نشر بتاريخ: 21/12/2015 ( آخر تحديث: 21/12/2015 الساعة: 12:41 )
الكاتب: جمال زقوت
رغم عبور الإنتفاضة الراهنة ، بمدِّها وجزرِها ، شهرها الثالث ، ورغم قوة وضوح رسالة شبانها برفض الانصياع والخضوع لمخططات الاحتلال، وفشله في تحقيق ما يسمى ب “كي وعي الفلسطينيين”، فإن الأقوال والبيانات اللفظية والمتناقضة بادعاء دعمها أو مساندتها لم تتجاوز”وصف الحال” وكأن المسؤولية عن تطويرها وتوفير عوامل استمرارها وتوسيع نطاق المشاركة فيها تقع على عاتق آخرين غير معلومين.
السؤال الجوهري والتحدي الأساسي أمام الجميع ما زال يتركز حول كيفية توسيع المشاركة، و ما هي الآليات القادرة على تحقيق ذلك، و تلك التي تُحِّصنها من الانزلاق نحو العسكرة.
بداية، لابد من الإقرار أن دوافع الشباب و انتفاضهم عل الواقع تعود لأسباب موضوعية تعاني منها الاغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، واذا كان ذلك صحيحاً إلى حد كبير ، فإن الاولوية تكمن في كيفية بلورة الأسس و الآليات الكفيلة بإنخراط الفئات الأخرى من هذه الأغلبية الكاسحة، والتي تتردد حتى الآن في المشاركة لعوامل متعددة . وهذا ما سأحاول الإجتهاد في الإجابة عليه في هذا المقال محاولاً الإستفادة من تجارب ودروس الإنتفاضة الأولى ، والتي تميزت ، و ضمن أشياء أخرى عديدة ، بمجابهة الوجود العسكري المباشر لقوات الاحتلال الإسرائيلي في مراكز المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية، إلاّ أن الأهم والذي مكَّن الإنتفاضة من توسيع تلك المشاركة الشعبية تلخَّص في نجاح قيادتها الوطنية الموحدة في بلورة أهدافها المباشرة المستمدة من التناقض الحاد بين جميع فئات الشعب المختلفة وبين قوة الاحتلال وسياساته وإجراءاته، والتي لم تسلم منها أي فئة اجتماعية، وبالتاكيد فإن السمة العامة لهذا التناقض مازالت ماثلة وواسعة جداً.
فجوهر السياسة الاسرائيلية ، والتي تنطلق من رفض الإعتراف بحق شعبنا في تقرير مصيره وبناء مستقبله على أرض وطنه، تكمن أساساً في مصادرة مقومات قدرته على البقاء والحياة عليها، ودفعه للرحيل عنها، خاصة في القدس والمناطق المسمّاة (ج)، وذلك تمهيداً لمصادرتها وضمها.
وفي هذا السياق تحديداً تأتي سياسة إطلاق يد المستوطنين، وتركز جرائمهم وإرهابهم أساساً في هذه المناطق. وإذا كان هذاهو الحال، فإن من الطبيعي أن يتمحور النضال الوطني وينطلق، من قبل كافة الجهات والقطاعات الرسمية والشعبية والأهلية والقطاع الخاص ، من هذه القاعدة ، و في إطار رؤية متكاملة لمفهوم البقاء المقاوم، وتحدى سياسة الاحتلال بكافة الأشكال لفرض وقائع تتحدى سياساته وإجراءاته بأوسع مشاركة شعبية، بما في ذلك الخروج التدريجي والمتسارع من قيود أوسلو وتصنيفاته، وعلى مختلف الأصعدة الأمنية والادارية والاقتصادية.
بهذا الفهم يمكن تنفيذ المراجعة المطلوبة في المهام والأولويات بصورة عملية كفيلة بتوفير عوامل الصمود وتحويل استراتيجية البقاء المقاوم والانتفاضة الى حالة شعبية عارمة تنطلق من المصالح المباشرة للقطاعات الاجتماعية المختلفة، والتوزيع العادل لأعباء المواجهة مع سياسات الاحتلال. في إطار هذه الرؤية لا بد من التوقف أيضا حول مدى تَكُّيف دور مختلف المؤسسات الرسمية والاهلية والاقتصادية لخدمة هذه الأجندة الوطنية، وإعادة تحديد أولوياتها ومهماتها بما يساهم في تعزيز صمود شعبنا خاصة في القدس والمناطق الريفية والمهمشة والمستهدفة من المشروع الاستعماري التوسعي الهادف الى مصادرة الأرض وسبل الحياة عليها. فمجمل الحالة الوطنية ، بما في ذلك الانتفاضة الراهنة نفسها، باتت أمام خيارين ، يتمثل الأول بالنهوض على قاعدة الانتفاضة، والتقدم نحو إنهاء عبث الانقسام وإعادة بناء الثقة بين الشعب و نظامة السياسي المُوحَّد على أساس برنامج كفاحي ، و إطلاق المشاركة السياسية القائمة على التعددية في جميع مكونات النظام السياسي وفي العلاقة مع الناس سيما الشباب والمرأة، وأما الخيار الثاني فهو استمرار اتساع الفجوة وغياب الثقة بين الناس و القيادة السياسية المنقسمة، بما يحمله ذلك من عواقب وخيمة. و في كل الأحوال فإن توسيع المشاركة الشعبية والاقتراب من نبض الناس والإستجابة لمصالحهم وإحتياجاتهم سيُسهم بالتأكيد في تغليب الخيار الأول ومنع إرتداد طاقة الشبان المنتفض نحو الداخل.
