الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

(التدويل) في إطار إستراتيجية وطنية شمولية

نشر بتاريخ: 03/11/2015 ( آخر تحديث: 03/11/2015 الساعة: 10:10 )

الكاتب: د.ابراهيم أبراش

مقدمة
بفعل المأزق الذي وصلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية في نهجها النضالي السياسي والعسكري لتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية المشروعة والمنصوص عليها في الميثاق الوطني الفلسطيني ، اضطرت إلى إعادة النظر في المرجعية والشرعية التي تستند إليها سواء من حيث الأهداف أو وسائل تحقيقها . فمن الشرعية التاريخية والثورية التي تحدد الحقوق الفلسطينية بكامل ارض فلسطين التاريخية الممتدة من النهر إلى البحر ، انتقلت ما بعد 1988 إلى مصالحة مع الشرعية الدولية ، ومن الشرعية الدولية انتهى الأمر بمنظمة التحرير للغرق في متاهات الشرعية التفاوضية مع توقيع اتفاقية أوسلو ، وهي شرعية في ظل موازين القوى القائمة ما بين الشعب الفلسطيني الذي نصفه تحت الاحتلال ونصفه الآخر في المنافي من جهة وإسرائيل والحركة الصهيونية من جهة أخرى ، هي أقرب إلى شريعة الغابة ، يفرض فيها القوي شروطه، ومن الكفاح المسلح طريق وحيد لتحرير فلسطين إلى المفاوضات . وبالفعل كانت نتيجة اتفاقية أوسلو حقوقا وأرضا أقل مما تمنحه الشرعيتان السابقتان .

مع تعثر المفاوضات وانكشاف كوارث اتفاقية أوسلو وملحقاتها بعد اثنين وعشرين سنة من قيام السلطة ومن المفاوضات المدمرة للمشروع الوطني عادت القيادة الفلسطينية لتطالب باعتماد الشرعية الدولية أو تدويل القضية ،مما يطرح تساؤلات كثيرة عن مفهوم تدويل الفضية وأسباب العودة للشرعية الدولية ، وتداعيات ذلك على الحقوق الوطنية وعلى الوضع الفلسطيني الداخلي ؟ .

أولا : تعريف التدويل ، وتاريخانية تدويل القضية الفلسطينية
وهكذا بعد توقف المفاوضات عام 2010 تعالت أصوات فلسطينية تطالب بتدويل القضية الفلسطينية ،مع تداخل مصطلح التدويل مع مصطلحات الشرعية الدولية والمرجعية الدولية والبعد الدولي ، وبات مصطلح التدويل يعني بشكل عام أن تصبح القضية الفلسطينية سواء على مستوى مرجعية الحقوق السياسية الراهنة للشعب الفلسطيني أو على مستوى آلية حل الصراع مع إسرائيل محل اهتمام واختصاص الأمم المتحدة ومنظماتها وهيئاتها المتخصصة وأن يكون النضال الوطني بكل أشكاله بما لا يتعارض معهما ، وبالتالي الخروج من مربع المفاوضات الثنائية بين منظمة التحرير وإسرائيل في إطار اتفاقية أوسلو المحكومة بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين دون مرجعية دولية واضحة للمفاوضات ونتائجها .

التدويل بالمعنى المُشار إليه ليس بالأمر الجديد حيث كان للقضية في بدايتها هذا البعد الدولي من خلال وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني 1921 بقرار من عصبة الأمم ،بل إن فلسطين بحدودها الحالية تشكلت في إطار اتفاقية سايكس – بيكو وتفاهمات الحرب العالمية الأولى ،وإسرائيل قامت نتيجة قرار دولي وهو قرار التقسيم رقم 181 بتاريخ 29 /11/1947 وهو نفس القرار الذي طالب بقيام دولة عربية ووضع القدس تحت الوصاية الدولية ، وبعد حرب 1948 مباشرة صدر قرار عودة اللاجئين القرار رقم 194 بتاريخ 11/12/1948. وبعد ذلك صدرت عشرات القرارات الدولية التي تعبر عن الاهتمام الدولي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وآخرها الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة عام 2014 ورفع علم فلسطين على مقرات الامم المتحدة 2015 .

