نشر بتاريخ: 29/11/2015 ( آخر تحديث: 29/11/2015 الساعة: 15:20 )
الكاتب: د.احمد يوسف
تاريخياً، عانت المنظومة القضائية في فلسطين من غياب الاستقلالية القانونية والاستقرار السياسي، فمنذ النكبة عام 1948م وحتى سقوط الضفة الغربية وقطاع غزة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في يونيه 1967م، كانت الضفة تخضع من جهة منظومة اللوائح والقوانين لما يتم تطبيقه في الأردن، أما القطاع فقد كانت تطبق عليه القوانين التي يتم العمل بها في المحاكم المصرية، باعتباره تابعاً إدارياً لجمهورية مصر العربية. وقبل هذا الفترة؛ أي في الفترة التي كانت فيها فلسطين جزءاً من بلاد الشام، وكانت تابعة لدولة الخلافة العثمانية (1517- 1917م)، فقد كانت منظومتها القضائية لا تخرج عما كانت عليه دولة الخلافة، وسرت عليها تشريعات وقوانين هذه الدولة. وفي عهد الانتداب البريطاني (1917 - 1948م) الغيت التشريعات التي كانت قائمة، وعمدت سلطة الانتداب على سن تشريعات وقوانين تلائم حالة الاحتلال. وبعد نكسة عام 67م، أصبحت الضفة الغربية وقطاع غزة تخضع في تشريعاتها القضائية لمتطلبات دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث صدرت الأوامر العسكرية لتسيير الشئون المدنية في كل المناطق الخاضعة لجيش الاحتلال، مع وجود قضاء فلسطيني بسلطات محدودة ومقيدة.
للأسف، لم تستقر أحوال منظومتنا القضائية إلا فترة وجيزة؛ أي بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م.. وبعد انتخاب المجلس التشريعي في يناير 1996م، أصبح هناك توحيد لعمل القضاء، وأجريت التعديلات المطلوبة لموائمة اللوائح والقوانين بين الضفة والقطاع.
ومع الانقسام الذي وقع في يونيه 2007م، وحدوث القطيعة السياسية بين السلطة في رام الله والحكومة في غزة، وغياب التواصل بين الضفة والقطاع، واستنكاف أغلب الموظفين، ومن بينهم قضاة ووكلاء نيابة، على إثر تعليمات من مجلس القضاء الأعلى في رام الله بعدم التعاطي مع جهاز الشرطة أو استحصال أية رسوم قضائية!! ومع إنشاء مجلس العدل الأعلى كمجلس انتقالي له صلاحيات مجلس القضاء الأعلى، حدثت القطيعة وتباعدت الأمور أكثر فأكثر، ودخل آخرون لملء الفراغ الحاصل من غياب المستنكفين، مما تسبب في اضطرب عمل المنظومة القضائية، وتعاظمت المشكلات التي تعاني منها، وهي ما تزال حتى اليوم تحاول إصلاح بنائها الداخلي، والتواصل مع شطرها الآخر في رام الله، وإن كانت الجهود المبذولة حتى الآن تظلع دون الوصول وتحقيق الغايات المطلوبة.
توحيد السلطة القضائية: القيمة والأهمية
تكمن أهمية توحيد النظام القضائي في فلسطين باعتباره المقدمة لإنهاء الانقسام، والمدخل الأساس لبناء سلطة قضائية مستقلة وقوية وقادرة على خدمة جميع أطياف الشعب الفلسطيني بمساواة ونزاهة وعدل، والعمل بموضوعية على إصلاحه وضمان استقلاليته، وزيادة شعور المواطن الفلسطيني بالأمان. كما أن ذلك سيؤدي إلى رفد وزيادة تركيز الدعم - سواء المحلي أو الإقليمي أو الدولي - في بناء القدرات القضائية؛ من تدريب وتبادل الخبرات الخارجية للقضاة أو في بناء وتحديث المؤسسات القضائية، مما سيسهم في زيادة فعالية السلطة القضائية، وكذلك في استثماره لتطوير وتوحيد القوانين والتشريعات الناظمة لحياة المجتمع في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ما سينعكس إيجاباً على الوطن الفلسطيني في سبيل السير قدماً نحو بناء الدولة الفلسطينية، التي يحتكم جميع مواطنيها لسيادة القانون، وفق سلطة قضائية واحدة وموحدة في القرارات والأحكام النافذة.
