الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

في الذكرى الثانية لرحيل د. إياد السراج

نشر بتاريخ: 18/12/2015 ( آخر تحديث: 18/12/2015 الساعة: 13:32 )

الكاتب: عبد الناصر فروانة

في مثل هذا اليوم الثامن عشر من كانون أول/ديسمبر عام 2013 رحل عنا "د.إياد السراج" أحد أبرز الحقوقيين والمدافعين عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في فلسطين. ولاشك أن الموت حق، وأن كل نفسٍ ذائقة الموت، إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام, ولكن هذا لا يعني أن لا نحزن على فقدان أحبتنا، وأن لا نبكي عليهم لحظة رحيلهم الأبدي. أو أن نستحضر سيرتهم الطيبة ومكانتهم القديرة في ذكرى رحيلهم، وأن نرثيهم بالبلاغة التي تليق بهم وأن نبحث عن الكلمات التي يمكن أن تنصفهم وتفيهم البعض من حقوقهم.

عامان مرا على رحيلك د.إياد ونحن مازلنا غير مصدقين أنك غادرتنا إلى مثواك الأبدي، نحسبك بيننا في كل حين، وما زال حضورا قويا بين أحبائك وزملائك، ولازلت حيا بيننا وبين من عرفك، نموذجا في سلوكنا وفي سلوك كل من استمع اليك وتعلم منك وعمل معك، ولازالت منتصباً وشامخا أمامنا كما عرفناك، بابتسامتك العريضة وأخلاقك الفاضلة وانسانيتك الرفيعة ورؤيتك السياسية الواقعية والثاقبة، ومواقفك الوطنية النبيلة ونشاطاتك الوحدوية . لذا يصعب على المرء منا انتقاء من اللغة العربية ما يليق بك من حروف ، وما يناسب تاريخك الحافل بالعطاء من كلمات رثاء وعبارات المدح والإشادة.

لقد ترددت كثيرا قبل أن أمسك قلمي وأكتب. فالكتابة في هذه المناسبة تبدو لي صعبة ومعقدة. فليس من السهل على كاتب متواضع مثلي أن يخط من الكلمات ما تليق برجل بمكانته الرفيعة، وأن يوفق في صياغة عبارات الوفاء لمسيرته الرائدة. فالحبر جف بالأقلام، والحروف مبعثرة ويصعب لملمتها، وحتى ان نجحنا في لملمة بعضها بعد عناء ومشقة، فإنها لم ولن تعطينا كلمات تليق به، وكأن كلمات الوفاء وعبارات الاخلاص رحلت مع رحيله. ومع ذلك وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهتنا وتواجهنا في الكتابة قررنا الاستعاضة بدموع العيون لنخط بعض الكلمات، التي نرى بأنها واجب علينا ووفاء منا لهذا الرجل والأخ والصديق العزيز الذي عاش عظيماً ومات عظيما، فبقىّ فينا عظيما.

قرأت وسمعت عنه الكثير قبل أن ألتقيه، وأعجبت بعطائه وتاريخه النضالي ومسيرة حياته قبل أن أعرفه أو أجالسه، وازددت اعجاباً به بعدما التقيته وجالسته مراراً، وافتخرت بعلاقتي معه وصداقتي به بعدما تعرفت عليه عن قرب .
خمس عشرة عاماً وما يزيد، من العمل المباشر معه، والاحتكاك المتواصل به، والالتقاء والجلوس معه عشرات الساعات عبر مئات المرات، كانت كفيلة للتعرف على شخصيته ومكوناتها، وهي كفيلة أيضاً لأن يحوز على جل احترامي وتقديري، بل على احترام وتقدير الجميع ليحجز له مكانة في عقولنا وقلوبنا، وله الفضل على كل من عرفه وتعامل معه أكانوا أفراد أم جماعات.