لم تكن المشكلة دائما في تدويل القضية أو في رفض المنتظم الدولي الاعتراف بالحقوق السياسية للفلسطينيين ، بالرغم من التحيز الواضح للأمم المتحدة لإسرائيل في كثير من الحالات بسبب الهيمنة التي تمارسها واشنطن داخل المنظمة ،بل كانت المشكلة أيضا في الفلسطينيين أنفسهم ، فقد غابت الرؤية والوضوح في التعامل مع الشرعية الدولية ، بل إن ميثاق منظمة التحرير الاول 1964 كان واضحا في رفضه لكل قرارات الشرعية الدولية وللتعامل مع الأمم المتحدة ، وهو أمر استمر حتى عام 1988 ،حيث جاء في بيان إعلان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني المنعقد في الجزائر الاعتراف بكل قرارات الشرعية الدولية واعتمادها كمرجعية لتسوية سياسية للصراع .

لا أحد يعارض اليوم التعامل مع الشرعية الدولية أو تدويل القضية ،ولا أحد يعارض صدور قرار يعترف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس وعودة ألاجئين،ولكن كيفية إدارة هذا الملف الخطير هو الذي يثير الخوف.التعامل مع الشرعية الدولية أمر استراتيجي ومهم ويجب أن لا نلتفت كثيرا للخطاب السياسي الذي يتحدث عن انحياز الشرعية الدولية ،ليس لأنها غير منحازة بل لأن انحيازها هو الذي يفرض علينا دخول معتركها ومعركتها ومحاولة توظيفها لصالحنا أو على الأقل عدم السماح لها بإصدار قرارات تمس حقوقنا الوطني.

لو تجاهلنا الشرعية الدولية فلن تتركنا بحالنا لأن قضيتنا والشرق الأوسط بشكل عام محل اهتمام عالمي ومن المناطق التي تؤثر على السلام العالمي،وهنا نُذكر بأن الأمم المتحدة لم تأخذ إذنا من الفلسطينيين عندما أصدرت قراراتها العديدة ،من قرار التقسيم لقرار عودة ألاجئين إلى قراري 242 و338 ،كما لم تأخذ إذنا من الشعب العراقي عندما صدر قرار يسمح بالتدخل العسكري في العراق ،كما لم تأخذ إذنا من الشعب الليبي عندما صدر قرار الحظر الجوي على ليبيا والذي مهد لتدخل عسكري ،ولن تأخذ إذنا من الشعب السوري عندما قررت التدخل في الشأن السوري .
كما تنبع أهمية تدويل القضية الفلسطينية من كون الصراع في المنطقة هو أطول صراع وتداعياته تؤثر ليس فقط على المنطقة بل على العالم بأسره ،بالإضافة لتعدد الأطراف المشتبكة في هذا الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر ،والأهم من ذلك صدور عشرات القرارات الدولية التي تصب في خدمة القضية الفلسطينية والتي ترفضها إسرائيل تنفيذها.

الشرعية الدولية معركة يجب أن تُخاض ولكن كيف نخوضها ؟هذا هو السؤال.المشكلة لا تكمن في نهج تدويل القضية والشرعية الدولية ولا في نهج المفاوضات ولا في نهج المقاومة بل في غياب إستراتيجية وطنية توفِّق بينهم. وفي هذا السياق نؤكد على مسألتين ملتبستين :-
الأولى: عدم وضوح معنى تدويل القضية من الناحية الإجرائية ، فهل المقصود بالتدويل :
1- جعل القضية الفلسطينية محل اهتمام الدولي شعبيا ورسميا ؟
2- صيرورة القرارات الدولية مصدرا للحقوق السياسية للفلسطينيين ؟
3- الاستعداد الفلسطيني للالتزام بالشرعية الدولية وقراراتها ؟
4- السعي للحصول على دولة فلسطينية مستقلة من خلال قرار دولي ؟
5- إرسال قوات دولية للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين ؟
6- إرسال مراقبين دوليين لنقاط التماس بين الفلسطينيين والإسرائيليين ؟
7- إرسال مراقبين دوليين للمسجد الأقصى – مشروع القرار الفرنسي - ؟
8- وضع الفلسطينيين تحت الحماية الدولية ؟ وما المقصود بالحماية الدولية وهناك 12 حالة أو نموذج للحماية الدولية .

