجرح، وتكلم بمنطق، من هنا، إذا راد الشعب الحرية فعليه ان يغير من واقع المعادلة ألقائمة، فهي تطيل زمن ألاحتلال وتجعل الشعب والقيادة يغرقان أكثر في مستنقع المناصب والمراكز.


الراوي يعري الفاسدين بصرف النظر عن مكانتهم وموقعهم، فها هو يعري إمام المسجد الذي مارس الفاحشة مع من استنجد به، "ألقى اهلها القبض عليها مع عشيقها في احد ألوديان فهربت لتطلب حماية شيخ ألمسجد، وأنها خرجت تصرخ امام المسجد بان الشيخ ضاجعها اكثر من مرة" ص29، المس بمثل هؤلاء الرجال يعد امرا غير مستصاغ، غير مقبول اجتماعيا، لكن الراوي يريدنا أن نستيقظ من غفوتنا وان لا نكون سذج، وان ندقق في كل كبيرة وصغيرة، فالكل يجب أن يكون تحت المسائلة.
لن يكتفي الراوي بالحديث السابق عن رجل الدين، بل يؤكد لنا سلوكه غير ألسوي والذي يتعارض مع ابسط القيم الاخلاقية، فيروي لنا هذه ألحادثة: "كان الشيخ خارجا ن منزل بنات المؤذن إللي مات، كان يضحك، .. قرصها في خدها...


ـ خير يا شيخ؟ قال الشيخ: كنت أحضر لهؤلاء اليتيمات ما تجود به النفس من ألصدقة فرد ابو فوزي: في منتصف ألليل، قال ألشيخ: والذين ينفقون في السر والعلانية، الصدقة المخفية اكثر حلالا وقبولا" ص69، بهذا يكون الراوي قد وضع البعض من رجال الدين في القائمة ألسوداء، فهم لا يقلون انتهازية وفسادا عن الآخرين، بل هم اكثر خطورة على المجتمع من الآخرين، حيث يتخفون خلف ألعباءة، ويتسترون بالدين الذي من المفترض ان يكون حراسا عليه، لا منتهكين لحرمته وحرمة الناس.


بعد تناول رجال الدين ينقلنا الراوي الى تعرية المتنفذين في المجتمع والسلطة، فيحدثنا عن اكثر شخصية "الشاعر" فاسدة، والتي تمثل السبب الرئيسي لما يعانيه الراوي من ألم ووحدة، فيقول عنه: " وشرحت له كيف تحول الشاعر من مراقب لنا الى ممثل لمنطقتنا في ألقيادة قال الناس إنه ذهب الى المدينة وألقى القصائد في المناسبات والأعياد، وأنه يأتي كل يوم جمعة ويصلي مع الناس في ألمسجد ويذبح عجلا، كان الإمام يشرح للناس عظمة الدين الحنيف الذي يجب ما قبله، وكيف تحول عمر وخالد وأبو سفيان من جبابرة تأخذهم نزوات الحياة الى متفانين في خدمة هذه الدعوة والرسالة" ص68، في المشهد السابق يخبرنا الراوي عن مجموعة افعال يقوم بها ألانتهازي، اولا القاء ألقصائد، ثانيا يصلي مع ألناس، ثالثا يرشيهم بلحم العجل، ورابعا يستعين برجل الدين كدعاية له، وهنا يكون الفساد قد اخذ شكل الطبقة المتكاملة، ولا تتعلق برجل واحد، بل بالمجتمع بأسره.


الثقافة الروائية
هناك مجموعة من الثقافات المؤثرة في شخصية الراوي مثل اغاني عبد الحليم حافظ، "وسترجع يوما يا ولدي" ص14، ضي القناديل والشارع الطويل" ص31، وأيضا بفيروز ووديع الصافي، "سألوني الناس عنك سألوني" ص83، مرقوا الحصادين مرقوا طيور البرد" ص86، بديت القصة قي اول شتي" ص87، فكل هذه الاغاني تترك اثرا واضحا في مستمعها، لما فيها من شاعرية، وأفكار انسانية، وتقديمها بصوت جميل.


ويستحضر الراوي بعض الايات من القرآن ألكريم لكنه يجعلها مضمونها سلبيا، بمعنى ان من يستخدمها من ألشيخ كان يراد من خلالها التغطية على مساوئه، وأيضا مساوئ الشاعر الذي كان يعتمد على فتوى الشيخ: "إن الله اشترى من المؤمنين انقسهم وأمالهم بان لهم ألجنة ص55، هذه الايات قالها الشاعر لكي يتسلق من خلالها على ظهر الشهيد ويرفع من رصيده أمام الناس.


