الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عندما تطالني حملة "الفضيلة"!

نشر بتاريخ: 13/11/2015 ( آخر تحديث: 13/11/2015 الساعة: 10:12 )

الكاتب: حيدر عيد

"الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة لا تمس..."
"كل اعتداء على اي من الحريات الشخصية او حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها
من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الاساسي او القانون٬ جريمة
لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم.."
القانون الأساسي الفلسطيني

عند تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية, بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في بداية التسعينيات, انتقلت مسئولية إدارة الحياة اليومية لسكان قطاع غزة المكتظ بالسكان, الذي تمنى رئيس وزراء اسرائيل اسحق رابين أن يستيقظ ليجده و قد غرق في البحر , الى الفلسطيني, اللاجئ المضطهَد, المحتل, المستعمَر, المقهور لعقود طويلة من الزمن, عقود رسخت العديد من العقد السيكولوجية التي حاول الاحتلال البغيض على مدار السنوات استثمارها لتطويع العقل الفلسطيني بشكل يرسخ الفكرة النمطية العنصرية عن عدم قدرة الأخير, "الديكتاتوري بطبيعته", على الحكم و الإدارة. و من الطبيعي أن هدف الاحتلال الاستيطاني العنصري بعد تطويع عقل الضحية المضطهَدة, هو السيطرة عليها حتي بعد الانسحاب الشكلي و عدم الاحتكاك المباشر بينهما, بل ترسيخ الانطباع بأن هناك "استقلال" و فصل كامل بين "الطرفين!" وما يتبقى في هذه الحالة هو خليط من النيوكولونيالية مع عقلية أمنية تعاني من بارانويا تتميز بوعي زائف مغلف بقشور محلية شكلياً, و احتلال متمترس على حدود السجن الكبير يتحكم بكل صغيرة و كبيرة و يدعي عكس ذلك, بل يأخذ دور الضحية لأنه, حسب هذا الإدعاء, ترك غزة لأهلها و لا وجود لجندي واحد على أراضيها. و بالتالي فإن الأمن داخل أسوار "السجن الكبير" هو بأيدي مسئولي المساجين, و المطلوب منهم هو الحفاظ على الهدوء بأي شكل كان.

و كانت انتخاباتُ العام 2006 في كلٍّ من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة "فرصةً" لفلسطينيي المعزلين-البانتوستانيْن للتخلّص ممّن ارتأوْا أنه قد فشل في إنجازِ ما وَعَدَ به عبر توقيع اتفاقيّات أوسلو ــ من استقلالٍ وطنيٍّ على 22 % من أرض فلسطين التاريخيّة, مع تأجيل حقّ عودة اللاجئين، وتأجيل المساواة التامّة لسكّان فلسطين 48. ومن المعلوم أن انتخاباتُ 1996 كانت قد أفرزتْ ثقافةً معاديةً للديمقراطيّة, مبنيةً على عقيدةٍ أمنيّةٍ عالمثالثيّة؛ ومن ثمّ جاء التصويتُ عام 2006 بشكلٍ يعاقب إفرازاتِ 1996، أملاً في بناءِ قاعدةٍ جديدةٍ تقوم على احترام التعدديّة بعيدًا عن الإقصائيّة البغيضة, قاعدة تقوم على احترام حقوق الإنسان و الديمقراطية بما تحتويه من احترام الحريات الخاصة كما ينص القانون الأساسي الفلسطيني. و في حالتنا الفلسطينية, يُعتبر احترام الحريات الخاصة من أهم ما جاء به القانون الأساسي لأنها تلعب دورا محوريا في تطوير الفرد و كرامته, و بالتالي تمكينه من مقاومة نظام الاضطهاد الصهيوني المركب. بكلمات أخرى, إن الحريات الخاصة تشكل بذرة للحرية الكبرى و نموذجا مصغرا لما تعني الحياة في و طن حر.

