نشر بتاريخ: 01/11/2015 ( آخر تحديث: 01/11/2015 الساعة: 14:26 )
الكاتب: المتوكل طه
لأن الخطر، من العمق والحجم والأدوات، ما يستدعي أن لا نتبادل مجرد التطمينات، أو المواقف المكرورة والمعروفة، فإن الأحوال في الأقصى والقدس ليست بخير، كما أن المواقف منها ليست كما يجب ولا كما يليق. هناك مخاطر تهويد وتصفية حقيقية، وهناك محاولات دؤوبة لتكريس وشرْعنة الاحتلال الى الأبد، وهناك تراجعات حقيقية على كل المستويات، وهناك محاولات لاستبدال أو تغيير الأجندات أو الأولويات. هذا الخطر، وهذا الواقع، يستدعي أن نتكاشف حقاً، مكاشفة حارقة وحادة، مكاشفة هي مقدمة أولى للعلاج، ومن ثم لتعديل الرؤية والسلوك، وصولاً إلى تغيير النتائج.
وإذا كان الحديث عن الإعلام ودوره في قضية القدس خصوصاً، والقضية الفلسطينية عموماً، فإننا نتحدث عملياً عن المقولة السياسية الرسمية، فلا يمكن للإعلام أن يسبق السياسة، ولا يمكن للإعلامي أو الوسيلة الإعلامية الرسمية أن تقفز على السقوف السياسية أو تتجاوزها أو تناقضها. الإعلام الرسمي بكل أنواعه وأدواته ومصطلحاته، هو ترجمة أو تفسير أو تبرير أو تغطية أو شرعنة للخطاب السياسي، وبالتالي، إذا حصرنا كلامنا على الإعلام الرسمي العربي، ودوره في التعبئة أو التحريض أو الرد أو الفضح – كما يحلو للبعض أن يسميه – أو إنتاج مقولة إعلامية تشكل رداً حضارياً ومقاوماً، فإن أمام هذا الإعلام من المعوقات مايكفي، حتى يفشل في هذه المهمة تماماً، وذلك للاسباب التالية:-
أولاً: إن ثمة استقطاباً حقيقياً في المواقف السياسية من القضية الفلسطينية، وهو ليس استقطاباً سياسياً فقط، ولكنه استقطاب أيدلوجي أيضاً. هذا الاستقطاب يؤدي إلى مواقف متباينة ومتعارضة بل ومتخاصمة، الأمر الذي ينعكس سلباً على دور إعلامي منسّق وموحّد وذي رسالة واحدة. إن هذا الاستقطاب يخلق إعلاماً مضللاً وتضليلياً وواهماً ومتوهماً ومشوهاً، لأن الرواية الإعلامية تقدم بطريقة انتقائية جداً، الأمر الذي ينعكس ليس فقط في اللغة المستخدمة، وإنما في تكوين الرؤية والرواية أيضاً.
ثانياً: الإعلام الرسمي المرتبط أو الخادم عملياً للمقولة السياسية، يقع ضحية العلاقة المختلفة مع إسرائيل ذاتها، فنحن في عصر أو زمن تمايزت فيه العلاقة مع اسرائيل، فكيف للإعلام الرسمي أن يتوحّد في الكلام عن مثل هذا النظام المقلق والمستفزّ والمجرم، وما هي حدود التحريض، وما هي حدود الموقف السياسي، وما هي سقوف الإعتراض . لا يمكن للإعلام العربي الرسمي، أن يتفق حتى على الحد الأدنى، من الرواية الإعلامية الواحدة، فيما يتعلق باسرائيل. يجب الاعتراف هنا أن اتفاقات السلام التي وقعت مع إسرائيل، حتى اللحظة، لم تستوف كامل شروطها، أي الإنسحاب من الأرض المحتلة، وإنهاء الاحتلال تماماً، حتى يمكن لنا كعرب أن نتفق على لغة واحدة، تجاه هذا الكيان الذي يحتل أراضينا.
ثالثاً: لا يمكن للإعلام الرسمي، أن يتخذ مواقف سياسية محددة، هي غائبة أصلاً، بمعنى، أنه لا يمكن للإعلام أن يخترع لغته بغياب الموقف السياسي الحقيقي. بصراحة اكثر، لا يمكن للإعلام الرسمي أن يتخذ مواقف محددة من الصراع العربي الاسرائيلي، دون أن يسند بمواقف وخطاب سياسي واضح وجاد وحازم، وأعود إلى جملتي الأولى، فالإعلام الرسمي لا يمكن له ان يقفز عن الخطاب السياسي، وإذا كان هذا الخطاب مفكّكاً ومتردداً ومهزوماً، فإن الإعلام سيكون كذلك ايضاً.
