الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

أهل البلد... غائبون أم مُغيّبون؟!

نشر بتاريخ: 17/11/2015 ( آخر تحديث: 17/11/2015 الساعة: 14:56 )

الكاتب: د. سهير قاسم

عند السير في الطرقات وفي المحلات في البيوت المستأجرة وأثناء التجوال في الشوارع أو داخل المؤسسات نرى الدخيل والغريب الأجنبي والمارق في مجتمعاتنا والأخطر أن نراهم في بيوتنا وفي مؤسساتنا. وبطبيعة الحال لا أقصد الوجود المادي بقدر ما أقصد الوجود المعنوي الذي بات يشعرنا بالدونية وبالغربة في دور علمنا ودور نشرنا ومكتباتنا وفي داخلنا وحدث ولا حرج. شعرت للوهلة الأولى بالإنهاك والارتباك والخوف من القادم الوافد، وتساءلت، لماذا لا نقف وقفة تأمل للواقع الذي نعيش علّنا نعي ما يدور حولنا وربما نشعر بطمأنينة الوجود في المكان حتى لا نصبح الدخلاء على جغرافية مكان ترعرعنا فيه!

لم أشعر بالارتياح وانهمرت الدموع بعد أن حبستها برهة حتى غادر الصديق الذي كان يجلس في المكان، أطبقت الحياة علينا في بلد غلبت فيه المصلحة الشخصية المصالح العامة، وسرعان ما عدت استذكر ما رواه الصديق وهو الذي ينتمي للمكان في واحدة من مؤسساتنا عندما وصف المشهد قائلا: انتظرت ساعات وساعات طويلة من أجل مقابلة المسؤول والتحدث إليه عن هموم وقضايا ومن أجل اطلاعه على مقترح عملت فيه سنوات في الوقت ذاته كان يُفتح فيه باب المسؤول على مصراعيه ويغلق بين الفينة والأخرى لاستقبال وفد ووداع آخر من الأجانب والدخلاء الذين تميّزوا بانتفاخ جيوبهم من المال فسرعان ما تتحول مقترحاتهم لمشاريع بغض النظر عن مخرجاتها وقد نفيد منها وقد لا نفيد، ذلك مرهون بخطط الساسة وذوي القرار.

دار في خلدي تساؤلات لماذا لم تُقبل أفكار الصديق وتدمج، على الأقل، في مشاريع هؤلاء الغرباء؟ لماذا يُهمش الفكر وتُهمش الخبرة فينا وتتعرض للموات في بلد العطاء والخيرات؟ فهل نهدف إلى ترويض أجيالنا وأنفسنا! أفواج أفواج وقد ضاقت الساعة بالصديق، لم يعد فيها الوقت كافيا لمقابلة الخبير المحلي، فهل ذاك مؤشر الضعف والترهل أم مؤشر التطور والنماء، أم أنني والصديق قد لحقنا بركب التخلف وابتعدت عقولنا عن التطور والحضارة؟!

ربما لا تُعجب هذه الكلمات الكثيرين، وقد يقال بأننا من أولئك الرجعيين، ولكن ... أليست الرجعية أقرب إلى التلاحم والتشارك وقد تربط بيننا وتوحد كلمة أبناء جلدتنا إن كان البديل مجرد التخريب أو التطور الشكليّ؟! أم أن ذلك التطور الوهمي بات العلاج الوحيد الذي سينقلنا إلى ركب الأمم المتحضرة حتى وإن كان حاجزا منيعا أمام حوارنا وأصالتنا!

ندرك أصالة أبناء هذا البلد، فحجارة المكان وثراه لا تدوّن ولن تذكر عبر تاريخها أسماء المارقين، ذلك بطبيعة الحال لا يعني أننا نرفض الانفتاح والتواصل مع الأمم ولا نغلق على أنفسنا أو نعتزل الآخرين، لا قدر الله، فلا ضير من تبادل الخبرات حتى نكون جزءا من الثقافة العالمية والكونية، إلا أن ذلك أبدا لا يتناقض مع حفاظنا على كرامتنا الإنسانية وفخرنا بموروثنا واعتزازنا بعقولنا وبفكرنا الذي لا يقل أبدا عن فكر الآخرين وعقولهم.