كانت هذه مقدمة ضرورية لوضع سياق لتجربة شخصية تعرضت لها مع عائلتي هذا الأسبوع على ميناء غزة.
مثل الكثير من المواطنين العاديين, ألتزم بتعليمات رجال الشرطة. و مثل كثير من الفلسطينيين ,طورت شجاعة عدم الخوف عند رؤية رجل أمن عاقد الحاجبين, مع شعور بعدم الراحة! عشت بعضاً من سنوات الانتفاضة الأولى و الانتفاضة الثانية, و من مشيئة الله لم أقتل لا في الحرب الأولى على غزة و لا الثانية و لا الثالثة. لا زلت أقاوم الحصار الخانق و أبذل قصارى جهدي في مجالات أستطيع أن أساهم من خلالها في العمل على عزل دولة اسرائيل و مقاطعتها أكاديميا و ثقافياً و اقتصادياً و دبلوماسياً. كما أنني ألتزم التزاما حديديا بالمحاضرات التي أُكلف بتدريسها في جامعتي و أحاول أن أساهم من خلالها في صياغة وعي نقدي مناقضا لثقافة التلقين الميكانيكية!

وكنت فد فهمت مبكراُ في حياتي أن الأجهزة الأمنية تشكل أداة قمع هائلة تستخدمها السلطات الديكتاتورية لترسيخ حكمها و خلق شعور لدى المواطن العادي, من خلال إذلاله, أنه تحت سيطرتها الكاملة. السلطات, بكلمات أخرى, تمتلك القدرة على التحكم بأدق خصوصياته!
و لكني أعلم أيضا ًأن الحريات الفردية مقدسة, و أن التعدي عليها غير مبرر حتى و إن جاء من رجل أمن. كنت قد سمعت منذ فترة عن حملة الفضيلة التي أقرتها سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة, و كنت أيضا قد استمعت لعدة قصص من أصدقاء و زملاء عن رجال أمن بلباس مدني يوقفونهم لسؤالهم عن العلاقة التي تجمعهم مع النساء اللاتي يجلسون أو يمشون معهن. و هذه بدأت بحالات فردية تطورت الى ظاهرة مقلقة يتم الادعاء بعدم وجودها, و أنها كلها حالات فردية, و أن من يدعيها إما مغرض, أو معارض للفصيل الحاكم...الخ و الحقيقة أن مجرد السؤال يحتوي على إهانة كبيرة في حق الرجل و من معه!

و هذا بالضبط ما حصل معي على ميناء غزة الساعة الخامسة يوم السبت 7.11.2015. حيث كنت قد اشتريت ساندويتشات فلافل لي و لزوجتي و قررنا تناولها في السيارة محاطاَ بالمئات من العائلات و العربات الأخرى. و سيارتي يوجد عليها علامة جامعة الأقصى وأكثر من ستيكر لحملة المقاطعة التي تقض مضاجع اسرائيل. و بعد 10 دقائق من الجلوس في السيارة و تناول الساندويتشات و الحديث عن ندوة كنت قد دعيت لإلقاء كلمة بها في جامعة بير زيت عن طريق السكايب, و بسبب عدم قدرتي على التواجد شخصيا, فقد تم الاتفاق مع المسئولين عن الندوة أن أسجل مشاركتي عن الهبة الشعبية و دور حملة المقاطعة في دعمها. و خلال الحديث, يأتي رجل بلباس مدني و يحوم حول السيارة و ينظر بطريقة مستفزة, و لكن لأن آفة التحديق موجودة في مجتمعنا, لم نعر الأمر أي اهتمام.

و بمجرد الانتهاء من تناول الفلافل و البدء بمغادرة المكان, قام نفس الرجل بالنداء حيث لم أسمعه, فقام من أعتقد أنه يعمل معه بلفت نظري أن هناك من ينادي علي. إعتقدت أنه صديق, فقمت بالعودة بالسيارة للمنادي. علامة الاستفهام على وجهي كانت واضحة, و بمجرد أن اقترب طلب مني النزول من السيارة للحديث. سألته عمن يكون, فقال أنه رجل أمن! و فورا قدمت نفسي و لقبي, وأنني لا أفهم لماذا يتم اعتراضي بهذه الطريقة! طبعا القضية كانت واضحة, ولذلك أبديت امتعاضي الشديد, مما جعله يعتذر و يقوم بدعوة من قال أنه رائد و مسئول الأمن في الميناء. و بمجرد أن جاء الرائد أبدى أسفا شديدا و قدم عدة اعتذارات. و الحقيقة أنني شعرت بمهانة هائلة, حيث بدأ رجل الأمن يبرر أنهم "يرون أشياء كثيرة في الميناء" مما أثار حفيظتي بشدة! و طبعا طبيعة النقاش لفتت نظر العدد من زوار الميناء. فقلت أنني سأوصل زوجتي للبيت و سأعود لأفهم ما الذي أثار شكوكه, و أنني أريد أن أفهم إن كان القانون يعطي له الحق في ذلك. قام بالاعتذار مرة أخرى, و إن كنت لم أقتنع بذلك على الاطلاق. و فعلا قمت بالعودة الى الميناء بعد 25 دقيقة كي أفهم ما الذي أثار الشبهات, و لكني لم أجدهم.