الثانية : عدم وجود توافق فلسطيني على تدويل القضية أو اعتماد قرارات الشرعية الدولية كمرجعية للحقوق السياسية الفلسطينية ، بل ما زالت حركتا حماس والجهاد الإسلامي ترفضان مبدأ المفاوضات والتسوية السياسية على أساس قرارات الشرعية الدولية . وحتى بالنسبة للموقف الرسمي ما زال شكوكا تُثار إن كان التوجه للأمم المتحدة خيارا استراتيجيا ونهائيا كبديل عن اتفاقية أوسلو والمفاوضات الثنائية ، أم تكتيكا هدفه الضغط لتحسين شروط المفاوضات ؟ .

ثانيا : عودة تدويل القضية سياسيا بعد حرب 1967
ما بين حربي 48 و 67 أخذ تدويل القضية الفلسطينية بعدا إنسانيا من خلال تأسيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) حيث تم التعامل مع القضية كقضية لاجئين يحتاجون للغوث . بعد حرب 67 تحرك مجلس الأمن الدولي وأصدر القرار 242 الذي طالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين والبحث عن حل سلمي للصراع في المنطقة . وتم التأكيد على هذه المطالب في القرار 338 الذي صدر إثر حرب أكتوبر 1973 .

عاد الحديث مجددا عن تدويل الصراع من خلال الدعوة لمؤتمر دولي للسلام في أعقاب حرب أكتوبر 1973 . ففي 21/12/1973 تم افتتاح مؤتمر جنيف للسلام بحضور مصر والأردن وإسرائيل تحت إشراف الأمين العام للأمم المتحدة والرئاسة المشتركة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي،وفي ذاك المؤتمر تم استبعاد سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية واستبعاد كلمة (دولي) من عنوان المؤتمر،ولم يسفر المؤتمر عن شيء .وفي عام 1977 تم إحياء الجهود الدولية لعقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف، إلا أن إسرائيل استطاعت إفشال المؤتمر من خلال تفريغه من مضمونه.

أحيا الأوروبيون الفكرة مجددا في بيان قمة البندقية للدول الأوروبية عام 1980 ولكنها لم تجد تجاوبا من جميع الدول الأوروبية وعارضتها إسرائيل والولايات المتحدة . مع قبول مصر بالمفاوضات المباشرة مع إسرائيل وتوقيعها اتفاقية السلام عام 1979 تم تجميد الفكرة لحين من الزمن ولم يتم إحياؤها إلا في أعقاب غزو إسرائيل للبنان صيف 1982 وعقد قمة فاس في نفس العام حيث تضمنت المبادرة العربية الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام ولم تجد الفكرة تجاوبا أمريكيا وإسرائيليا كالعادة.

في عام 1986 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام ولكن الشروط التعجيزية التي وضعتها أمريكا أذهبت الفكرة مهب الريح ،كما تكثف الجهد الفلسطيني في هذا المجال حيث قدمت منظمة التحرير – في فبراير ومارس وابريل 1986- ثلاث صيغ لشكل المؤتمر من حيث الأطراف التي ستحضره أو من حيث موضوعاته . وجاء بيان بروكسل ، في 23 شباط / فبراير 1987 داعماً لفكرة عقد المؤتمر الدولي ، إلا أن حكومة "اسحق شامير رفضت الفكرة رفضا قاطعا وانساقت معها أمريكا في هذا السياق.

على إثر إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988 نشطت الاتصالات لإحياء فكرة عقد مؤتمر دولي ولكن فيما كانت منظمة التحرير والدول العربية والاتحاد السوفيتي تريده مؤتمرا دوليا تحضره كافة أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير ،أرادت الولايات المتحدة وإسرائيل أن يكون مجرد مؤتمر سلام دون إضفاء بعد دولي عليه مع استبعاد منظمة التحرير،وقد جرت مباحثات مباشرة وغير مباشرة طوال أربع سنوات تقريبا حيث تمكنت الولايات المتحدة من فرض تصورها لمؤتمر السلام ،وهو ما تجلى في مؤتمر مدريد للسلام ،حيث أعلنت منظمة التحرير وسوريا بعد طول ممانعة موافقتها أن يحمل المؤتمر اسم (مؤتمر السلام) دون كلمة الدولي،وهو ما جرى مع اتفاقية أوسلو التي تم عقدها بعيدا عن الأمم المتحدة .

لم يكن الفلسطينيون طرفا مباشرا من الحراك الدولي حول الصراع في الشرق الأوسط حيث كانت منظمة التحرير مُصنفة كحركة إرهابية من طرف تل أبيب وواشنطن وغالبية الدول الغربية والحروب التي جرت في المنطقة كانت بين إسرائيل والدول العربية ،بالإضافة إلى إلى انشغال منظمة التحرير بتثبيت الهوية الوطنية باستقلالية عن أبعادها الأممية والقومية . نتائج وتداعيات حرب أكتوبر 1973 والاعتراف العربي في قمة الرباط في نفس العام بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني ، كل ذلك شجع منظمة التحرير بعد تبنيها للبرنامج المرحلي على اقتحام عرين الشرعية الدولية ومحاولة عمل مصالحة تاريخية مع الشرعية الدولية والخروج من مربع رفض الشرعية الدولية وكل ما يصدر عنها .

كان أول توجه رسمي للمنتظم الدولي سعيا لتدويل القضية كقضية سياسية لشعب يناضل من اجل الاستقلال من خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس ياسر عرفات في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 13 نوفمبر 1974 ، ففي هذا الخطاب برز توجه نحو تدويل القضية بدون التخلي عن المقاومة المسلحة وعن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وهذا ما جسدته كلمة الرئيس عندما قال "جئتكم بغصن الزيتون بيد والبندقية بيد فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي " . وقد برر أبو عمار توجه الفلسطينيين للأمم المتحدة بأنه نتيجة التغيرات التي طرأت على الامم المتحدة وليس نتيجة توجه فلسطيني جديد ،حيث قال : " إنها لمناسبة هامة أن يعود بحث قضية فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة . وأننا نعتبر هذه الخطوة انتصار للمنظمة الدولية كما هو انتصار لقضية شعبنا . وإن ذلك يشكل مؤشراً جديداً على أن هيئة الأمم اليوم ليست هيئة الأمم أمس ، ذلك لأن عالم اليوم ليس هو عالم الأمس " .

بعد هذا الخطاب وما ترتب عليه من الاعتراف بمنظمة التحرير عضو مراقب في الأمم المتحدة توالت القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ،وخصوصا عن الجمعية العامة التي غالبيتها من دول عدم الانحياز والمعسكر الاشتراكي المؤيدة للشعب الفلسطيني ، الأمر الذي شجع قيادة المنظمة للانفتاح على دول العالم وعلى الاستعداد للتعامل مع الشرعية الدولية والقبول بمبادئها واستحقاقاتها ، دون التنازل علنا عن الثوابت والحقوق الفلسطينية التاريخية .
اعتماد المرجعية الدولية من طرف الفلسطينيين لم يستمر طويلا.فقد شكل مؤتمر مدريد للسلام 1991 ،ثم اتفاقية أوسلو 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل خطوة تراجع خطيرة وانقلابا على تدويل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام . حيث كانت الاتفاقية تحت رعاية واشنطن وموسكو وتم تغييب الأمم المتحدة ، مع إشارة لقراري مجلس الأمن 242 و 338 فقط كأساس لعملية التسوية ، وعليه لم يكن اتفاق أوسلو اتفاقا دوليا، وحتى بعد تشكيل اللجنة الرباعية عام 2002 ، وكانت الأمم المتحدة إحدى مكوناتها، تم تهميش الأمم المتحدة وتفردت واشنطن بعملية التسوية ومسارها ، وتم فرض الشرعية التفاوضية بدلا من الشرعية الدولية .
ما بعد وصول المفاوضات الثنائية لطريق مسدود عام 2010 قررت القيادة الفلسطينية وقف المفاوضات والبحث عن مرجعية دولية للمفاوضات من خلال الذهاب للأمم المتحدة .

ثالثا : مستجدات البعد الدولي للقضية الفلسطينية بعد فشل المفاوضات الثنائية
التحولات في المشهد العربي والإسلامي وكذا ضعف النظام السياسي الفلسطيني وانقسامه ووصول المفاوضات لطريق مسدود مع استمرار إسرائيل في عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس والعدوان على قطاع غزة ، كل ذلك دفع القيادة الفلسطينية للمراهنة على الأمم المتحدة من خلال محاولة انتزاع قرار أممي يعترف بالدولة الفلسطينية وينهي الاحتلال .