ألم يحن الوقت للنهوض بذاتنا بعيدا عن مصطلح الخضوع إلى حضارات غريبة وافدة دون دراسة وقد تحمل الغث والسمين النافع الطالح، ألم يأت الوقت المناسب بعد حتى ننتقي الأنسب والأقرب لواقعنا بعيدا عن مجرد الانبهار بكل ما نراه خاصة أن الإمكانات موجودة والطاقات كامنة لكن ما نحتاجه فعليا تشخيص الواقع بدقة ومعالجة التحديات من جذورها دون إطلاق أحكام غير دقيقة وغير مدروسة أصلا ولا تزيدنا إلا اندثارا وارتدادا إلى الوراء.

علينا أن نعزز أجيالنا ونسلحهم بحب الذات الوطنية لا الذات الخاصة التي لا تخدم إلا أصحابها، أما الشعور بالدونية الذي بات يلاحقنا في كل مكان وحيثما كنا، تلك الدونية القاتلة التي تقزّم إنجازاتنا، فما بين راغب في ليّ لسانه وفكره حتى يظهر بصورة المتطور والمتقدم والمترجل على ركب الحضارة المزيفة، فهل نحن بحاجة إلى المزيد من المارقين على ثقافتنا؟!

والحديث عن الدونية يتطلب الكثير ومظاهرها عديدة، فمنها ما يظهر في استخدام اللغة بصور غير صحيحة للتعبير عن أهداف رسمية وغايات لمجرد الرغبة في الظهور الشكلي والعبثي، فتراهم يقصون لغتهم الأم للتحاور في قضايا مهمة لا تعد ملكا لهم، وكم وقعوا في المحظور وتورطوا في ضخ بيانات غير دقيقة لأسباب عديدة، منها سوء استخدام اللغة، مع إيماننا بأهمية لغة العلم سواء أكانت عربية أو أجنبية، لكن الأهم قدرة التعبير عن الهدف بصور صحيحة وتقديم المضامين الجدية لا مجرد تقديم المغلوط متناسين أنهم يمثلون مؤسساتهم لا شخوصهم.

أليس الاعتزاز بتجارب الغير وترك تجاربنا وخبراتنا الأصيلة يعد مظهرا من مظاهر الدونية؟ لماذا الترويج بإنجازات وخبرات غريبة لمجرد أنها وافدة وفي الوقت ذاته تُقزّم تجاربنا الحية ويقلّ حظها في الذكر وقد تُنعت بالتخلف إذ لا تجاري طموح الممولين! فهل تجارب غيرنا جميعها نافعة ومفيدة لأجيالهم؟ قد تصلح أفكار نفيد منها لكنها لن تكون البديل، لماذا نتناسى أن التجربة الحقيقية النابعة من واقع صاحب المكان هي المنارة الفعلية. علينا أن نعود إلى مواقعنا حيث يقبع خبراؤنا هناك وحينها نشهد المزيد من التجارب الحقيقية التي لا ترتبط بمصلحة أو مال وقد تسهم في التجارب العالمية.

وهناك الدونية في مجال فاعلية الفكر والأفكار، ولو أمعنا النظر قليلا في الاجتماعات واللقاءات بعيدا عن التعميم ونرقب ما يدور حولنا، فهناك الجلسة المتواضعة التي تُطرح فيها الأفكار العميقة وربما الغنية، لكن السامع أو المنسق المسؤول أو ما شئت من المسميات غير مكترث بالفكرة ربما لأن قائلها إنسان متواضع وربما فقير الحال، لكن انتقاله السامع نفسه إلى موقع آخر ليستمع للفكرة نفسها ربما من خبير أجنبي أو مارق أو صاحب مال فتراه مرحبا ومهللا بالفكرة وكأنه يستمع إليها للمرة الأولى!

وما زال يهتف الهاتفون وينبهر المنبهرون بما يرونه من تجارب خارجية، وهنا أقول اذهبوا وشاهدوا ولا تنبهروا كثيرا بما ترون. فالأصل عدم الحكم على ثقافة برمتها لمجرد مشاهدة تجربة أو خبرة قليلة، مع أهمية تحقيق المشاهدة الحقيقية برمتها دون تكلف وبعيدا عن الرسميات والنفاق والاستعراض الذي نرى فيه الزيف ونجافي الحقائق.

