الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

محنة البعض من المثقفين العرب

نشر بتاريخ: 24/10/2015 ( آخر تحديث: 25/10/2015 الساعة: 09:50 )

الكاتب: نعيم الأشهب

بقلم: نعيم الأشهب
غني عن القول ان الحديث لا يدور عن تلك الفئة من المثقفين الذين باعوا ضمائرهم قبل أقلامهم في سوق النخاسة الخليجي والغربي ، وانما ذلك القطاع من المثقفين الذين تسرّعوا ، منذ البدء ، في تبني أحكام مطلقة من الأزمة السورية وغدوا أسرى لتلك الأحكام ، بحيث راحت التطورات العاصفة في هذه الأزمة تكشف عن مفارقات في مواقفهم تتفاقم كلما أوغلوا في تقييمها بالاستناد الى تلك الأحكام المطلقة ، وليس لأحكام نسبية ، كما تفترض المفاضلة ، ومن منظور أحادي الجانب وليس متكاملا للوضع الملموس.
كان تحديد هذا البعض من المثقفين موقفهم المطلق من النظام السوري ، استنادا الى السجل غير المشرق لهذا النظام في مجال الحريات الديموقراطية في الأساس ، وهو سجل لا يمكن الدفاع عنه ، كما لا يمكن الدفاع عن الأسلوب الذي تعاطى به ، في البدء ، مع الحراك الشعبي لدى اندلاعه في سبيل مطالب عادلة. لكن هذه الأحكام أهملت طابع التطورات اللاحقة ، وفشلت في رصد التدخل المبكر للتحالف الغربي - الخليجي - الاسرائيلي في الأزمة ، وتحويل مسارها من مشكلة سورية محلية الى اقليمية - دولية، وتحويل أهدافها من اصلاح النظام الى استهداف ليس فقط النظام ، بل وقبله وأهم منه سورية ذاتها، وحدتها الجغرافية والسكانية ومكانتها وتراثها.
واذا كانت المنطقة مستهدفة من واشنطن لفرض مشروعها "الشرق الأوسط الكبير" الذي أطلقته ادارة بوش الأبن عقب غزو كل من أفغانستان والعراق، فان تحالف كل من سورية وايران والمقاومة اللبنانية شكّل القوة الضاربة التي تصدت لهذا المشروع الامبريالي وأفشلته حتى الآن. وفي هذا الاطار الأوسع من سورية ذاتها ، ليس من النزاهة السياسية ولا الأخلاقية انكار دور النظام السوري في التصدي لهذا المشروع البالغ الخطورة على المنطقة وشعوبها ومستقبلها، ولا انكار دوره في دعم المقاومة اللبنانية في التصدي للعدوان الاسرائيلي على لبنان ، بخاصة عدوان 2006، في اطار المسعى لضرب حلقات التحالف الذي يتصدى للمخططات الامبريالية في المنطقة؛ ولا النيل أو التقليل من دوره في عرقلة ومنع أخذ سورية خلال حرب كونية قاربت اكمال عامها الخامس ؛ اللهم الاّ اذا كان هذا النفر من المثقفين العرب يتمنى هذا السقوط للنظام السوري ولو بأيدي عصابات الارهاب السلفية لاشباع شهوة الانتقام ، التي تسيطر على عواطفهم ، من هذا النظام.
بمعنى آخر، فأحكام هذا البعض من المثقفين العرب ضد النظام السوري تحرّكها نوازع الانتقام على ممارساته السابقة ، وليس الحرص على ما هو أكير وأهم من ذلك بكثير، وهو سورية ووحدتها المعرّضة ، اليوم، لأشد المخاطر من الحرب بالوكالة التي تنظمها واشنطن ضد سورية ، ولا الحرص على وضع حد لمآسي وآلام شعبها التي فاقت كل وصف ؛ أي حصر الرؤية على الشجرة واغماض العين عن الغابة من ورائها، بل وأبعد من ذلك اغماض العين عن المؤامرة الرهيبة على المنطقة بكامها.
وتحت تأثير شهوة الانتقام هذه ، ينسب هذا البعض الى النظام السوري ليس فقط كل جرائم عصابات الارهاب التي تقاطبت على سورية من أكثر من مئة دولة ، بل وأكثر من ذلك ، يبررهذا البعض ، عمليا ،الاصطفاف مع كل من يعادي سورية ، بدءا بالغرب الامبريالي ، مرورا بحكام الخليج وانتهاءا باسرائيل. أي أن ما يستولي على كامل اهتمام هذا البعض من المثقفين هو اسقاط النظام في سورية ، باعتباره الأولية والأفضلية على أية قضية أخرى ، وليس تخليص سورية وشعبها ، أولا، من براثن الارهاب السلفي المتعدد الجنسيات الذي يستهدف البشر والحجر؛ متجاهلين بعناد يحسدون عليه بأن البديل الجاهز، حاليا، للنظام السوري القائم ليس بديلا أفضل منه بأي معيار من المعايير، وانما عصابات القتل والتدمير ، من داعش والنصرة وأمثالهم ،
أكثر من ذلك ، فهذا البعض من المثقفين العرب يتبنى ، عن وعي أو بدونه، خديعة واشنطن واسرائيل في شخصنة القضية. فاسقاط شخص الأسد هو الذي ينهي كل مشاكل سورية ! وفق هذا التشخيص . بالأمس كانت اسرائيل تردد بأن عرفات هو المشكلة والعقبة في وجه التسوية السياسية للنزاع الاسرائيلي – الفلسطيني ؛ والواقع الفلسطيني القائم اليوم أبلغ رد على ذلك ، كذلك ردد ت واشنطن وأتباعها أن صدام حسين والقذافي هما المشكلة ، وبشاعة ما حلّ بالبلدين بعد اقتلاعهما ، ليس بأيد وطنية وانما على يد الغزاة الامبرياليين لا يحتاج الى مفاضلة.
