نشر بتاريخ: 06/10/2015 ( آخر تحديث: 06/10/2015 الساعة: 11:33 )
الكاتب: د. حسن أيوب
كتب د. ناصر اللحام في توصيف الحالة الراهنة في المناطق الفلسطينية المحتلة، بأن مايجري هو أبعد وأكبر من أن يكون "انتفاضة ثالثة" مستندا في تحليله إلى فكرة أن مصطلح "انتفاضة ثالثة" هو اختراع اسرائيلي، وبأن ما يحدث هو "إتمام معركة التحرر الوطني" وليس انتفاضة. في هذا السياق يقدم الكاتب صورة نمطية للانتفاضة باعتبارها تحطيم للبنى القائمة وتعطيل للحياة العامة، ورديفا للفوضى. تنطوي المقالة على بعض المغالطات التي لا بد من التوقف عندها.
أولا، يفتتح د. ناصر اللحام مقالته بالقول بأن مشكلتنا هي في أننا لا "نؤمن بقتل اليهود من أجل تحرير فلسطين" وأننا "نحاول منذ عشرات السنين تحرير فلسطين بالتفاهم مع أمريكا وإسرائيل"، وفي ذلك نصف حقيقة. صحيح بأنه لم يكن لدى الشعب الفلسطيني وقواه الحية إيمان "بالقتل" كغاية بحد ذاته، ولا قناعة بأن المسألة الفلسطينية هي مسألة ذات صلة باليهودية كدين وعقيدة إيمان. يرى الفلسطيني بأن هذا الصراع هو صراع مع قوة استعمارية-استيطانية من نوعية فريدة، تجد سندها في العالم الغربي وقواه العظمى. لذلك لم يكن خيار الفلسطينيين منذ عشرات السنين هو التفاهم مع هذه القوة وحليفتها الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذا الخيار كان خيار قوة بعينها من بين القوى التي تشكل حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وعمره قد تعدى العقدين بقليل، وما يجري اليوم في المناطق المحتلة -في جزء كبير منه- هو من علامات إخفاق هذا الخيار، وفشل استراتيجة التفاهم مع إسرائيل وأمريكا. هي إذن ليست "مشكلة الشعب الفلسطيني" في تبنى هذا الخيار، بل مشكلة الجهة التي تبنته وروجت له ودافعت عنه بقوة حتى في ظل الأوضاع الراهنة.
إن الحديث عن "انتفاضة ثالثة" ليس مجرد "تراكم عددي" كما يقول اللحام، بل هي محاولة قراءة الحدث الراهن من منظار انتفاضتين سابقتين لكل منهما خصائصه وسماته، ما يجعلهما حالتين مختلفتين تماما. بحسن نية على الأغلب، يلصق الكاتب المصطلح بالإعلام الاسرائيلي، الأمر الذي يلقي بظلال كثيفة من الشك على الفعل "الانتفاضي" (إن صح التعبير) باعتباره "مكيدة" أو مصلحة اسرائيلية، وهذا يتناغم مع ادعاءات البعض بأن إسرائيل تريد جرنا لانتفاضة ثالثة.
في الحالتين يترسخ في ذهن المواطن بأن من عدم الحصافة الانجرار وراء "المكيدة". وبغض النظر عن الجهة التي نحتت مصطلح "الانتفاضة" فإن هذا المصطلح يرتبط في الذاكرة الجماعية الفلسطينية بتلك الحركة الشعبية المنظمة والشاملة والفاعلة -وأجرؤ أن أقول الديمقراطية- التي شهدتها المناطق الفلسطينية المحتلة بين الأعوام 1987-1991. من ناحية ثانية فإن وضع الانتفاضتين الأولى والثانية في ذات السياق ودون تمييز يصب في طاحونة التخويف من الانتفاضة.
إنه في حين كانت الانتفاضة الأولى انتفاضة إرادة وأمل وتنظيم سياسي كفاحي وراء قيادة موحدة وغاية جامعة (ولا أريد أن أدخل في التفاصيل)، فإن الثانية كانت انتفاضة مغايرة تماما وانتهت إلى ما نعرفه جميعا من فلتان وفوضى وخراب. إن وضع التجربتين في ذات السياق من شأنه أن يخلق الانطباع بأن الانتفاضة إنما هي رديف الفوضى والخراب والخسران، وفي ذلك مغالطة كبرى لا ينبغي لإعلامي حاذق أو مراقب حصيف أن يقع فيها.
أتفق تماما مع د. ناصر اللحام بأن الشعب الفلسطيني لا يريد أن يعطل الحياة العامة، ولا أن يدمر ما تم إنجازه من بنى وهياكل وطنية ومدنية، كما لم يتقدم أحد للحديث عن حل السلطة الفلسطينية. لا يجوز بحال إن تقدم الانتفاضة باعتبارها عملية تحطيم للمقدرات. إن حالة التمرد على الاحتلال هي مخرج موضوعي وضروري للعلاقة المشوهة التي نشأت بيننا وبين الاحتلال منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وهي العلاقة التي أنشأتها ورعتها السلطة الفلسطينية. إن الأصل في هذه العلاقة هو التناحر والصراع، وليس التفاهم والتعايش مع الاحتلال. ما يحدث اليوم في المناطق الفلسطينية هو في سياق إعلان فساد هذه الحالة المشوهة ووصولها إلى مداها الأقصى، وهو إعادة الأمور إلى نصابها من حيث أن التناقض بين المحتل والخاضع للاحتلال لا بد له من حل جذري لا سبيل إلى تحقيقه بدون وجود حالة شعبية عامة متمردة على الاحتلال ومنتفضة بوجه ممارساته. علاوة على ذلك فإن إدراك الفلسطينيين لهدف إقامة "دولة ثورية مستقلة" على حد تعبير د. اللحام (دعك من غموض مفهوم دولة ثورية!) لا يمكن له أن يتجاوز الصدام الحتمي مع الاحتلال بكل بناه وومارساته، مما يجعل المواجهة حتمية سواء كان اسمها "انتفاضة ثالثة" أو غير ذلك. المسألة لا تكمن في التسميات هنا بل في تمحيص الواقع.
إن حديث د. اللحام مرة ثانية في مقالته عن "العودة إلى الفوضى" في سياق نفيه للانتفاضة كخيارشعبي يكشف عن إصراره على إلصاق تهمة "الفوضى" بالانتفاضة، أيا تكن هذه الانتفاضة، وربط ذلك بخيار حل السلطة إنما يأتي في سياق التخويف من والتشكيك بالانتفاضة كفعل كفاحي جماعي منظم يأخذ شكله الأرقى في حالة العصيان المدني. إن وجود السلطة الفلسطينية ليس غاية في حد ذاته، بل كان مشروعا مؤقتا، وتحول إلى الاستدامة بفعل عوامل عديدة لا مجال لذكرها هنا، لذلك فإن افتراض وجود تلازم بين الانتفاضة وحل السلطة هو اعتباطي بأحسن الأحوال. المعضلة الأكبر التي تواجهنا اليوم هي ليست فيما إذا كنا أمام انتفاضة ثالثة أم لا، بقدر ما هي معضلة غياب القيادة السياسية القادرة على تأطير وتنظيم الفعل الكفاحي المتصاعد في المناطق الفلسطينية نحو الوصول إلى ما يريده د. ناصر اللحام: "معركة الاستنزاف الأخير". إذ لا يبدو بأن هذا الخيار مطروح على طاولة القيادة السياسية الفلسطينية.
في ظل غياب هذا الشرط الذاتي فإن ما يبشرنا به د. اللحام من أن هذه المرحلة "هي مرحلة غير محدودة بزمن" هو في محله من زاوية أن الفلسطينيين اليوم بحاجة لقيادة تؤمن بهذا الخيار الكفاحي أيا كانت تسميته. إلا أن هذه "البشرى" تصبح خطيرة ومحبطة إذا ما اختلقنا حالة التناقض بين الانتفاضة كما عرفناها هنا، وبين البنى القائمة في المجتمع الفلسطيني وكياناته السياسية. المسألة تكمن تحديدا في أن التباين الخطير بين إرادة الشارع الفلسطيني، وبين الإرادة السياسية لقيادته هو الخطر الأكبر الذي يتهدد أي فعل فلسطيني كفاحي للخلاص من الاحتلال سواء أسميناه انتفاضة (بغض النظر عن رقمها)، أم "معركة الاستنزاف الأخير".