التقيته منفرداً وتناقشنا وتحاورنا في مواضيع عدة، والتقيته جماعة واستمعت منه لأحاديث قيمة وثرية، والتقيته مراقبا في اجتماعاته العائلية ومناقشته للقضايا الداخلية في اطار أسرته، وفي كل الاجتماعات كنت أستفيد وأزداد معرفة وخبرة، من سلوكه وحديثه وتعامله.
فهو الرجل الحر والأخ الصادق، والصديق الوفي الذي لم تمل من محادثته أو مجالسته، وكلما جالسته استفدت وتعلمت منه، فالاحتكاك به فائدة وللجلوس معه فوائد، وكنت أبحث دوما كي أجلس معه لأستفيد من مخزون معارفه وخبراته وينبوع معلوماته القيمة وقاموسه الخاص ورؤيته المستقبلية وتحليلاته الصائبة.

فهو طبيب بارع، ومدرس مؤثر، وحقوقي مقنع وسياسي محنك وجريء، بل هو مدرسة تجمع كل لغات العالم ، وجامعة تضم كافة التخصصات الوطنية والعلمية والأكاديمية والإنسانية.
وهو من أبرز المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمتميزين في مجال الطب النفسي ومؤسس برنامج غزة للصحة النفسية، وهو من أفنى سنوات عمره في سبيل وطنه وقضايا شعبه وحقوق أبنائه.

وهو من الشخصيات الوطنية التي تعاملت معها، وأخلصت لقضايا الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ودافعت بقوة عن حقوقهم الإنسانية الأساسية، ودعمت فعاليات ورعت أنشطة مميزة تؤكد على حقهم المشروع في الحرية، وكثيراً ما أتاح لي فرصة اللقاء بشخصيات دولية رفيعة ومهمة لأطلعهم على أوضاع الأسرى، في مكتبه أو داخل بيته بمدينة غزة أو غير ذلك، فكان خير نصير لهم ولقضاياهم العادلة.
وهو من الشخصيات الفلسطينية القلائل التي استطاعت أن تنسج علاقات مفتوحة وقوية مع كل الأطراف في العالم أكانت فلسطينية أم إقليمية أم الدولية، أو حتى الإسرائيلية، وحظي بمصداقية عالية وحضور دولي مميز ومؤثر ذو وزن كبير لدى كافة الأوساط وعلى مختلف المستويات.

وعلى مدار سني حياته حاز على العديد من الجوائز، وخزائن مكتبه ورفوف مكتبته الخاصة مكدسة بالجوائز الإقليمية والدولية التي حاز عليها، تقديراً لكفاءته ومساهمته بالنهوض بالصحة النفسية للمريض النفسي، وإنصافاً عالمياً لرجل عظيم كرَّس حياته من أجل كرامة الإنسان وحقوقه وترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمع الفلسطيني بشكل عام.

لعب دورا مهما وأساسيا في تشكيل لجنة الوفاق والمصالحة لتوحيد الصف الوطني الفلسطيني وإنهاء الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وشكّل على الدوام محورا أساسيا وجامعا فيما بين الأطراف الفلسطينية كافة على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية والأيدلوجية، وبذل جهدا كبيرا وعقد اجتماعات عديدة، وحاول تقريب وجهات النظر وتقليص الفجوة فيما بين الأطراف المتخاصمة.

وكما كنت في حياتك شخصية الاجماع الوطني ونجحت مراراً في دعوتهم وتجميعهم على طاولة مستديرة في فناء بيتك، فإن الكل الفلسطيني وعلى اختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية وقناعاتهم الأيدلوجية، التقى واجتمع طواعية بعد مماتك وفي تشييع جثمانك وفي احياء ذكرى رحيلك وفي استحضار سيرتك الطيبة تكريماً ووفاء لشخصك وعطاءك اللامحدود، وتقديرا لتاريخك العريق ومسيرتك المظفرة.

د.إياد .. فقدناك أخاً كبيراً، وصديقاً عزيزاً، ومدافعا صلبا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحريصاً جداً على ترسيخ الوحدة الوطنية، ومناصراً قوياً لقضايا الأسرى وحقهم بالحرية.