الأحد: 15/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

مَشاهِدٌ تَحْتَ رذاذٍ خفيف

نشر بتاريخ: 27/12/2015 ( آخر تحديث: 27/12/2015 الساعة: 14:38 )

الكاتب: عطا الله شاهين

كنتُ أسيرُ في دربٍ جبليٍّ وعِرٍ تكثرُ فيه نباتات شوكيّة كالعُلّيق والكنديل .. السّماء كانت مُلبّدةٌ بالغيومِ البيضاء وتسيرُ صوب جبالٍ مليئة ببنايات بشعة..
وكعادتي أُحِبُّ السّيرَ في الطُّرقِ الوعِرةِ، واخترتُ درباً وعِراً جداً، لزيارةِ صديقة أعرفها من أيام الدراسة في روسيا، لكنها الآن مُنعزلة في كوخِها مُنذ مُدّة .. عادَت مِنَ رحلتها الأخيرة لأمريكا مُختلة ..
السُّحبُ البيضاء كانت تقتربُ مِنّي بسرعة وبدأ رذاذٌ خفيف بالسُّقوطِ على رأسي.. فأسرعتُ في خطواتي صوب منزل صغير له شرفات جميلة.. فاختبأتُ تَحْتَ إحدِى شُرفاته المُتصدِّعة.
كنتُ أقفُ قُربَ نافذةٍ بلا ستائر.. فألقيتُ نظرةً مِنْ خلفِ الزُّجاج .. لا شيء هُناك سوى امرأة كانتْ تخلعُ ثيابها بهدوءٍ أمام مدفأةِ الحطب .. فبدأتُ أتلصّصُ كسارقٍ خائفٍ لمُشاهدةِ جسدٍ خلقَ باهتمامٍ تجاوزَ حُدود العقل.
كانت قطرات الرذاذ تنزل وتسقطُ ببطء شديد .. وفي الجهة المقابلة رأيت امرأة عجوز كانت منشغلة في قطف ورق الدّوالي وغير آبهة للرذاذ .. وبعد مدة من وقوف مجنون شعرت بأن رأسي تبلّلولكنني لم أكترث.
المشهدُ كانَ ساخناً لدرجة أنّني نسيتُ وجهتي.. وكانت نسمات الرّياحُ الباردة تلفحُ سِحنتي بين الحين والآخر.. والرذاذ بدأ يبلّلُ ملابسي الرّثة، ولكنّ المشهدَ تَحْتَ الرذاذ كان فيه حرارة كافية لاستمراري على قيدِ الحياة للحظاتٍ جُنونيةٍ رائعة حتى ابتعادَ السحب.
وبعد أن توقف نزولُ الرذاذ .. شرعتُ بالهَرْولةِ لأنني لمْ أرد أن تشعرُ بوجودي، فأنا لم أرغب بأن تُشاهِدني، لأنّ المشهدَ كانَ كافياً، مع أنّني لا أنتمي أبدا (لعالمٍ سُفلي)، وبما أنّني رجلٌ شرقي مكبوتٌ، لمْ استطع الصّمود أمام جسدٍ ساحر بفتنته المُتقنة وبأُنوثةٍ مُدهشة .
كانت المرأةُ العجوز مستمرّة في قطفِ ورق الدّوالي، ولم أعلم إنْ شعرتْ بوجودي أم لا، فأنا لمْ أفعل شيئاً سوى أنَّني نظرتُ صوب امرأةٍ ساحرة بجمالِها، وجعلتني أُقدّسُ الحُسْنَ وقت سُكونه المُضطرب عندما كان ذاك الجسدُ عارياً ومكروباً لا يمسسُه أحد.
صديقتي المجنون الآن غارقة في قراءة رواية عن الحب تحت الرذاذ مع قرب مدفأة حطب.. ولا أُريدُ أنْ أزعجها مِنْ متعتها بالعودة إلى ذكريات صداقتنا في روسيا، حينما كنّا نسير سويةً في كُلِّ ليلة ونرتجفُ من البرْدِ هناك، ولكنّها كانتْ تقولُ لي باستمرارٍ ما أحلى طقس بلادنا ..