ظاهرة المستنكفين: سابقة تستدعي التساؤل والاستهجان
إن ما عرف باستنكاف موظفي السلطة الوطنية الفلسطينية منتصف العام 2007 م هو ظاهرة غريبة، وسابقة تاريخية خطيرة لم تحصل في أي مكان من العالم، حيث ترك أغلب الموظفين في قطاع غزة أماكن عملهم بأوامر وقرارات ذات طابع سياسي، لا تستند الى القانون أو المصلحة الوطنية، صادرة من قيادة السلطة الوطنية في رام الله، في مخالفة واضحة لقانون الخدمة المدنية وقانون العقوبات الفلسطيني.
وتساوقاً مع تلك القرارات السياسية، اتخذ القضاة في قطاع غزة، قراراً بترك أماكن عملهم والجلوس في بيوتهم، تاركين مهمتهم المقدسة في تطبيق القانون وتحقيق العدالة ونظر الخصومات، ومهدرين الإنجاز التاريخي المنصوص عليه في القانون الأساسي الفلسطيني، وهو "مبدأ الفصل بين السلطات"، على الرغم من أن القاضي في فلسطين لم يترك مهامه المقدسة في أي حقبة تاريخية مرت بها البلاد سواء في فترة الاحتلال البريطاني أو فترة الحكم المصري أو حتى في فترة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967م وصولاً إلى عام 1994م.
وبالرغم من المحاولات التي قام بها البعض على المستوى الفردي أو الجماعي من خلال المؤتمرات، إلا أن تلك الجهود لم تؤتِ أكلها، فيما المساعي والآمال ذهبت أدراج الرياح. ومع ما صاحب تشكيل حكومة انتقالية برئاسة د. رامي الحد الله، عادت الآمال من جديد باستعادة منظومتنا القضائية لوحدتها، إلا أن الحال لم يتغير كثيراً وبقينا على نفس الحالة من المراوحة في المكان!!
عملية الدمج والتوحيد: أفكار وتصورات
في سياق الدراسة التي قمنا بإعدادها في معهد بيت الحكمة (House of Wisdom)، بالتشاور مع واجهات قضائية وقانونية، والموسومة: "دراسة تحليلية لواقع السلطة القضائية وقطاع الأمن في ظل جهود الدمج والتوحيد في حكومة الوفاق الفلسطينية"، فقد جاءت بعض خلاصات الدراسة على النحو الآتي:
حيث إن مرجعية المجلس الأعلى للقضاء في غزة هو القانون الأساسي، واستقلال السلطة القضائية، والعمل على خدمة الشعب الفلسطيني، الذي يستحق خدمات مميزة في قطاع العدالة، لذا فإنه يجب الابتعاد عن أي خلافات سياسية أو تجاذبات حزبية أو تنظيمية، مع الأخذ بعين الاعتبار تحمل المسئولية المشتركة لكل طرف إلى ما آل إليه الوضع القضائي بعد الانقسام والحروب المتعاقبة الثلاثة على قطاع غزة، وإعادة تعزيز الثقة بكل الجهود السابقة المبذولة والتي أشير إليها سابقاً في سبيل توحيد مرافق القضاء في قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى أن يكون هناك تنفيذ واقعي وعملي لأي جزئية يتم التوافق عليها، ابتداءً من الموظفين، مروراً بمحاكم الصلح، وانتهاءً بالمحكمة العليا ورئاسة وتكوين المجلس الأعلى للقضاء. وبذلك، فإن التطلع إلى سلطة قضائية قوية تحافظ على استقلاليتها وتنأى بنفسها عن التجاذبات السياسية وتترك السياسة لأهلها، ليبقى القضاء هو الحصن الأمين على مقدرات شعبنا، والحامي القوي لحريات وحقوق المواطنين.
وتأسيساً على ما سبق، فإن الرؤية لمستقبل السلطة القضائية في فلسطين يمكن أن تتبلور في الآتي:
أولاً: توحيد الجسم المؤسسي للسلطة القضائية في الوطن، بإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء من جديد، على أساس التوافق بين مجلسي القضاء في قطاع غزة والضفة الغربية.
ثانياً: عدم المساس بالمكانة الوظيفية للقضاة العاملين في قطاع غزة وبالموظفين المساعدين للقضاة.
ثالثاً: عودة القضاة السابقين (المستنكفين) إلى أماكن عملهم التي تركوها، دون اعتماد للترقيات التي حصلوا عليها فترة تركهم للعمل لعدم قانونيتها، مع إعداد دورات تدريبية لإعادة تأهيلهم، نتيجة تركهم العمل لسنوات طويلة.