إن تحمل المؤسسة الرسمية لمسؤولياتها الشاملة ، سيما في القدس و أرياف الضفة الغربية المهمشة والمهددة من خطر الاستيطان ، وتشجيع المبادرات الشعبية والتوجهات التي تتحدى الاحتلال سيسهم في تعزيز هذه المشاركة، ويشكل بداية تَحوُّل نحو تغيير الواقع، وبالتالي بلورة الأدوات القادرة على تجاوز الأزمة الداخلية التي تعصف بقضيتنا الوطنية.
إن هذا يتطلب أيضاً الإقلاع عن النظر الى المشاريع التنموية سواء الحكومية منها، والتي نفذت بشكل أساسي في الفترة من عام (2008-2013) وتجاوزت الثلاثة آلاف مشروع، أو تلك التي نفذها ويقوم بها القطاع الخاص في هذه المناطق، وكأنها تعايش مع الاحتلال أو تساوق مع ما يُسمى " بالسلام الاقتصادي" ، في وقت أنها تشكل ترجمة عملية لما كان وما زال سائداً من شعارات لفظية حول الصمود "لم تغن ولم تسمن من الجوع"، هي في الواقع روافع ضرورية لتمكين المواطنين من البقاء، وتعزيز قدرته على مقاومة مخططات الاحتلال الهادفة إلى ترحيله عن أرضه ومصادر رزقه، سيما أن كفاح شعبنا، وإنتفاضته الحالية تتطلب نفساً طويلاً وثباتاً و مراكمةً للنجاحات.
وهنا يجب الاقرار أيضا بأن القطاع الخاص الفلسطيني لعب دوماً ، الى جانب القطاع الاهلي، وعلى مدار سنوات الاحتلال منذ عام 67، دوراً هاماً واساسياً في تعزيز صمود المواطنين وتوفير فرص العمل التي تُمكنِّهم من البقاء على أرضهم ومقاومة مخططات الاحتلال.
وفي هذا السياق، لا بد من النظر الى أي مبادرات يقوم بها القطاع الخاص من هذا المنظور، بل لا بدّ من تشجيعه على القيام بالمزيد، وعدم الوقوع في أفخاخ التشكيك، والتي للأسف هي جزء من بقايا ثقافة الهزيمة وعدم الثقة بالقدرة على تحقيق النجاح ومراكمته. على سبيل المثال لا الحصر، فقد شكلت مدينة روابي نموذجاً وطنياً ناجحاً على هذا الصعيد، لم تتمكن من حجب رؤيته كل محاولات التضليل والتشكيك بهذا النجاح الفلسطيني بامتياز، وخاصة المحاولات الإسرائيلية التي حاولت أن تنسب هذا النجاح "لكرمها" و"مساعدتها". هذه النظرة التي هي في جوهرها تكشف مضمون الفكر الاستعلائي العنصري، الذي يرفض الاقرار بقدرة الفلسطيني على الإنجاز، تماما كما يرفض حقه في البقاء على هذه الأرض و حقه في تقرير المصير والاستقلال والسيادة عليها . في وقت يعلم الجميع حجم العقبات التي وضعتها إسرائيل، ومازالت، أمام هذه المبادرة الريادية ، ودلالاتها ليس فقط في مواجهة الاستيطان، بل وفي برهنة قدرة الفلسطيني على بناء مستقبله، هذا النجاح و غيره لطالما اعتبرته اسرائيل فشلا لها، ناهيك عما وفرته مثل هذه المبادرات في خلق فرص عمل بديلة للآلاف من عمال المستوطنات، بالإضافة لما تقدمه من أمل للشباب في قطاعات إقتصادية مختلفة.
وبالتأكيد هناك عشرات وربما مئات من الأمثلة الأخرى صغيرة الحجم التي نفذت أو يمكن التفكير بها ، وبما يشمل أيضاً المقاطعة لمنتوجات المستوطنات، وتوفير البدائل الوطنية التي تمكن من المقاطعة الشاملة لمنتجات الإحتلال، وغيرها من الأشكال مهما كانت تبدو بسيطة، ولكنها تمكن كل مواطن ومواطنة من المشاركة في الانتفاضة الشعبية.
إن توسيع نطاق المواجهة مع الاحتلال و مشروعه الاستعماري الاستيطاني يحتاج الى تكامل الجهد الوطني في النضال و البناء والابداع الفلسطيني بمختلف وسائله وأشكاله على أن يظل الصمود على الأرض ، وتوفير روافعه ومقوماته الملموسة وليس مجرد الخطب الفارغة، هو المعيار الأساسي للنضال الوطني و لدور مؤسساتنا سواء الحكومية أو الأهلية أو مؤسسات القطاع الخاص في هذا الجهد الوطني الشامل.
اسرائيل تدرك من تجربتها الخاصة أن من يستطيع بناء مدينة عصرية تنافس أحداث المدن الذكية في العالم، وأن من يستطيع أن يقيم آلاف المشاريع الهادفة الى تعزيز وتنمية قدرة الناس على البقاء المقاوم والدفاع عن أرضها، ووضع حد لمخططات تهجيرهم عنها، سيكون بالتأكيد قادراً على إنهاء الإحتلال، وبناء دولة وإنتزاع حقه في الاستقلال الوطني والسيادة عليها. وعلينا نحن أولاً وقبل غيرنا أن ندرك هذه الحقيقة ومغادرة بقايا ثقافة الهزيمة، وإمتلاك الثقة بالقدرة على النصر، فذلك هو بداية تحقيقه.