رابعاً: يقع الإعلام الرسمي في دائرة الاستهداف الدولي، من حيث خشيته من تهمة الدعوة إلى الإرهاب والأصولية والجمود وعدم الإنفتاح وعدم الليبرالية، إلى آخر هذه التهم الباطلة. والإعلام الرسمي وقع تماماً في المصيدة، بحيث أخذ يدافع عن نفسه وينفي عنه هذه التهمة، وبدلاً من تحويل قضية الاحتلال وتهويد القدس إلى قضية عالمية، فإن نفي تهمة الإرهاب أصبحت هي القضية، وهذا، عادةً، تصرف الضعفاء، الذين يقعون دائماً في دائرة التبرير، بدلاً من انتاج المقولة الذاتية، التي تمتلك من القوة والإمتلاء، بحيث تدافع عن نفسها بنفسها، وبدلاً من أن نكون أصحاب الحق، تحولنا إلى متهمين، لدرجة أن هناك من يريد أن "ينقّي" مناهجنا من بعض النصوص. لنتصور أن نطلب تفتيش مناهج التدريس في إسرائيل أو في بعض مدارس الولايات المتحدة؟ لنتصور ذلك وحسب! إن القناة السابعة التي يمتلكها المستوطنون تبث عادة أشدّ مواد العنصرية والتحريض، أما مناهج المستوطنات التعاونية الصهيونية"اليشيفوت" فحدّث ولا حرج! ولكن لا أحد يستطيع الكلام . ولنتصور الصفاقة والوقاحة التي يتميز بها قادة اسرائيل، الذين يطالبون بوقف التحريض، في الوقت الذي يُطرد فيه الناس من بيوتهم أو يقتلون بدم بارد أمام الشاشات أو تصادر أراضيهم. إلى هنا وصلنا تماماً. حتى هذا الوضع لم نستطع أن نحوّله إلى قضية عالمية، رغم كل الإمكانات. كما قلت، المسألة ليست مسألة إعلامية، بل هي سياسية بالأساس.
خامساً: الإعلام الرسمي العربي له حساباته الداخلية أيضاً، فهو حذر من أن تتحول هذه القضية الى ورقة داخلية يستغلها الخصوم أو المعارضة أو القوى السياسية الداخلية، وبالتالي، فإن التوجس والحذر والإستخدام النقي المطهّر للخطاب الإعلامي تجاه القدس والقضية الفلسطينية، يأخذ بعين الاعتبار تلك الحسابات، التي تجيز هذا التناول أوهذه المعالجة الإعلامية.
سادساً: وأخيراً، فإن عالمنا العربي يعيش احتلالات مختلفة، منها ما هو مباشر تماماً، ومنها ما هو مقنّع، ومنها ما هو بالاستدعاء، للدلالة على عودة منطقتنا العربية الى الهيمنة الاستعمارية مرة أخرى، وهو دليل فشل الى حدٍ كبير، وهو أيضاً، يقود إلى الإنشغال بالشأن المحلي تماماً، فقراً وتخلّفاً وحروباً إثنية وطائفية، وبالتالي فإن الحديث عن القضية الفلسطينية، لن يكون بالضرورة شأناً أول أو قضية أولى.
وإذا تجرّأنا على الحديث عن الإستلاب والتغريب، فإن القضية الفلسطينية تتحول إلى قضية ثانوية في الإعلام العربي. وليس من المستغرب أن تكون دولة عربية كبيرة، لا تضع أخبار القضية الفلسطينية على صدر منابرها الأولى ولا الثانية، بل في التاسعة والعاشرة، وللدقة، فإن دولاً صغيرة وكبيرة تفعل ذلك، وهو عمل لا براءة فيه ولا سذاجة. المشكلة هنا، أن اسرائيل لا تحتل أرضنا فقط، ولا تهددنا فقط، ولكنها تهدد الجميع بلا استثناء، والأدلة أقوى وأوضح من الاشارة إليها، لهذه الأسباب الستة لا يمكن للإعلام العربي الرسمي أن يجتمع على رواية واحدة أو معالجة واحدة لقضية القدس، أو القضية الفلسطينية بوجه عام، فهذا الإعلام يختلف في التسميات والمصطلحات والتوجهات والايدلوجيات والحسابات والرؤى والأهداف . نقول ذلك بواقعية وبدون تجميل وبدون إحساس بجلد الذات أو الذنب، نقوله من أجل أن نصل إلى نتائج عملية بهدوء، فما دمنا مختلفين إلى هذا الحد، فإننا سنترك الساحة خالية لمن سيملأها إرهاباً، أو تشدداً أو خطاباً آخروياً لا يقبل النقاش ولا الآخر. إن عدم إيقاف اسرائيل عند حدّها من خلال النظام العربي الرسمي، سياسةً وإعلاماً، سيعطي الذريعة كاملة والشرعية، لكل تلك التيارات الجاهزة، لأن تدير المشهد كله، لهذا السبب بالذات، فإن استراتيجة عربية رسمية أقوى وأكثر حزماً تجاه اسرائيل، ضرورية تماماً، لتلافي الوضع قبل انفجاره . إن تعنّت اسرائيل وغطرستها وضربها بعرض الحائط كل الجهود العربية الرسمية، لا يمكن لإعلام رسمي متوجس وحذر أن يقنع أو يعبىء أو يدافع. إن هذا تحذيراًلا بدّ من الإنتباه إليه، فاسرائيل ببساطة تهين كل شيء؛المُقدّس والعالي والرفيعوالماجد فينا، والإعلام الرسمي هنا، إما ان يقع في دائرة الأوهام، أو في دائرة الاستسلام ليس إلا.