إننا بحاجة إلى التفتح والرغبة والملاحظة الفعلية لا مجرد الوقوف عند زيارات تغرق بالإعلام وقد تُفرّغ من مضامينها وتنهي أهدافها بانتهاء مع نهاية اللقاء، ذلك لا يعني التقليل من أهمية الخطاب الإعلامي ودوره الكبير لكنها الحاجة إلى توظيفه والبحث عن أصالة المكان ومشاهدة التجارب الحية وأخذ العبر والدروس بعيدا عن مجرد التعميم السلبي وجلد الذات وإصدار الأحكام الهادفة إلى جلب المزيد من الأموال.

هل نال منّا الضجر والملل وطالت عقولنا عقدة الغرب والغريب الذي علمنا أن الإبداع لا يكون في ذاتنا بل يكمن في عقول الأمريكان وغيرهم، ويصبح الابتكار والإبداع مرهون بوجود الخبير الأجنبي المنقذ من الفشل وهو الذي سيقدم لنا العلم والمعرفة ونغرق مرات ومرات لنعود مرة أخرى إلى المكان نفسه الذي يضيق بنا وقد تضيق منّا الحياة.

تدلل المؤشرات أننا نسير في الطريق غير الصحيح وقد تنحرف بنا البوصلة عن مسارها لا قدر الله، وكلي أمل أن يكون الواقع غير ما أقول، لكنها الحقيقة التي إن تأجلت لا تختفي، وإن مشاهدة الواقع الفعلي دون استعراض خير دليل. أما هؤلاء الدخلاء والمارقين فلهم مصالحهم الخاصة ولتجار العلم أهداف تختلف عن غاياتنا وأهدافنا وما يدور في خلجاتنا، فلماذا نتجاهل ذاتيتنا ومصالح أجيالنا؟ كيف لنا أن نحقق طموحاتهم وتطلعاتهم المنشودة بمجرد الوقوف عند المصالح الخاصة التي تغيب في ظلها المأسسة ونستمر في البحث عن الرتب والمناصب في بلد يُغيّب فيه الفكر والخبرة وكأن الخير مرهون بأن نبقى مستهلكين للمعرفة كما الحال في مجالات الحياة الأخرى؟!

إن الثقة بالنفس وبالقدرات المحلية وبالخامات الدفينة في مجتمعنا يجلب العمل والأمل إلى جانب تحقيق أهدافنا الوطنية، عندها لن نقع في فخ ضغوط العمل وسيتمكن صديقي من مقابلة مسؤوله بثقة، سنتخلص من ضغوط أنعتها بالوهمية على الأغلب، حيث إن كثرة هذه الاجتماعات قد يؤشر للفشل لا النجاح، وربما يكون على حساب العمل الحقيقي إن لم يرتبط بالمخرجات الحقيقية. فكيف إن كانت كثرة اللقاءات لصالح الغريب الأجنبي والتاجر بالمعرفة مع حاجتنا للتواصل المدروس واستثماره للمصلحة العامة دون الوقوف عند المصالح الشخصية!

لماذا لا نترك برهة من الوقت لخبراتنا المحلية لذاتنا بالتشارك والمشاركة الفاعلة بعيدا عن الرتب والمسميات؟ فجميعنا نحيا في مجتمع واحد متجانس لا مكان فيه للعابثين. لماذا لا نتعاون في التخطيط مع أنفسنا أولا قبل التخطيط مع الممول أو المانح؟ لماذا لا تُبنى استراتيجيتنا لتكون موحدة نتوافق عليها وتتسم بدقة المخرجات الفاعلة التي تنبثق من استراتيجياتنا بأدوات واضحة لتكون مرجعية وإطارا للمانحين ويمكن أن تقدم لهم وفق شروط وضوابط ممنهجة متوافق عليها، فمن أراد منهم الالتزام فمرحب به، ومن لم يرد فذلك شأنه ولا حاجة لنا بما لديه.

