نشر بتاريخ: 06/12/2015 ( آخر تحديث: 06/12/2015 الساعة: 09:34 )
الكاتب: سري سمور
(إن الحديث عن وضع المثقف العربي في هذه المرحلة مخيف ومؤلم، ولكنه ضروري جدا، وقد قررت أن أبذل جهد المقل في تناول الحالة الثقافية العربية في سلسلة مقالات ألقى بها الله متحللا من عبء ثقيل، ومتأملا أن ينهض ولو قليل من المثقفين العرب لحمل الأمانة، متحررا من تقديم المهم على الأهم، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي والإسلامي والإنساني.))
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب***فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
هذا ما نشره نظمه ونشره المثقف العربي أواخر القرن التاسع، مع أن النظم ينسب إلى إبراهيم اليازجي، فإن الأمر أعم من التخصيص في قراءة المزاج العام الذي غلب على المثقف العرب، وهو في حالة تواؤم عجيبة مع جمعية الاتحاد والترقي في تركيا التي نفذت انقلابا على السلطان عبد الحميد الثاني ونصبت أخاه الإمعة مكانه.
ولم ينتفع من تبقى من العرب تحت حكم السلطنة العثمانية ولا المثقف العربي بطبيعة الحال من حكم الاتحاديين الذين يغلب الظن على أنهم ينتسبون إلى الحركة الماسونية التي غزت عاصمة وحواضر (الرجل المريض)، فقد مارس الاتحاديون الاضطهاد والقمع، سواء ضد الترك المخالفين لهم أو العرب، وليس حصرا ضد العرب كما تم تصوير الحالة، وانتقل المثقف العربي إلى التحريض على السلطنة العثمانية التي لم يبق لها إلا القليل من الأمصار العربية، بعدما حكمت بلاد العرب حوالي 400 عام، وكان في حكمها جوانب الصواب والخطأ، ولكنها-رغم كل أخطائها- كما يؤكد المفكر (علي شريعتي) وهو شيعي إيراني استطاعت لأول مرة جمع المسلمين في وحدة سياسية-عسكرية فريدة من نوعها.
كان المثقف العربي آنذاك قد امتلأ وانبهر بالمشاعر القومية المستوردة أصلا من القارة الأوروبية و نحل منها الشعارات الحالمة، ولم يكن نظيره التركي نظيفا أو بريئا من تلك المشاعر التي كانت قمينة بتمزيق وتفتيت بقايا الجسد المنهك للسلطنة.
وقد نما نبت شيطاني خبيث يروج للاستعمار الغربي، فمثلا نشأ في مصر تيار ثقافي ما زال قائما يعتبر حملة نابليون الإجرامية الاستعمارية فاتحة للنهضة وسببا للتحضر، ولا تستحق الإدانة أو التجريم البتة!
وفي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني ظهرت ثلة من المثقفين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، والذين وإن كان لهم موقف مناهض لاستبداد وفساد السلطنة العثمانية، فإنهم كانوا قد اتخذوا موقفا حادا و صارما مناهضا للاستعمار والمطامع الغربية، أو الاستبداد الخارجي بتعبير الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي هو بحق يمثل التشخيص الدقيق لما وصلت له الأمة من ضعف وانحطاط.
بيد أن هذا النمط من المثقفين الذين يجمعون بين ضرورة الحفاظ على الأصالة وخصوصية الأمة ووحدتها بكل ما تحمل الكلمة من مفاهيم ومعان، وينظرون بريبة معادية للأطماع الغربية، قد قمعوا من أجهزة السلطنة في حياتهم، وبعد مماتهم وحتى الآن جرى التعامل مع فكرهم بانتقائية سياسية سيئة، أو بالاتهام والتشكيك، وأحيانا بالتجاهل، وفي المقابل جرى تلميع وإبراز التيارات الثقافية التي بعضها يتوافق مع الاستعمار تماما، وبعضها الآخر يرفض الاستعمار العسكري ولكنه مغرم بالاستعمار الثقافي ولا مانع لديه من التخلي حد التنكر عن تراث الأمة الديني والثقافي كله أو جزء منه واستيراد بضائع غربية بديلة ولو كانت فاسدة، وفتحت لهم أبواب المشاركة الفاعلة في صناعة الرأي وإعادة صياغة وعي الأمة وفق خلفياتهم الذهنية المذكورة!
وإن كانت ممارسات الاتحاديين القمعية قد استفزت المثقفين العرب، فإنهم عموما لم يسعوا إلى مقاربة تقي الأمة من الخطر الاستعماري الوحشي المتربص، بل أعلنوا قبولهم التحالف مع الاستعمار الغربي إلى حد الثقة بوعوده الكاذبة في سبيل الخلاص من ظلم الاتحاديين.
وقد كانت هناك أصوات مثقفة حذرت ونبهت العامة والخاصة وحددت معالم المصير المرعب الذي ينتظر المنطقة؛ مثل الأمير شكيب أرسلان الذي استشرف القادم المفزع:استيلاء اليهود على فلسطين، واحتلال الإنجليز والفرنسيين للشام والعراق؛ هذا مع تنافر أرسلان مع سياسات جمال باشا الذي حكم بلاد الشام في ذلك الوقت، وحينما كانت السلطنة قد شاخت وهرمت بل صارت في حالة احتضار، ولكن الصبغة الغالبة لم تكن أرسلان بل المرحبين بالغزو الأوروبي.
أجيال المثقفين العرب خلال قرن من المآسي والنكبات والهزائم والخيبات لم تتعلم الدرس، وضاعفت أخطاء وخطايا السابقين، بحيث يبدو السابقون أكثر وطنية ونزاهة من اللاحقين، وأيضا أكثر حرصا على مصلحة الأمة ووحدة شعوبها وأقطارها...فالمثقف العربي المعاصر ارتكب ويرتكب جنايات بحق نفسه وحق شعبه وأمته.
ففي الوقت الذي نرى فيه الأمريكان والروس والفرنسيين والبريطانيين وغيرهم يتداعون على بلادنا كما تتداعى الأكلة على قصعتها، يهيم المثقف العربي في وديان شتى، ويمارس دورا يضيف إلى نكباتنا نكبة جديدة عنوانها المثقف الذي إما انعزل واختار الحياد السلبي، أو صار ما يسيره الأهواء والرغبات، أو صار انعكاسا للغزاة، أو للمولين وما أكثرهم وما أبعدهم عن مصالح الأوطان الحيوية، أو صار بهلوانا يلعب لعبة (ما يطلبه الجمهور) أو غير ذلك من كل ما ليس له علاقة بالدور الطليعي المفترض في تصحيح المسار أو محاولة إنقاذ السفينة من الغرق، بل إن بعضا من المثقفين يساهمون في إغراق الأمة من حيث يدورن أو لا يدرون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
وإذا كان المثقفون العرب لم يستوعبوا خطر المشروع الصهيوني وضرورة تفكيكه، وانقسموا على أنفسهم حياله، ورأت فئة منهم أن تتاجر بعداوته أو صداقته(لا فرق) فإن النتيجة التلقائية هي هذه المأساة الثقافية في ظل الهجمة الاستعمارية الجديدة من القوى الكبرى، فمن لم يستفزه المشروع الصهيوني فلن يصحو لمواجهة المشاريع الأمريكية أو الروسية أو الفرنسية.