رابعاً: تعزيز استقلال القضاء مالياً وإدارياً بما يكفل تلبية احتياجاته، وعدم المساس باستقلاليته، وبما يضمن استقرار الوضع الوظيفي والمادي للقضاة، والنأي بالقضاء والقضاة عن أي إشكالات مالية أو سياسية.
خامساً: العمل على رفد السلطة القضائية في قطاع غزة بعدد مضاعف لمجموع عدد القضاة العاملين والقضاة المأمول عودتهم للعمل، لنصل إلى معدل معقول نسبياً بين عدد القضاة وعدد القضايا المنظورة، وليتقارب معدل عدد القضاة نسبة إلى عدد السكان من المعيار الدولي.
سادساً: وضع رؤية لإنشاء قضاءٍ متخصصٍ يسهم في سرعة البت في القضايا وتحقيق العدالة، ويعزز من جودة العمل القضائي، فإن تعزيز وتنفيذ فكرة التخصص القضائي، وإحداث نتائج إبداعية كبيرة يؤدي إلى تيسير حصول المواطنين على خدمات مميزة، من خلال ضبط مستوى الجودة في نقاط التماس مع الجمهور.
سابعاً: العمل على سرعة إنشاء مبانٍ تليق بالمحاكم وهيبة القضاء، والإسراع في إنشاء دار القضاء العالي في قطاع غزة، خاصة وأنه تم تخصيص قطعة أرض حكومية لإقامتها عليها، وبتبرع كريم من دولة قطر الشقيقة.
ثامناً: العمل وبشكل جاد وسريع لتطوير المعمل الجنائي، بما يسهم في اجراء تحقيقات مهنية ومتخصصة تعمل على كشف الجناة ومرتكبي الجرائم لتقديمهم للعدالة.
تاسعاً: رفدُ السلطةِ القضائيةِ في قطاعِ غزةَ بعددٍ كافٍ من أعوانِ القضاةِ من موظفينَ وشرطةٍ قضائيةٍ.
عاشر: ضرورة احترام القانون الأساسي الفلسطيني، وإنشاء المحكمة الدستورية العليا التزاماً بالمادة (104) .
وبالتالي فإنه بتوحيد السلطة القضائية كأولوية يتم فتح المجال في سبيل توحيد كافة مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية والإجراءات والقوانين بين المحافظات الجنوبية والشمالية، الأمر الذي يؤدي إلى تنظيم الحياة بشكل أفضل.
عملية الدمج والتوحيد: ترتيب الأولويات
وتجدر الإشارة إلى وجوب مراعاة الأولوية اللازمة لإتمام عملية الدمج والتوحيد، انطلاقاً من مبدأ استقلال السلطة القضائية، وأخذاً بالاعتبار للكفاءة والأقدمية، وذلك ضماناً لنجاح وسهولة تطبيق هذه العملية، وأهمها يتمثل في:
1. اعتماد القضاة والموظفين الحاليين.
2. عودة المستنكفين إلى أماكن عملهم.
3. تجهيز وتوفير الدعم اللوجستي اللازم لعمل السلطة القضائية.
4. توظيف قضاة وموظفين اداريين جدد.
5. العمل على إيجاد قضاء متخصص.
ختاماً: ضرورة الفصل بين السياسة والقضاء
في ظل التناقضات والخلافات السياسية القائمة وتعثر عمل حكومة التوافق برئاسة د. رامي الحمد الله، فإن الحالة الفلسطينية للمنظومة القضائية تبعث على الخوف والقلق، والمطلوب بذل الجهود لعمل شيء لتحييدها والحفاظ على استقلاليتها القانونية، وإن أفضل ما يمكن القيام به الآن هو تشكيل مجلس أعلى للقضاء يكون لفترة انتقالية، وهذه الفترة يمكن أن تمتد لمدة سنة واحدة أو سنتين، ويتم تشكيله بالتوافق بين رئيس السلطة الوطنية والإطار القيادي المؤقت، وذلك من أعضاء المجلس الأعلى في قطاع غزة والضفة الغربية .
لاشك أن استقرار هذا الأمر يحتاج إلى توافقات وطنية، والتوصل إلى حالة سياسية عمادها نظام سياسي قائم على مبدأ الشراكة السياسية والتوافق الوطني، وحتى يتسنى إنجاز ذلك، فإن تحييد المنظومة القضائية يسهم في تعزيز حالة الاستقرار السياسي، والتعجيل بتحقيق المصالحة الوطنية وانهاء الانقسام.