هل نحن بحاجة إلى وسيط أو أموال حتى نتحاور مع أنفسنا أو حتى نبت في صغائر أمورنا؟ هل كثرة الذاهبين والوافدين والمغادرين من مؤسساتنا وإليها من مؤشرات النجاح؟ من هو الأقدر على حل مشكلاتنا وتحدياتنا؟ ماذا لو ابتعدنا عن النفاق والمجاملات واستندنا إلى رسالة واضحة مضبوطة بمخرجات غير مرهونة بكميات الإنفاق وحجم التمويل قلّ أو كثر، ماذا لو بحثنا عن إجابة لسؤالنا المهم، هل يصب ذلك الإنفاق في المصلحة العامة؟ هل مخرجاته فاعلة ومؤثرة؟ أم أنه موجود لمجرد التحكم بألسنتنا وبفكرنا وبعقولنا!

كثيرا ما يتبادر إلى ذهني مشاهد من عصر المماليك أو حتى الصعاليك إذ تكثر المؤامرات والتكتلات فتلك مؤشرات الفساد التي لا تعلق بفكر الباحثين عن الأصالة والحكمة والتجارب الحكيمة، فالمناصب المُتنازع عليها زائلة وكأننا نسينا أو تناسينا الاحتلال الجاثم على صدورنا، أليس الأهم أن نفكر في مستقبل الذين يموتون ويستشهدون كل يوم، فهل سنتاجر بدمائهم الطاهرة؟ هل سنكتفي بحمل شعارات تشجيع وتصفيق للشهداء منهم؟

نطمح أن تصبح غايتنا استثمار المال من قبل الجميع المؤسسات المدنية والرسمية بما يخدم المصلحة العامة، لا من أجل ضخها لخدمة فئات وشرائح محدودة تحقق مصالح ذاتية أو أهداف خاصة غير نابعة من الحاجات. وبعيدا عن التعميم فالخيرون باقون ويعملون بيننا وقد يحقق بعضهم المصالح العامة، فمنهم من يعملون دون تعجيز أو شروط لكنهم قلة، ألا يعني ذلك بحاجتنا إلى وضع الشروط، أليس من الأجدر أن نكون أصحاب القرار وأن نضع القيود لترتيب بيتنا الداخلي ومن ثم نتحاور مع الجهات الخارجية حينئذ يمكننا تفعيل قراراتنا قرارتنا وبعدها ننتقل إلى مرحلة التفكير في زيادة عدد المانحين أو ربما تقليصهم ... ذلك كله مرهون بوجود العزيمة والإرادة لا غير.

عندها ننهض بفكرنا وعقولنا بعيدا عن العشوائية والعبثية، ويبقى صاحب البيدر وصاحب الشارع هو الحامي للمكان الذي يرعاه حتى وإن تلوّن الدخيل بيننا، أما المارقون فطريقهم الرحيل مع أصنامهم وقد ارتبطوا بالفكر الدخيل والمال. لنثق بأنفسنا ولنبتعد عن الدونية والشعور بها عملا لا قولا، أما الفكرة والخبرة النافعة فتأتيك من التواصل حتى مع الطفل الصغير إن أمعنا النظر في كلماته وتفحصناها وأصغينا إليه بغض النظر الجنس أو العرق...منطلقين في ذلك من كون التعلم هو الاحتكاك بين البشر الذي لا ينحصر عند قوم أو فئة أو شريحة بعينها!

بتنا نشعر بالغربة في المكان، مجتمع تدفقت فيه الأموال علينا أن نستثمرها لترتبط بمخرجات ذات فاعلية، وأن نتأكد من كونها هل تصيب الحاجات وتتحقق الأهداف، ولكننا مع هذه الغربة نقول بأن القوة باقية وأن الذاكرة تعود لتخبرنا بأننا أبناء العظماء والشهداء وأصحاب الهمم الكبيرة وخير شاهد على ذلك جيلنا الذي هب وثار على الاحتلال رافضا الظلم رغم محاولات ترويضهم بالمال والهبات لكنهم أثبتوا أنهم الأقدر والأجدر على تحمل المسؤوليات فقد حملوا لواء الأرض، كيف لا وقد تغذوا بزيت الأرض وشهدها، ويبدو أن المال قد روّض جالبيه والمنتفعين به. أما أنت يا صديقي الذي تنتظر على باب المسؤول فإياك أن تظل تعد صامتا ولتعمل في كل مكان؟!