الأحد: 08/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

سرديات الزيتون

نشر بتاريخ: 04/11/2015 ( آخر تحديث: 04/11/2015 الساعة: 10:26 )

الكاتب: تحسين يقين

- هل كنا هنا بالأمس!
- كأننا.
مرّ عام بتعدد هوائه ومائه وغباره..
مرّ عام بعناصر حياة الأرض الواسعة، المحتضنة تقلبات الطقس، من أقسى البرودة إلى أقسى الحرارة، تلك الطقوس التي نشهدها عن قرب، فنتآلف مع البرودة لنلجأ ل"شكاف" أو أغصان شجرة تقينا بعض المطر، ثم لنهب أنفسنا لهبا نصطلي به وعليه، فتشرق ابتساماتنا فاركين كفينا ببعضها، طامحين لبعض شاي، ومع الحرارة لنلجأ لذات "الشكاف" ببرودته، ولظل الشجرة نفسها أو إحدى شقيقاتها، لنهدي أنفسنا بعض البرودة المحببة، وبعض النسمات.
مع آخر نقطة زيت مسالة، يكون موسم الزيتون قد انتهى، كانت الأمهات ينشغلن ب"المطبق والزلابية والمشاط والملاتيت والعوامة.."، مكافأة للأسرة على ما قدمته من أياد وكفوف قوية صبورة في لقاط الحب عن الشجر والأرض، في حين كان الكبار يهيئون الشجر لسفر جديد عبر اختلافات شعور الطبيعية، تستريح أشجار الزيتون من حملها الطويل، خمسة أشهر أو ستة، أو تزيد قليلا، ويكثر الدعاء والأمل بمطر يروي.
كأننا كنا هنا قبل أيام، الشجرات نفسها، والسماء والأرض، والزاد والزوادة، والعدة، والأيادي والضحكات، النوادر والنكات والسرديات والذكريات، هذه تثير الضحك، وتلك تثير الرثاء، وهذه تثير التأمل.

لقاء قريب جدا بين الإنسان وبين الشجرة، لقاء اللمس، والقطف، الرائحة، والبصر، أيادينا تصير ماكنات دؤوبة، هدف واحد، قطف كل الحبات. لقاء حميم بين القاطفين والقاطفات، فلا لقاط زيتون بين متنافرين/ات؛ فجمال اللمة هي الاجتماع في المشاعر، وبهذا التضامن والمحبة، يتحملون معا نهارا زيتونيا كله حركات.
لولا الحب ما استطعنا عبور المواسم!

مع الانتهاء من كل فرع فرحة صغيرة، ومن كل شجرة فرحة شجرة، ومع كل "حبلة" فرحة أكبر، وصولا للفرحة الكبرى، إنجاز الفعل بنجاح، وحينما تسيل الحبات نورا، ننسى جهد نهاراتنا..
ولولا الأمل ما عدنا إلى الكروم!
مرّت أعوام هنا على الشجرة، فكل زيتونة لها تاريخها في النمو والذكريات، من بضع حبات التباشير نقطفها بكف اليد الواحدة إلى، مئات وآلاف ضربات تمشيط الحبات الممطرات الأرض.
بعض الأشجار كبيرة العمر، بعضها مجايل لنا، وبعضها أصغر منا شهدنا ولادته، لكنها جميعا لها حقوق متساوية، علينا أن نمنحها الاحترام الذي يليق بها، فنمر عليها، السلام عليك يا زيتونة، لندور حولها لتقبل هداياها، شاكرين محبين، عشاقا وعاشقات، لننتقل إلى أخرى.

هل لنا إلا أن نتذكر؟ أول لقاط زيتون لنا، كان هنا، ويومها كنا متشوقين لكل شيء، فالتجربة جميلة، ذات أشواق وأشواك، كنا نلعب ونلهو بتلقيط الزيتون، ثم لنوظّف فضاء الأرض ملاعب لنا، غير مكتفين بها، فإذا بنا نكمل اللعب على فروع الأشجار، لنهتف في اكتشاف وجدنا عشا طارت فراخه العصافير وبقي متماسكا ينظرنا كي نسطو عليه، لنكمل حياته تمثيلا، ننجت حجارة صغيرة فتصير بيضا..لا تفقص الحجارة، لكن نحن الذين صرنا طيورا.
وقت الطعام وقت للفرح والسرور، وحينما كان يطل أحدنا حاملا الغداء، كانت قلوبنا تطير، فنداء المعدة الفارغة سوى من بعض حليب وزيت وزعتر يلحّ على باطننا، كل شيء له طعم جديد، كل شيء هنا تحت الشجر صار لذيذا، وقتها حملت السؤال في قلبي لماذا يصير ألّذ!