وتبلغ مفارقة هذا النفر من المثقفين العرب ذروتها في تعاطيهم مع الحضور العسكري الروسي في سورية ، بناءا على دعوة من النظام القائم فيها. فبينما صمتوا صمت القبور، على مدى أكثر من أربعة أعوام ، عن مختلف أشكال التدخل الغربي بزعمامة واشنطن ، وحكام السعودية وقطر وتركيا واسرائيل في هذه الأزمة ، فانهم ينضمّون الآن الى الزعيق مع كل هذه القوى وفتاوى شيوخها المرتزقة للمناداة بالجهاد ضد الروس وضد عدوان الامبريالية الروسية لضرب الثورة في سورية – ثورة داعش والنصرة وأمثالهما ! . ويبدو أنهم لم يعودوا يشعرون بالحرج في أن يشكّلوا أحد مكوّنات جبهة الأعداء ، لسورية والشعوب العربية.
ويرفض هذا البعض أن يرى بأن الحضور العسكري الروسي حسم وأسقط ، منذ لحظته الأولى ، خطرين كانا يتهددان السيادة ووحدة الأراضي السورية ، الأول : وضع هذا الحضور حدا لعربدة الطيران العسكري الاسرائيلي في الأجواء السورية ، والذي قام بأكثر من عشر غارات عدوانية ، منذ اندلاع الأزمة السورية ، وذلك في اطار دعم العصابات الارهابية . وعلاقة اسرائيل بهذه العصابات لم تعد سرا وبخاصة تنظيم النصرة ، الذي قدّم الاسرائيليون له مختلف أنواع الدعم والمساندة، سرا وعلنا، وعلّقوا الآمال عليه لتشكيل كيان عميل مماثل لكيان لحد وسعد حداد ، في مرحلة معينة ، جنوبي لبنان. والخطر الثاني - هو خطر اقتطاع قسم حساس من الأرض السورية المتاخمة للحدود التركية ، كما كان يطالب بالحاح متصاعد أردوغان ، بدعوى اقامة منطقة عازلة يحشر فيها اللاجئين السوريين ، الذين جعل منهم رهائن لتبرير تطلعانه التوسعية.
في الوقت ذاته ، حسم هذا الحضور العسكري الروسي موضوع آلية تغيير النظام في سورية ، بوضع حدّ لأوهام تحقيق ذلك بالعنف ، وانما عبر الآلية السياسية ووفق ارادة الشعب السوري وحده . في الوقت ذاته ، وضع هذا الحضور العسكري الروسي الولايات المتحدة وحلفها الذي أقامته منذ آب العام الماضي ، والذي ضم ستين دولة، في مأزق لا يحسدون عليه. فقد زعموا أنه تحالف لمحاربة داعش ، بينما كان هذا التحالف يشكل ،عمليا، غطاءا لهذا التنظيم الارهابي ، ولم يمنع أو يعرقل تمدده على الأرض ، سواءا في سورية أو العراق . وجاء الحضور العسكري الروسي ، وعملياته الفعالة خلال أيام معدودة فقط ، ليعرّي مسرحية واشنطن المأسوية ، ويتحداهم ، ان كانوا جادين في محاربة هذا التنظيم وبقية عصابات الارهاب في المنطقة للتنسيق معا ؛ لكن أول رد فعل لهم على هذا التحدّي هو اسقاط خمسين طنا من الأسلحة لنجدة هذه العصابات من الجو ، كما أعلنت المصادر الأميركية ، بدعوى أنها دعم للمعارضة المعتدلة ! علما بأن شهادة جنرال رفيع أمام احدى لجان الكونغرس ، مؤخرا، كشفت أن عملية تدريب الأميركيين لما يسمى بالمعارضة المعتدلة تمخضت ، بعد انفاق خمسماية مليون دولار، عن أربعة أو خمسة مقاتلين ، أما البقية فقد تحوّلوا الى داعش وأخواتها، فهل هذه النتيجة مقصودة أم بالصدفة؟!
وفي الحقيقة، جاء الحضور العسكري الروسي في سورية تجسيدا لالتقاء مصالح أمنية من الدرجة الأولى . فسورية التي تواجه عدوانا قارب الخمس سنوات من تجمع دول بحجم الولايات المتحدة وبريطايا وفرنسا والسعودية وقطر وتركيا واسرائيل ، بحاجة ماسة لدعم يعادل هذا الكم من الأعداء ؛ وروسيا من جانبها تعي جيدا أن انتصار الارهاب السلفي في سورية سيعني انتقاله الى القفقاس الروسي . فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه ، بدأت الولايات المتحدة العمل المحموم على خطين متوازيين ، داخلي وجارجي ، بهدف تفكيك روسيا ذاتها واضعافها الى أقصى مدى . فعلى المستوى الروسي ، تحريض وتمويل عصابات المتمردين في الشيشان وداغستان وانغوشيا وغيرهم؛ أما على نطاق محيط روسيا من الجمهوريات التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي ، فكان التسليح والتمويل والتحريض ، لافتعال صدامات بين روسيا وجيرانها؛ والأزمتان الجورجية 2008 والأوكرانية العام المصرم شواهد على ذلك.
أما ذلك النفر من المثقفين العرب الذين يغرّدون ، اليوم، في معسكر أعداء الشعب السوري والشعوب العربية ، فلعل التطورات العاصفة الجارية ، اليوم ، في سورية والمنطقة ، تحفز البعض على مراجعة قناعاته السابقة ، وعدم معاندة الحقائق الدامغة على قاعدة :"عنزة ولو طارت !".