والحضور الثاني للآيات القرآنية جاء على لسان الراوي الذي حذر الناس من الشاعر وأمثاله فقال: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" ص56، والآية الثالثة جاءت في رسالة زوجة صديق الراوي التي تزوجت من الشاعر فتقول: "يا ايها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون" ص102، طبعا هذا يشير الى ثقافة الكاتب المتشعبة والمتنوعة، فهي ثقافة لا تضع محذورا أمام أيا من مصادر الثقافة ما دامت تخدم الانسانية.
الزمن
كان الشتاء مهيمنا على كافة احداث ألرواية إن كانت في البلاد التي تركها الراوي، ام في تلك التي سافر إليها، فكان استخدام "المطر، البرد" في اكثر من موضع، حتى انه تناوله اكثر من اثنى عشرة مرة، وهذا يشير الى ذاكرة الشتاء وما تحمل من الم في نفس الراوي، "انني اهرب هنا في هذه البلاد الباردة" ص10، "زخات المطر تطرق الشباك الحديدي" ص44، "سمعت صوت الرعد، بدا المطر ينهمر" ص50، "اغير ملابسي، افتح الباب، يلفح البرد وجهي" ص113، هناك العديد من مثل هذه الشواهد التي تؤكد وقت ألحدث، فكأن الراوي يعاني من ألشتاء، فهو يمثل له ألم، ويجعله اسير لذكريات مأساوية.
صورة الاب السلبية
كأن الاب يشكل عقدة عند العديد من الكتاب من هنا يقدموه لنا بصورة سلبية، ونادرا ما تم تجاوز هذه ألفكرة، الراوي يحدثنا عن ابو الكامل الذي ينصب الشر لابنه لأنه ضياع الحمار فيهدده بهذا ألشكل "ـ انا خايف أروح ع الدار
ـ شو صار؟
الجحش شرد، وبوي قلي إذا ما بتلقاه إلحقه، لانه احسن منك.
ـ انا بروح لعنده
ـ يا ريت، لأنه الكرباج أكل من ظهري" ص113، رغم الوضع النفسي الذي ورثه الكامل عن ابوه، نجده يعامل كشخص كامل وناضج، وهذا يتنافى مع ابسط المسائل الإنسانية، لكن قسوة الاب لا ترحم السوي أو غير السوي.


نظرة الغرب للفلسطيني
ما يمز هذا العمل الروائي استحضار بعض الافكار التي يحملها الغرب عنا، فجاءت اقول صديقة الراوي الفرنسية توضح هذه الرؤية فتقول: "انتم تريدون كل شيء، لذلك تخسورن كل شيء" ص109، فنحن نريد الدنيا والآخر معا، ونريد أن نتمتع بها دون ان نقدم أي شيء، دون ان نتعب او نقوم بأي مجهود.


"الفرد منكم يعكس ازمة الأمة يريد ان يتزوج اربع نساء، ويتمتع بلذائذ ألدنيا ويجعل من هذا عبادة" ص110، ربط كل افعالنا بالعبادة، حتى الجنس/الزواج يقدموه لنا على انه عبادة ويثاب عليه المؤمن دون سواه، جعل من الدين يأخذ صفة الاهتمام بالمسائل التافهة وغير ذات أهمية، فالجدر ان يتم الحديث عن مشاكل المجتمع، التي يتمزق تحت فتوى هذا الشيخ او ذاك.


"خصوصيتكم... اتركوا الكمبيوتر والكوكا كولا والجينز ومطاعم الوجبات ألسريعة وبعدها تحدثوا عن خصوصيتكم" ص111. عندما نتعرض للضغط او نحشر في زاوية ولا نستطيع الرد، نتحدث عن خصوصيتنا، طبعا هذا هروب من مواجهة ألعصر والتقدم من حل مشاكلنا التي تستفحل يوما بعد يوم.


النبل والشهامة
رغم حجم الفساد والالم الذي يغطي كافة احداث الرواية قدم لنا الراوي هذا المشهد لكي لا يجعلنا نعيش في حالة قاتمة من ألسواد، فكان هذا الخط الابيض يطفي شيئا من الامل في نفوس القراء، "الموضوع: استقالة
... وجدت انني امارس دورا مزدوجا في تعميق حالة التراجع والفساد، لأننا نقوم بدور شهود ألزور لأننا لسنا وزراء ولا نملك أي قرار، وإذا امتلكناه فإنه لا يتعدى توظيف مستخدم او عزله" ص114، بهذا الشكل يثور الراوي على واقعه، ويقرر التخلى عن المهزلة التي يقوم بها، مشاركا الآخرين فيها، فهو يمثل صحوة ألضمير، ورغم انه يعيي بأن قراره لن يشكل ضغطا كبيرا على ألوزارة، إلا ان قراره يمثل ضربة موجعة لكن المشاركين/العاملين.


العنوان وصورة الغلاف
هناك علاقة وطيدة بين عنوان الرواية "القادم من ألقيامة" بمعنى القادم من بلاد مقلوبة رأسا على عقب، فلسطين بعد اتفاقيات ارسوا انتشر فيها التكالب على المراكز النفوذ والوظائف الحكومية، كانتشار النار في ألهشيم كما وجدنا الشعب ينزلق نحو التسول بعد ان تخلى عن ابسط اشكال ألكرامة، فوجدنا الغني قبل الفقير يلهث خلف المعونة.


اما صورة الغلاف فهي شخص يقف تحت زيتونة والظلام يعم اللوحة، بستشناء افق ابيض ينظر اليه الشخص ألواقف، والذي يمثل النظره الى الخارج وترك "بلاد الأنبياء بلاد الزيتون.


تسمية جغرافيا محددة كان غائبا في النص الروائي وكذلك الامر بالنسبة لتسمية ألشخوص، فإذا ما استثنينا "ياسمين" زوجة ألشهيد و"الكامل" الشخصية البسيطة نكون امام نص لا يلقي بال لتسمية الشخوص.
الرواية من منشورات مركز أوغريت، رام الله، طبعة اولى 2008.