وهكذا جرت محاولات لتدويل القضية منذ عام 2011 ، بعض هذه المحاولات كانت ناجحة نسبيا وأخرى غير موفقة . قد نجحت القيادة الفلسطينية في انتزاع اعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة بأغلبية 138 صوتا ،كما أصبحت دولة فلسطين بهذه الصفة عضو في عديد المنظمات والبروتوكولات الدولية ، إلا أن الفشل كان نصيب تمرير مشروع قرار عربي في مجلس الأمن 31 /12/2014 يحدد أجلا لإنهاء الاحتلال مع العودة للمفاوضات وقضايا أخرى ذات صلة ، وهو فشل كان متوقعا ، سواء لغياب تسعة أصوات من أعضاء مجلس الأمن أو بسبب الفيتو الأمريكي ، وحتى فيما لو تم تمرير القرار فإن القرار كان سيفتح منفذا للمفاوضات ولكن من غير المؤكد أنه سينهي الاحتلال ويضع حدا للصراع في فلسطين والمنطقة .

ردا على عدم صدور القرار الأممي بإنهاء الاحتلال قررت القيادة الفلسطينية الانضمام لمنظمات دولية وعلى رأسها محكمة الجنايات الدولية وهذا أمر لا غبار عليه ، كما أن بعض الدول الأوروبية حاولت تصحيح خطأها بعدم التصويت لصالح الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة بتشجيع برلماناتها على الاعتراف بدولة فلسطينية بصياغات واشتراطات تختلف من دولة لأخرى ،وهو أيضا انجاز مهم أيضا وخصوصا أنه متصاحب مع حملات دولية رسمية وشعبية لمقاطعة إسرائيل في مجالات متعددة .

ومع ذلك فإن التعامل مع الشرعية الدولية يستدعي من القيادة وكل المكونات السياسية والاجتماعية الفلسطينية عمل مراجعة إستراتيجية شمولية بعيدا عن المناكفات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة ، لأن القضية الوطنية برمتها باتت على المحك ، حتى يجوز القول بأننا أمام منعطف مصيري سيحدد إما أن تقوم الدولة الفلسطينية على كامل الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين ، أو لا تقوم نهائيا ، أو يتم الاستعاضة عنها بدولة قد تكون دويلة غزة ، أو الأردن بعد امتداد (الفوضى الخلاقة) الأمريكية إليه بمساعدة داعش .

المُستجد في مسالة تدويل القضية ليس فقط عودتها لأروقة واجتماعات الأمم المتحدة بل حالة التأييد المتعاظمة للقضية الفلسطينية في الرأي العام العالمي وتراجع مكانة إسرائيل دوليا حيث أصبح جزء مهم من الرأي العام حتى داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية يُحمل إسرائيل مسؤولية عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتعاظم العنف في المنطقة . تجلى هذا التحول في الرأي العام من خلال حملات مقاطعة بضائع المستوطنات ومقاطعة أكاديميين وجامعات إسرائيلية ، وتقديم دعاوى لمحاكمة قادة إسرائيليين كمجرمي حرب الخ ، والأهم من ذلك ضغط الرأي العام على الحكومات للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في دولة مستقلة .

رابعا : (تدويل) القضية لا يلغي الحق بالمقاومة ما دام الاحتلال قائما
مع افتراض نجاح مساعي القيادة الفلسطينية بالتصويت بالحصول على قرار دولي بإنهاء الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطين وبعد الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية وغيرها من المنظمات الدولية ، فإن ذلك لن يؤدي إلى إنهاء الاحتلال مباشرة ، وستبقى فلسطين والقدس تحت الاحتلال ولكن بمسمى دولة فلسطين المحتلة ! كما كانت دول العالم الثالث خاضعة للاحتلال وكونها كذلك لم يُسقط حقها بمقاومة الاحتلال . فهل هناك رؤية أو إستراتيجية وطنية لمرحلة ما بعد تدويل القضية؟ .

