نشر بتاريخ: 11/10/2015 ( آخر تحديث: 11/10/2015 الساعة: 14:38 )
الكاتب: عيسى قراقع
اكمل امتحان الجغرافيا في مدرسة ذكور مخيم عايدة الابتدائية، ركض الى
الشارع وهو لا يدري ان الجغرافيا الجديدة قد نصبت له فخا على اطراف
المخيم، بوابة حديدية اغلقت مدخل المخيم،برج حراسة عسكري اسرائيلي يصطاد
الاولاد في صمت الظهيرة يوم 5/10/2015.
ينطلق الطفل عبد الرحمن عبيد الله مع سائر الاولاد الى اللعب في هذه
المساحة الضيقة، المكتظة الغاضبة المستنفرة الصارخة الداكنة التي تسمى
مخيم، وخلفه يتربع دير الراهبات، يدق اجراسه معلنا ان مستوطنة (جيلو)
تقبض على انفاس الصلاة واشجار الزيتون وآبار المياه.
ويركض عبد الرحمن، لا شمال ولا جنوب، هي الازقة تستوعبه وتضمه الى صدرها،
تصير انفاس اللاجئين فضاء، وحكاياتهم حافزا لإكمال الرواية حتى مطلع
الفجر، وما اكثر الابطال المذبوحين في النصوص ، وما اكثر القصص التي ظلت
بل اشلاء.
تحت علم الامم المتحدة المرفوع فوق بوابة مكتب وكالة غوث اللاجئين في
مخيم عايدة، وتحت زيتونة خضراء يانعة، سقط الطفل عبد الرحمن عبيد الله
(13) عاما، برصاصة قناص اسرائيلي اخترقت القلب، سال الدم، وسال الزيت
مشعا على الارض معلنا حلول موسم القطاف.
طارت الفراشات من جسد الطفل الشهيد، اتكأ على حقيبة مدرسته وقلم الرصاص
وكتاب التاريخ، رأى المعلم يملأ السبورة السوداء بالابيض، ويعلن انتهاء
الحصة اليوم، والاستعداد غدا لدرس الحساب.
سقط عبد الرحمن، ظلت عيناه مفتوحتان، حاول الاطباء اغلاقهما دون جدوى،
وكانت صورة الجندي القاتل واضحة على شبكية عينيه، عين عبد الرحمن تحدق في
عين الجندي، وبينهما مسافة رصاصة منذ النكبة حتى تتويج النصر بدم الاطفال
في شواراع غزة والناصرة.
تحرك مفتاح حق العودة المعلق على بوابة المخيم، تدلى الى جسد الطفل يفتش
عن قفل وباب، القلب يضخ، والملاك يرتفع رويدا رويدا فوق البحر والقرى
المطردوة من المكان، الملاك يشرق من شرفة الغياب.
علم الامم المتحدة اقترب من جرحه واعتذر، صمتت كلمات الرئيس ابو مازن وهو
يطالب الامين العام للامم المتحدة بتوفير الحماية الدولية للشعب
الفلسطيني، طوى الرئيس صوته ومشى في الجنازة، يدفع الليل عن بصر التراب.
قالت والدته: هل يكفي ولد واحد ان يحفر رعده في جوف الموت ويغيب عن
المدرسة؟ ما اشد حاجته لي الآن، يربت بيديه عن كتفي لتهب الريح ويسيل
الحليب بين نبضات القلب، وليكون البعيد شريانا للقريب.
ايها الطفل اللاجيء القادم من بقايا المذبوحين، المخيم ضاق فيك حتى
انكسرت عضلات جسمك، لم يطعك اسمك، تشعر انك مهجور منذ الازل، وان هناك من
يناديك ويضمك الى اسمائه العاليات.
ولأنك تسمع كل من عاد من السجن، شبان كبروا في الظلمات، شبان لم يعودوا
من المؤبدات، صانوا كرامة الوجع التاريخي سنين طويلة، ظلوا يبحثون عن
الناقص في هذا السلام، تقتلهم الذكريات، وتقتلك الرصاصة الغادرة.
ولأنك كنت تراهم، مستعربون بمسدسات الاعدام في رام الله ونابلس والخليل،
قناصة آليون يضغطون على الزناد كلما حرك ولد نشيده في الجهات الخمسة من
القدس.
وتراهم بحاستك الطفولية السادسة، وهم مقنعون يقتحمون البيت والنعاس،
يعتقلون الليل الصارخ بالقيود، تترك بقية منامك لترى كيف في الفجر تموت.
هذا النهار بارد فوق الكنيسة، لازالت الاطارات تشتعل في الشارع المؤدي
الى الصلاة، شعب يتكيء على خاصرة حجر، وعبد الرحمن يعبر كالقمر الآن من
البيت المقدس الى المخيم واقفا على قدميه، ويمتد في خطوات البشر.
عندما حمل الناس تابوت الملاك، سمعت الشاعر احمد شوقي يردد:
ففي القتلى لأجيال حياةٌ
وفي الاسرى فدى لهم وعتقُ
وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يد مضرجة يدقُ