قررت في اليوم التالي أن أتصل بصديق يعمل في مؤسسة حقوق انسان كي أفهم الوضع القانوني, و هل هناك ما يسمح بالتعدي على الحريات الفردية بهذه الطريقة المهينة. و طلبت رقم مراقب عام وزارة الداخلية, حيث أجريت حديثا مطولا معه. و الحقيقة أن الرجل كان في غاية اللطف و أبدى تفهما كاملا و امتعاضا لما حصل ووعد بمتابعة الأمر بعد أن قمنا بنقاش مطول عن السياق الذي تتم خلاله هكذا تعديات, و إن كانت قضية رأي عام أم حالة فردية بما أنها من وجهة نظره لم تصل الى حالة الظاهرة. و للأمانة فإن الرجل استطاع بلطفه و ثقافته أن يحيّد غضبي.
و لكن السؤال يبقى: ما الذي يعطي الحق لرجل بلباس مدني أن يفعل ذلك؟ ما الذي يمكن أن يثير شكوك من سيارة يجلس بها رجل في ال 50 من عمره يتناول ساندوتش فلافل مع زوجته؟

و بما أن السياقات مهمة فإنني فكرت بالخط الأيديولوجي الحاكم الذي نجح في انتخابات 2005 الشفافة. و كانت نتيجة تتزايد الضغوطات الدولية و الاقليمية و المحلية عليه أنه بدأ يسيطر عليه منطقٍ إقصائيٍّ ينطلق من رؤية العالم برمّته من خلال نظّاراتٍ إيديولوجيّةٍ تحصرُه في ثنائيّة أبيض/أسود, خير/شرّ، فتصبح وجهةُ نظره هي الحقيقة المطلقة التي تمثّل الخير/ الأبيض في مواجهة الشر/ الأسود. و يبدو أنني, و لسبب لا افهمه, أنتمي الى الجزء الثاني من الثنائية, أي الشر. هو منطق لا يرى إلا السيء في كون رجل و امرأة يجلسان في سيارة لوحدهما, حتى لو كانا محاطين بالمئات من الناس!

الحقيقة أنني من المؤمنين أن منطق الإقصائيّة نقيضٌ لكلِّ ما نناضل من أجله، من حريّةٍ ومساواةٍ وعدالة. وهو منطقُ عانته البشريّةُ قرونًا من الزمن. فمحاكمُ التفتيش القروسطيّة في أوروبا قامت في الأساس على هذا المبدأ: إمّا أن تقبل بالتفسير الكنسيّ الكاثوليكيّ، أو أن تُعتبر مهرطقًا. و يبدو أنني, من وجهة نظر رجل الأمن العشريني, أو الثلاثيني, لا ينطبق عليّ, على الرغم من دخولي العقد الخامس من عمري, فهمه للعالم المحافظ! ملبسي, طريقة كلامي, إحترامي لمن يتحدث معي من الجنس الآخر, الهيئة العامة, تجعلني "آخرا" و بالتالي عرضة للشبهة!

كنت أتمنى أن أتمكن من التواصل مع السيد وزير الداخلية, وهو أيضا رئيس الوزراء, كونه المسئول الأول في الوزارة بالإضافة لكونه زميلا أكاديميا, لأبدي احتجاجي على هكذا سياسة تتناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و مع القانون الفلسطيني . لكن واقعنا السياسي المهلهل يجعل ذلك التواصل مستحيلا, بالإضافة لكون السيد وزير الداخلية لا يمتلك أي صلاحيات في قطاع غزة. و ها أنا أقوم بذلك عبر هذا المنبر, و أتقدم بالشكوى للناس العاديين الذين يتعرضون, أو سيتعرضون, لهكذا مواقف, مواقف تتعدى على الكرامة البشرية في وقت نقدم به الشهداء من أجل هذه الكرامة.
و لا زلت, في ظل شعوري بمرارة شديدة, أحاول فهم مدى قانونية ما قام به رجل الأمن, و إن كان فهمي من عدمه لن يؤثر على استمرارية تطبيق سياسة يؤمن أصحابها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة!