نشر بتاريخ: 16/12/2015 ( آخر تحديث: 16/12/2015 الساعة: 12:37 )
الكاتب: جلبير الاشقر
جاء تأسيس الجبهة الشعبية في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في وجه الدولة الصهيونية في حرب يونو 1967، في زمن كان الأفق الأممي للنضال التحرري العربي قد بات جلياً نوعاً ما حتى في المنظور القومي الناصري، بعد تجذّره، إذ باتت مصر عبد الناصر تقف في صدارة حركة تضامن شعوب القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، المدعومة من الإتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الأوروبية الدائرة في فلكه.
ولمّا كانت الجبهة الشعبية أبرز نتائج التجذّر الذي غمر التيّار القومي عموماً، والناصري خصوصاً، منذ الستينيات، وبشكل خاص حركة القوميين العرب التي إنبثقت الجبهة الشعبية من تراثها، ولمّا كان مؤسسو الجبهة بقيادة جورج حبش قد انعطفوا نحو التخلّي عن الإيديولوجية القومية وتبنّي الماركسية مرجعاً نظرياً ثورياً، فقد كان من الطبيعي أن تعتنق المنظمة الجديدة فكرة الأممية التي تشكّل أحد الأركان الأساسية في النظرية الماركسية.
وقد عنى ذلك بالدرجة الأولى فهماً للبُعد العالمي للنضال التحرري الفلسطيني. والحال أن الفكر الناصري كان قد أدرك تماماً هو بالذات أن الدولة الصهيونية هي في المقام الأول أداة للإمبريالية الأمريكية، وأن النضال ضد الإمبريالية لا يمكن أن ينجح الا اذا كان نضالاً مشتركاً لكافة الحركات والشعوب المناهضة لها في كافة أرجاء العالم. وقد رفعت الجبهة الشعبية ذلك التصوّر الى مرتبة نوعية أعلى، حيث رأت أن مجرّد التضامن بين الحركات التحررية كلٌ من موقعه الخاص به ليس بكافٍ، فسعت الى تطوير التعاون العملي مع حركات ومناضلين من شتى البلدان، بما في ذلك ناشطين من داخل البلدان الإمبريالية ذاتها.
وبالطبع فقد إندرج التحقيق العملي لهذا النهج في اطار النهج العام الذي سلكته الجبهة. فلمّا شابت ذلك النهج في السنوات الأولى نزعات "إستبدالية" تجلّت في العمليات الخارجية على وجه الخصوص، قبل أن تقوم الجبهة خلال السبعينيات بنقد الذات وتصحيح المسار، أدى ذلك الى تعاون الجبهة مع جماعات عالمية تنتمي الى النهج "الإستبدالي" ذاته، ومنها بعض الجماعات التي رأت في الكفاح المسلّح أداةً للتغيير حتى في بلدان تتمتّع بالحريات الديموقراطية وليس فيها ما يحول دون تطوّر النضال الجماهيري بالأساليب السلميّة.
هذا وقد كان لإعتناق الجبهة الشعبية للنهج الأممي من خلال تبنّيها للمنهج الماركسي وجهٌ آخر، يفوق في أهميته الوجه الموصوف أعلاه من حيث تأكيد القفزة النوعية عن النهج القومي الضيّق. فقد تبنّت الجبهة في فبراير 1969 برنامجًا لدولة ديموقراطية في فلسطين كان في حينه جريئاً ومتقدّماً في سعيه الأممي وراء صيغة تتخطّى المنطق القومي الضيّق الذي كان سائداً في حركة التحرر الفلسطيني، وتُخاطِب المستوطنين اليهود في فلسطين في دعوة للعيش المشترك على قاعدة المساواة في دولة ديموقراطية واحدة على كامل التراب الفلسطيني، بل وتخاطبهم للمرة الأولى في تاريخ الكفاح المسلّح الفلسطيني على قاعدة التمييز الإجتماعي بين السكان اليهود أنفسهم والتأكيد على المصلحة الموضوعية لدى شرائحهم المستغَلّة والمضطهَدة في تحقيق حلّ ديموقراطي للنزاع العربي-الإسرائيلي. وقد جاء في تقرير فبراير 1969:
"ان هدف حركة التحرر الفلسطينية هو إنشاء دولة وطنية ديمقراطية في فلسطين يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
لقد حرصت إسرائيل على تصوير حربنا ضدها كحرب عنصرية تستهدف القضاء على كل مواطن يهودي وإلقائه في البحر. وهدفها من وراء ذلك حشد كافة المواطنين اليهود وتعبئتهم لحرب حياة أو موت، وبالتالي فان خطأً استراتيجيًا أساسيًا في حربنا ضد إسرائيل يجب أن يستهدف فضح هذا التزييف، ومخاطبة الجماهير اليهودية المستغلة والمضللة وتبيان التناقض بين مصلحة هذه الجماهير في العيش بسلام وبين الحركة الصهيونية والقوى المتحكمة في دولة إسرائيل. إن هذا الخط الاستراتيجي هو الذي يكفل لنا عزل الطغمة الفاشية في إسرائيل عن كافة قوى التقدم في العالم. وهو الذي يكفل لنا كذلك، وخاصة مع نمو الكفاح المسلح التحرري وتوضيح هويته، توسيع شقة التناقض القائم موضوعيًا بين إسرائيـل والحركة الصهيونية من ناحية وملايين اليهود المضللين والمستغلين (بفتح الغين) من ناحية ثانية" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تقرير مؤتمر فبراير 1969، الجزء الأول، ص 39-40).
هكذا نرى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الثائر الراحل جورج حبش قد لعبت دوراً رائداً في رسم الملامح الأولى لنهج أممي للنضال التحرري الفلسطيني من داخل حركة الكفاح المسلّح الفلسطيني. ومهما تكن خطورة الإنتكاسات والأنحطاطات التي غلبت على النضال الفلسطيني في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ومهما كان عمق الإنزلاق الى أقصى اليمين الذي طغى على المجتمع الإسرائيلي في السنين الأخيرة، فإن النهج الأممي الذي رسمت الجبهة ملامحه يبقى هو الأفق الوحيد القادر موضوعياً على تشكيل دربٍ الى القضاء على الدولة الصهيونية. أما عداه، سواء كان الأمر يتعلّق بأفقٍ قوميّ ضيّق أو بأفقٍ دينيّ متعصّب، فالنتيجة المحتّمة هي انسداد الآفاق الإنتحاري في أحسن الأحوال،ة هي انسداد الأداه، سواء كان الاد الأفق في أحسن الأحوال والإستسلام في أسوأها.حلة ذاتها بقى هو الأفق الوحيد القادرً حتى في المنظ والإحباط المرفق بالإستسلام المشين في أسوأها.
جلبير الاشقر
(كاتب وباحث لبناني)