هذا هو حال الإعلام الرسمي العربي، الذي تعرفون تماماً إلى أين وصلت نتائجه، وماذا حقق؟ أما بالنسبة للإعلام التجاري العربي، فهو إلى حدٍ كبير يتميز بالمتعوية والاستهلاكية والربحية، وليس من الخطأ القول إنه يحمل أيضاً خطاباً علمانياً حداثوياً، وتيرته أسرع وأعمق من البنية العربية، اقتصاداً وثقافةً وعقيدةً، وليس من الخطأ القول إن هذا الإعلام التجاري يبدو لوهلة ما، وكأن لا علاقة له بالجمهور، الذي يتوجّه إليه، أو حتى المنطقة التي يتواجد فيها. إن هذا الإعلام الذي كان نتيجة عمليات العلْمنة والحداثة وخصخصة السوق وانفتاح الأنظمة وتخفيف قبضتها على الإعلام، لأسباب لا داعي لذكرها الآن، يتصرف وكأنه يريد استغلال الفرصة التجارية اكثر من أي إهتمام آخر. لم يستطع الإعلام التجاري إطلاقاً، أن يعبّر عن هموم شعوب العرب أو قلقهم، أو المخاطر والتحديات التي يمرون فيها، أكثر من ذلك، يبدو هذا الكلام وكأنه غائب أو مغيّب حتى في أكثر لحظات الأمة العربية والإسلامية توتراً، إذ كان من العيب أن تتعرض المقدسات للذبح، ثم نرى هذا الإعلام غارقاً إلى أذنيه في عالم من الترفيه، الذي يبدو كاذباً تماماً، في مجتمع تتجاوز نسبة الأميّة فيه 60%، لم يُبْدِ هذا الإعلام اهتماماً بالقضية الفلسطينية الى حدٍ كبير، وهو غير معنيّ بها، وهو أيضاً غير معني بقضية الاقتتال الداخلي ، ولا بالبطالة أو الأميّة ولا أي شيء آخر، بل هو يوهم الجمهور أنه على اتصال بالعالم والحداثة والتقدم، من خلال أكثر مظاهر تلك الأمور سطحية وتفاهة. ولست هنا ضد الترفيه، ولكن ضد أن يتحوّل هذا الترفيه كبديل أو ذريعة أو واجهة أو تغرير أو تضليل، وهو ما يحصل فعلاً للأسف.
أما الإعلام من النوع الثالث، فهو الإعلام المؤدلج، صاحب الرؤية والرواية التي تصدر عن قناعات وأنساق فكرية كاملة متكاملة، فإن هذا النوع من الإعلام وإن كان منشغلاً بالقضية الفلسطينية ضمن انشغالات اخرى أيضاً، فإنه إعلام سهل الاستهداف والعزل، من خلال اتهامه أو محاربته، أو حتى منعه من الانتشار. فتهم الإرهاب والتشدد وعدم الواقعية والتحريض والعبث بأمن البلاد والعباد تهم جاهزة، لمحاصرة هذا النوع من الإعلام، الذي قد يكون من الصواب أن نقول إنه يدّعي امتلاك الحقيقة النهائية، أو اختطافه للرؤية والأسلوب، أو مقارباته الضعيفة في بعض الأحيان. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن هذا النوع من الإعلام الذي يفتقد للجماهيرية والإنتشار، بسبب عدم اعتماده على الأبهار والشعبوية والترفيه – ولو بحدوده الدنيا – يُحَارب بطرق عديدة، الأمر الذي يؤكد أن دعاة الديموقراطية الكاذبة، يفشلون كل مرة، في امتحان الديموقراطية، عندما يتعلق الأمر بفلسطين وشعبها.