ما زال طعم تلك الطبخة على لساني، وقتها طلت شقيقتي تحملها، فإذا بي أعدّ خطواتها على الأرض، كانت العشرة دقائق تصير يوما، هل كان درسا في التشوق الأدبي! كانت الطفولة مهمومة بطفولتها، كانت الأشياء الصغيرة كبيرة، تلك الهموم والاهتمامات..تلك هي الطفولة.
هل كنا نغفو قليلا ونحن نلعب لعبة قطف الزيتون فيغطينا الكبار حتى لا نبرد؟ ما الذي كنا نشعر به حينما تعود أعيننا من سفر النوم القصير؟ وهل أخذنا راية الكبار؟ هل صرنا كبارا؟ هل غادرنا طفولتنا؟

فعل لقاط الزيتون ممل للصغار، إنه متشابه، لا جديد فيه، وحتى نملأ وعاء من الزيتون نحتاج زمنا حسبناه عمرا، لذلك صرت اصطحب الراديو معي ليؤنسنا في تلك السبعينيات، الغناء يعانق السيرة، والتمثيليات تعانق بعضها، فتصبح القاهرة بيننا وعمان ولندن، فأستمع للأخبار والخطابات، والقصص، وعبد الحليم وفريد وسميرة توفيق برف الحمام مغرب، متسائلا عن معنى دادا، أكبر في الاستماع لما يهم الكبار، وأعود طفلا وأنا استمع لأبله نظيرة في قصة وحكاية. أتساءل لماذا يطلب والدي مني رفع الصوت وهو يسمع الأخبار، هل كان متعلقا ببعض الأمل؟

كان الراديو مصدر بهجة وتسلية، وكانت قصصه باللهجة المصرية تأخذني إلى ضفاف النيل، حيث أخويّ يدرسان في بلد الإذاعات الكثيرة، القاهرة البرنامج العام، الشرق الأوسط، صوت العرب، صوت فلسطين من القاهرة، إذاعة القرآن الكريم...

موسم الزيتون يأخذنا نحو طفولتنا، إليها بالذات، لما حملت معه الاكتشاف، لم نكن ندرك يومها ونحن تحت شجر الزيتون أننا سنكبر ونغادرها، ليصير لنا أطفال مثلنا، تصير آباء ويصبح الأطفال طيورا تسير على خطواتنا، لتلعب لعبة لقاط الزيتون، ترى في الفضاءات هنا مجرد ملاعب.
لعل الموسم يأخذنا إلى دواخلنا، ربما لقياس حصاد البيدر، لنتأمل في ذاتنا، نحدّق فيها، هل نحن هنا ما كنا عليه في الأمس!
تلك سردية لا تنتهي، تبدأ الحكاية لتعيد نفسها، تتجدد في الأطفال الذين يولدون من الأرض، كنا هنا وكنا هناك في الزمان والمكان وما زلنا والشجر والزيتون والزيت المسال.

كان يا ما كان، كان يا مكان ناس وزتون، وخبز وأمل، لعب وتعب، تراب وماء، مطر ونار، وناس حولنا يأتون قبلنا أو بعدنا، يلعبون اللعبة نفسها، فحركات لقاط الزتون هي حركات لعبة يمكن محاكاتها، ورسمها وجعلها قصصا.

مرّت أعوام كثيرة، هي هذا العمر منقوص منه بضع سنين، انتظر الأهل خطوات الصغير لاصطحابه لرحلة نهار..ليكون العمر لقاط زيتون وعنب، والتصاق بالأرض المثمرة. ما العمر يا ترى؟ ما هو سوى لقاط حبات الحياة!