كل ما تم إنجازه على صعيد تدويل القضية لم يغير من الواقع المر ، وهو أن فلسطين – الدولة والشعب - خاضعة للاحتلال . إن قرارا أمميا بالاعتراف بدولة فلسطينية وبإنهاء الاحتلال لم ولن يردع إسرائيل عن مواصلة الاستيطان والتهويد ،إلا إذا صدر القرار عن مجلس الأمن بناء على المادة السابعة من الميثاق ، وهو أمر مستبعد ، فهناك عشرات القرارات الدولية التي لم تلتزم بها إسرائيل ، كقرار التقسيم 181 لعام 1947 الذي يمنحنا وبإرادة دولية 46% من مساحة فلسطين ، وليس 22% التي تطالب به منظمة التحرير اليوم ، و قرار 194 حول عودة اللاجئين ، وقرار مجلس الأمن 1515 لعام 2003 الذي يؤكد على حل الدولتين بالإضافة إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي . أيضا سيستمر قطاع غزة تحت الاحتلال ، والإعمار – إن تم - سيكون تحت إشراف الاحتلال وربما بشروطه ، إن لم يكن ثمن إعمار القطاع ورفع الحصار عنه هو فصله نهائيا عن دولة فلسطين والمشروع الوطني .

إسرائيل لن تخرج من دولة فلسطين بقرار أممي فقط ، بل سيحتاج الأمر لقوة تجبرها على ذلك . فالشرعية الدولية قد تمنح الفلسطينيين قرارا بالاعتراف بدولتهم ، ولكنها لن تخوض الحرب مع إسرائيل نيابة عنهم لتصبح الدولة المستقلة حقيقة قائمة على الأرض وليس مجرد قرار على ورق . وحتى انضمام الدولة الفلسطينية للمنظمات الدولية ولمحكمة الجنايات الدولية لن يغير من الواقع شيئا كبيرا ، ولا نعتقد أن محكمة الجنايات الدولية ستجر قادة إسرائيل للمعتقلات الدولية ، حتى وإن صدر قرار من محكمة الجنايات بمتابعة قادة الحرب الإسرائيليين ، فحبل المحاكم الدولية طويل وقد تستغرق إجراءات المحكمة سنوات طوال .

إذن ما بعد حصول الفلسطينيين على ما يريدون من الأمم المتحدة سنكون أمام خيارات ثلاثة :
• إما العودة للمفاوضات مجددا ، ولكن هذه المرة ما بين ممثلي دولة فلسطين الخاضعة للاحتلال وإسرائيل ، وقد جربنا لعقدين من الزمن المفاوضات ، ولا نعتقد أن مجرد تغيير المسمى من شعب خاضع للاحتلال إلى دولة خاضعة للاحتلال سيغير كثيرا من موازين القوى على طاولة المفاوضات وبالتالي من مخرجات المفاوضات في ظل استمرار الانقسام ، واستمرار نفس النخبة السياسية وارتباطاتها وخصوصا التنسيق الأمني مع إسرائيل .

• الدخول في مواجهة مع الاحتلال ، سواء أسميناها انتفاضة او مقاومة شعبية وحتى مسلحة إن تطلب الأمر في نهاية المطاف ، متسلحين بالشرعية الدولية وبالتأييد الدولي الشعبي والرسمي لمطالبنا الواضحة والمعترف بها دوليا وهي إنهاء الاحتلال . ونذكر هنا أن ميثاق الأمم المتحدة يعطي للدول الأعضاء المستقلة حق الدفاع عن النفس ، فكيف الحال إن كانت الدولة العضو خاضعة للاحتلال ؟ ! .

• الجمع بين الأمرين وهو الشيء الصحيح ، بمعنى العودة لطاولة المفاوضات والتمسك بخيار السلام على قاعدة الوضع القانوني الجديد ، مع إطلاق يد الشعب ليمارس حقه في الدفاع عن نفسه ودولته ، سواء اسمينا ذلك مقاومة أو هبة أو انتفاضة الخ ، المهم أن يكون هذا الحراك الشعبي في إطار إستراتيجية وطنية توافقية وبما لا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة . الاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال أو تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال سيمنح شرعية إضافية للمقاومة الشعبية ، كما أن المقاومة الشعبية ستتسلح بالموقف الدولي الجديد .

في جميع الحالات ،لا مناص عن المقاومة حتى تصبح الدولة حقيقة قائمة ، ولكن ليس المقاومة الفصائلية والارتجالية وذات الأجندة الخارجية ، بل مقاومة في إطار إستراتيجية وطنية وتحت قيادة وطنية شرعية تمثل حالة توافق وطني ، تحدد وسائل وأشكال المقاومة الشعبية ، وقد تكون حالة الاستنفار الشعبي في القدس وعمليات طعن المستوطنين بداية لحالة عصيان ومقاومة شعبية ، مما يستوجب العمل على توسيعها لكل الأراضي الفلسطينية بتواز مع العمل الدبلوماسي وجهود إنهاء الانقسام .

