نشر بتاريخ: 02/12/2015 ( آخر تحديث: 02/12/2015 الساعة: 13:50 )
الكاتب: وليد الهودلي
مساكين خريجي هذا البلد الجدد ! في ثلاث أو أربع سنوات ينهي البكالوريوس ويسبر أغوار التخصص الذي يؤهله لدخول سوق العمل .. ثم يحتاج لمثلها من السنوات حتى يكتشف معادلة التوظيف وييأس من حكاية البحث عن إعلانات التوظيف وتقديم الطلبات وعمل المقابلات وعقد الآمال على الابتسامات العريضة التي ترتسم في وجوه رجال لجان المقابلات ، يبني الآمال العريضة وينسج مستقبلا جميلا : تكون بدايته عندما يستلم الشهادة وتقيم له الجامعة حفل التخرج ويستقبل أهله المهنئين ثم تبدأ الفرحة بالذوبان في ماراثونات البحث عن عمل .. يبدأ بالبحث عن عمل يلائم تخصصه ثم عندما تتبخر الفرص وتذهب في معمعان وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب ، يصبح باحثا عن أي عمل ابتعد أو اقترب من تخصصه ولما لا يجد ويمل من إرسال الطلبات ويكتشف المعادلات التي يجري على أساسها التوظيف تطرق أبوابه دعوات الهجرة وترك البلد لأصحاب هذه المعادلات الذين ترعرعوا على المحسوبية والواسطات .
كثير هي المؤسسات (إن لم تكن جميعها أو أغلبها )التي تتقن فن الإخراج الدرامي لمسرحية اسمها النزاهة فتجعل من المؤسسة خشبة مسرح لتخرج إليها الممثلين تباعا .. يبدأ الراوي بقراءة بيان التوظيف ثم يرسله إلى الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي قاطبة وليؤكد نزاهته يكرر هذا البيان عدة مرات وقد يعد إلى العشرة قبل أن يفتح ستارة المشهد الأول بمشاركة واسعة من الذين قدموا الطلبات فيقيم لهم الامتحان لان المشهد الثاني لا يتسع إلا إلى عدد أقل وليظهر لجمهور المتابعين للمسرحية أن الأمور تسير على ما يرام وأن السيدة نزاهة هي سيدة الموقف ..
وبسلاسة جميلة ينتقل جمهور المتابعين للمسرحية الى المشهد الثاني لجنة رباعية أو خماسية على سدة المسرح وكل منهم متحفز لطرح الأسئلة التي لقنها إياه مخرج المسرحية الذي تحكم بنص الكاتب وفلتر نص السيناريست. والمطلوب من الممثل الذي يقوم بدور المرشح للوظيفة أن يتوقع دوره حسب مزاج المخرج تماما .. يجيب على الأسئلة بلسان طليق ويستجيب للابتسامات العريضة بما هو أوسع وأعرض بحيث يتغلب على كل الابتسامات المرسومة أمامه .. يلقي تحية الاحترام والتبجيل ويقولب ما يجول في خاطره بلغة جسد جميلة .. ان كان ذكرا فلا بد من خفض الجناح ولين الجانب وأن تظهر عليه علامات العبد المطيع لسيده وان كانت أنثى فلها ان تظهر مفاتنها من كل زوايا الفتنة خاصة تلك التي لا علاقة لها بالتخصص الذي درسته في الجامعة .. وبعد أن يدخل مرشحوا الوظيفة المبجلة الواحد تلو الآخر ويخرجون وكل واحد منهم متيقن بان الوظيفة له .. يعود كل لامه وأبيه وصاحبته وأخيه ليحدث عن اللياقة والابتسامة والوعود البراقة وكلمات المدح والثناء والإشادة .. ولا يعرف المسكين أنهم قد كالوا بمثلها لكل من قابلوهم .
تسدل ستارة هذا المشهد لتفتح من جديد واللجنة تقيّم وتفرز والسيدة نزاهة في راحة وعافية ونشوة عارمة .. ثم تبدأ الهواتف النقالة بالرنين وتبدأ الأصوات العشائرية والفصائلية والمناطقية والجهات المحلية والأجنبية والأصوات الوطنية وغيرالوطنية واللجان الشعبية والروابط البلدية والقروية وكل ما هب ودب .. دوامة من الرنين وكل له رنينه سوى السيدة نزاهة التي تتلاشى من المشهد وتفر من المكان ..
ويتلى القرار : بكل نزاهة وشفافية ووفق الأصول المرعية والأنظمة والقوانين الوطنية فإننا قررنا باختيار فلان لهذه الوظيفة سائلين الله المولى أن يوفقه وأن يكون خير رافد لهذه المؤسسة الرائدة وأن ينضم لفريق الانجاز والنجاح والإبداع .
ويفرح الموظف الذي فاز بالوظيفة ويبرر لنفسه غياب الضمير: " بان هذا هو الماشي في هذا البلد ".. ثم يستعد للعمل مع الذين قابلوه بعد أن تأكد تماما بأنهم أناس قد ماتت ضمائرهم قبل أن يبدأ العمل معهم .. وعاشت مؤسساتنا رائدة وأعمدة راسخة لهذا الوطن الغالي .