وبالنسبة للإعلام من النوع الرابع، فهو الإعلام الذي يُوَجَّه الينا باللغة العربية، من قبل أعدائنا أو خصومنا أو الدول الطامعة، او الطامحة، فحتى الصين تفتح علينا قنواتها، وهناك روسيا وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، وليس أولاً ولا أخيراً إسرائيل. لنتأمل معاً المعني والهدف من كل هذه القنوات، التي تغسل أدمغتنا وأدمغة ناشئتنا، ما الذي تريده منا هذه الدول ومن بعدها القنوات؟ وما هي الرواية الإعلامية الخاصة بفلسطين والقدس، التي يمكن لمثل هؤلاء أن يرسموها أمامنا؟! وهل سماؤنا فارغة من قنواتنا حتى تمتلىءبمثل هذه القنوات؟ أليس هذا مدعاة للوقوف طويلاً أمام هذه الظاهرة؟ فأمة عربية عريقة تعتقد أنها جاهزة لقيادة العالم، يصل بها الحدّ إلى أن تتعرض لمثل هذا الغزو، حتى في غرف نومها. إن هذا الإعلام الخطير الذي يُوَجَّه إلينا، هو إعلام مدمّر بكل معنى الكلمة، فإسرائيل في هذا الإعلام ليست محتلة! أما دارفور فهي تستحق الإنفصال! والعراق لم يعد وحدة جيو سياسية! وأية إثنية تستحق ان تتمتع بالسيادة! ألا يحق لنا القول إن مثل هذا الإعلام إنما يفعل فعل جيوش احتلال عسكرية أو أكثر.
لهذا كله، لم نستطع أن نسوّق قضيتنا، ولم نستطع أن نقنع العالم حتى بدموعنا، لأن العالم مصالح وليس مجرد محاججة عقلية أو إعلامية. ولأن الإعلام العالمي له أجندات تختلف عن أجنداتنا، ولأن من يملك ويموّل ويسيطر على الإعلام، لا يمكن له أن يضيء أو يسلط الضوء على قضايانا. ونعتقد بسذاجة أنه إذا شرحنا قضيتنا للعالم الغربي سيفهمنا! هذا فهم ساذج تماماً، فالغربي، له مصالح وأهداف ورؤيا، بالتأكيد سيتأثر باستشهاد طفل أو نسف بيت، ولكنه في نهاية الأمر، ومنذ أكثر من ستين عاماً، يدعم إسرائيل لأنها تحقق مصالحه. في الحروب هناك ضحايا، هكذا يقول الفكر الاستعماري الذي ذبح الملايين،ومن السذاجة الإعتقاد والقول إن الإعلام مهما كان فعالاً سيؤثر على الجمهور، إلا إذا انتظرنا ألف سنة، أما العمل الحقيقي والصحيح، فهو الحديث إلى هذا العالم بلغة المصالح، عندئذٍ، سنرى، وبأقل من ثانية واحدة، أن إعلام العالم كله اختلف وأصبح يتحدث عن معاناة الفلسطينيين وضرورة إنهائها، وسيكتشف العالم فجأة أن إسرائيل عنصرية. لا يجب أن ننتظر من الإعلام أكثر من دوره، ولا يجب أن نجلد إعلامنا دائماً بأنه مقصّر، فنحن المقصّرون ليس إلا.
ظل أن أقول إن ثمة إعلاماً عربياً، يسيء بشكل ذكي وحرفي إلى قضايانا الكبرى، الوطنية والعقائدية، من حيث:
أ- يقوم بتصوير وتقديم الصراع العربي الاسرائيلي على أنه صراع وجهات نظر وليس صراع وجود .
ب- يسوّق الاحتلال الاسرائيلي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الواقع الذي يجب أن نتعايش معه .
جـ- يقدم ويعمّم المصطلحات التي تكرس المواقف، التي تدفع المتلقي العربي للقبول بالاحتلال، وبإدانة المقاومة، واعتبارها رجساً يلوّث حياتنا .
د- يعرّض المقدسات والتابوات إلى النقاشالسطحي، ويجعلها مبتذلة لوجهات النظر التي تتناولها باستخفاف ومجانية .
إن الإعلام العربي بحاجة إلى المزيد من التفكيك والنقاش والحفر حوله، لتبيان كل مكوناته وتداعيات فعله .