الفهم الصحيح للسياسة علما وسلوكا سيوصلنا لحقيقة أن الحرب - والمقاومة شكل من أشكالها – وتدويل القضية والشرعية الدولية وجها عملة واحدة ،فلا توجد دولة أو حركة تحرر تنهج الحرب أو المقاومة إلى ما لا نهاية .القول بأن السياسة وحياة المجتمعات يحكمها منطق الحرب الدائمة والمعممة أصبح متجاوزا مع تجاوز مرحلة (شريعة الغاب) أو مرحلة الهمجية،كل حرب إلا ولها أسبابها القاهرة فالشعوب وخصوصا الخاضعة للاحتلال لا تلجأ للحرب حبا بالحرب بل دفاعا عن نفسها ومن أجل حياة يسودها السلام والاستقرار،الدول تلجأ للحرب لتجاوز عقبات لم تفلح العلاقات الودية السلمية وأدواتها لحل النزاع كالمفاوضات والوساطة والتحكيم الخ في حلها . حركات المقاومة والتحرر الوطني تلجأ للعمل العسكري ردا على الاحتلال وليس حبا بالقتال ، وممارستها للمقاومة المسلحة إنما بهدف أن يعيش شعبها بسلام .أيضا لا توجد دولة أو حركة تحرر تعتمد نهج السلام وتعيش بسلام إلى ما لا نهاية ،لأن خيار السلام ليس خيارا ذاتيا فقط بل مرتبط بالأطراف الدولية الأخرى وبمواقف الفاعلين السياسيين الآخرين ،وبالتالي فإن خيار السلام لا يُسقط خيار الحرب ولا يلغي حق الدول والشعوب بالتوفر على كل مقومات القوة حتى وهي تقول بالسلام وتسعى له،ومن هنا نلاحظ كل دول العالم الملتزمة بميثاق الأمم المتحدة والذي يقول بالسلام والالتزام بحل المنازعات بالطرق السلمية تمتلك الجيوش وكل عناصر القوة فيما ترفع شعار السلام وتؤكد عليه،وهو نفسه الميثاق الذي يعطي للشعوب الحق بالدفاع عن النفس ولحركات التحرر الحق بالمقاومة.

إذن من حيث المبدأ لا تناقض بين السعي للسلام من خلال تدويل القضية الوطنية وامتلاك القوة أو اللجوء إليها،ولا تناقض بين القول بالمقاومة وممارستها والقول بتدويل القضية والالتزام بالشرعية الدولية وتوظيف كل أدوات حل الصراع الأخرى كالمفاوضات والوساطة والتحكيم.واقع العلاقات بين الدول وحتى داخل المجتمع الواحد تؤكد على عدم التناقض بين السلام وامتلاك القوة أو السعي إليها.من يقول بالسلام كخيار استراتيجي ويسعى له مجردا من أوراق القوة وأهمها وحدة الشعب حول هذا الخيار والبقاء على الخيارات الأخرى ولو كإمكانية محتملة، لن يحقق سلاما لشعبه بل استسلاما أو استقرارا مؤقتا،ومن يقول بالمقاومة كإستراتيجية ويمارسها موسميا وفصائليا وبدون وحدة وطنية وبدون مشروع ورؤية للسلام لن يجلب للشعب إلا مزيدا من المعاناة وسيحرم الشعب من توظيف القوى المؤيدة لعدالة القضية الوطنية.

أكثر الدول حديثا عن السلام والقانون الدولي والشرعية الدولية تلجأ للقوة وحتى للإرهاب عندما يتم تهديد مصالحها وهذا ما هي عليه كل الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وحتى إسرائيل،وكل حركات التحرر بل وأكثرها ممارسة للعمل العسكري كجبهة تحرير فيتنام وجبهة تحرير الجزائر كانت تسعى لتدويل قضيتها إما لحصد نتائج العمل المسلح أو كاستراحة مقاتل أو استجابة لمطالب دولية ومساعي وساطة.

وهنا علينا استحضار ما جرى عام 1974،ففي ذلك العام تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في جامعة الدول العربية وغيرها من المنظمات العربية والإسلامية كما تم الاعتراف بها عضوا مراقبا في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية،حدث ذلك في وقت كان فيه الكفاح المسلح الفلسطيني في أوجه سواء داخل الأراضي المحتلة عام 67 أو داخل فلسطين 48 وكذا على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.لقد اعترف العالم بحق تقرير المصير للفلسطينيين لأن الشعب الفلسطيني كان يفرض وجوده عمليا من خلال المقاومة وسياسيا من خلال وجود قيادة وطنية موحدة.
الفلسطينيون وحدهم بين كل شعوب الأرض اختلفوا وانقسموا على أمور يجب أن تكون محل توافق وطني لأنها بطبيعتها لا تقبل التعارض ،فقد انقسموا حول المقاومة المسلحة وانقسموا حول خيار السلام وانقسموا حول الموقف من الشرعية الدولية.

خاتمة
القول بالسلام وخوض معترك الشرعية الدولية أو تدويل القضية جزء من أي عمل سياسي ،لكن ذلك لا يعني التخلي عن عناصر القوة عند الشعب ،القول بتدويل القضية لا يعني أن السلام سيتحقق غدا،والقبول بمبدأ التدويل لا يعني أن المنتظم الدولي سيُقدم للفلسطينيين حقوقهم على طبق من ذهب . إن كان لا بد من خوض معركة تدويل القضية فيجب الاستعداد لها استعداد من يذهب لمعركة ومن يذهب لمعركة يحشد كل ممكنات القوة إن لم يكن لتحقيق مكتسبات فعلى الأقل لتقليل الخسائر.

الخلل لا يكمن في تدويل القضية والشرعية الدولية بحد ذاتهما بل في أن بعض الفلسطينيين وضعوا جهود التدويل والسلام في حالة تعارض مع المقاومة ،مما أضعف مشروع السلام الفلسطيني والقائلين به وأضعف نهج المقاومة والقائلين به لأن كل منهما يحرم نفسه مما تتيحه خيارات الطرف الآخر. القائلون بالمقاومة كخيار وحيد يُضيٌعون على الشعب الفلسطيني فرص توظيف ما تتيحه الشرعية الدولية والقانون الدولي من ممكنات للاستفادة من حالة متنامية من التعاطف والتأييد لعدالة القضية ،والقائلون بالسلام والمفاوضات بدون مرجعيات وهدف محل توافق وطني يٌضيٌعون على الشعب الفلسطيني إمكانية تحقيق سلام عادل من خلال تجاهل قوة الشعب .

إن موقفنا المؤيد لتدويل القضية الآن ضمن الشروط الوطنية المشار إليها ينبع من تلمسنا وجود تحولات دولية شعبية ورسمية لصالح الشعب الفلسطيني يجب أن تُستثمر سياسيا،فهناك استياء ورفض للممارسات الإرهابية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني ورفض لسياسة الاستيطان والمستوطنين ومقاطعة لجامعات ومنتجات إسرائيلية وهناك لجان تحقيق ودعاوى تتهم قادة إسرائيل بالإرهاب ،واستطلاعات رأي في أوروبا تقول بأن إسرائيل مصدر تهديد للسلام في المنطقة ،ومطالبات تتزايد بحق الشعب الفلسطيني بدولة خاصة بهم وحتى داخل أمريكا هناك أصوات تتعالى وتحذر من أن الانحياز لإسرائيل يهدد المصالح القومية الأمريكية ،بالإضافة لكل ذلك هناك تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وتزايد أعداد الفلسطينيين بالنسبة للإسرائيليين الخ .

هذه متغيرات يجب أن نلحظها جيدا بالرغم من الوضع الفلسطيني الداخلي الذي قد يشوه الصورة .ليس مهما إن كانت هذه المتغيرات بسبب تمسك الرئيس أبو مازن بخيار السلام مما أحرج إسرائيل أمام العالم ،أو بسبب المقاومة والصمود أو بسبب الجرائم الصهيونية التي صدمت العالم أو بسبب كل ذلك ،المهم هناك متغيرات يجب أن تُستثمر سياسيا بإنجازات على أرض الواقع ،هذه المتغيرات تحتاج لقيادة سياسية تتواصل مع العالم وتطرح تصورا ورؤية سياسية لكيفية التعامل مع القضية دوليا وكيفية تعظيم هذه المتغيرات والمكتسبات،حتى لو زعمت حركات مقاومة إن الفضل بحدوث هذه المتغيرات تعود لأعمال المقاومة،يبقى السؤال كيف نحصد ما زرعته المقاومة وصمود الشعب ؟.