الأحد: 15/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

بهمش مش متذكر: عن اللغة والثقافة والحكم

نشر بتاريخ: 28/12/2015 ( آخر تحديث: 28/12/2015 الساعة: 11:39 )

الكاتب: تحسين يقين

بهمش!
مش متذكر!
في روايته الشهيرة "يوميات نائب في الأرياف"، تأمل الكاتب توفيق الحكيم عبارة عامية ساخرة من حسناء في الريف المصري، تستهين فيها من غفير ضايقها، وعلّق عليها بأنها أكثر بلاغة من الكتاب والشعراء.

صدرت الرواية في منتصف ثلاثينات القرن العشرين، في عصر النهضة العربية الحديثة، التي اتكأت على النهضة الأدبية بشكل خاص، والتي صاحبها تخليص اللغة مما علق بها من جمود. في ظل إعادة إنتاج المعاني، والمضامين، يتم توظيف اللغة الجاهزة من أجل القيام بهذا الدور، لكن في ظل الإبداع، فإن في اللغة متسعا للاستخدام الخاص لكل كاتب، والذي يكون استخداما إبداعيا.

وتوفيق الحكيم، بلغته العادية جدا، الخالية من التقعر اللغوي والمتحررة من تكرار الصيغ القديمة هو أحد المجددين في الأدب العربي، والذي ما زال يؤثر في الأجيال، ويبدو أن تأثيره سيطول.

من خلال فقرة في "يوميات نائب" تحررت من أفكار المعلمين التقليديين عن الأدب الشعبي، والأدب بشكل عام، وتعلمت أن المهم هو التعبير الصادق لا التكلف، أما باقي تحرري الأدبي فكان على يد الشنفرى وأبي نواس في كلية الآداب.

عودة إلى "بهمش" الحاج زياد أبو هليل، و"مش متذكر" الطفل أحمد مناصرة، وكيف شاهدنا انتشارهما. سبب الانتشار كان بلا شك هو الموقف نفسه، وزاد ذلك عمق التعبير اللغوي الصادق والصادم أيضا.

بلاغة اللغة هي بلاغة المشهد لا إعادة إنتاج اللغة، والتي تشبه المحفوظات.
هي بلاغة المعنى إذن، وهو الصدق الفني كأهم شرط لنجاح الإبداع.

بهمش ابو هليل، دلالات السخرية من الاحتلال واستنكار فعلهم المشين تجاه الأطفال والفتيان، فحتى ولو ألقوا حجارة على جنود الاحتلال، فإن ذلك برايه لا يستحق قمع الجنود لهم، فهو يخفف من رمي الأطفال السلمي، ويكشف طغيان الآلة العسكرية. وهو أيضا يرى أن هؤلاء مجرد أطفال وفتية يعبرون عن مشاعر الغضب تجاه الاحتلال، ولهم الحق في ذلك، في حين أن جنود الاحتلال هو كبار في السن وعاقلون لا ينبغي أبدا أن يرتكبوا جرائم. كلامه منطقي، حجر مقابل رصاص ودخان خانق لا يلتقيان!

"مش متزكر" أحمد مناصرة، براءة الطفولة المستباحة من محققي أمن الاحتلال الذين مارسوا فروسية واهمة ووهمية على طفل بريء.
لقد أوجع أحمد قلوب العالم، قلوب متحدثي العربية واللغات الأخرى؛ إذ كيف سيتذكر الطفل الصغير كل تلك المعلومات، بل كيف سيستطيع حتى الإجابة على الأسئلة المخيفة شكلا ومضمونا وهي تنطلق من محققين عصبيين هما أقرب إلى الجنون من العقل، بسبب غياب الحد الأدنى من الإنسانية؟!

- ................
- مش متزكر!
لم يبك أحمد لكنه أبكانا، لم يغضب لكنه جعلنا نغلي كرها للاحتلال.
بهمش بهمش بهمش بهمش بهمش بهمش بهمش.....وإلى آخره.
مش متزكر مش متزكر مش متزكر مش متزكر، وإلى آخر ما تبقى من التذكر والذكرى والذكريات.
في ظل كساد بضاعة الساسة والكتاب، يتم بسهولة انتشار بهمش ومش متزكر، بدون تحمل نفقات الترويج.
لعلنا هنا بالذات نقف لنتأمل الشعور والفكر على ضوء الكلمات؛ متذكرين دوما أنه"في البدء كانت الكلمة".
بدء الحضارة، وبدء النهضة، وبدء النهوض، بدء الرسالات والمبادئ والأفكار.

لماذا؟ وماذا؟
في هذه الهبة التي ما زلنا مختلفين في توصيفها، استطاع شيخ حكيم وطفل بريء وصفها كأبدع ما يكون الوصف والتحليل السياسي أيضا؛ فمن جهة كما أسلفنا ترى الحكمة والموضوعية ألا تستخدم سلطات الاحتلال القوة ضد المنتفضين/ات، كون الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هي التي تتحمل مسؤولية إيصال المشهد هنا إلى ما وصلنا إليه. فكانت "بهمش" أي اصبروا ولا تردوا على الأطفال، ودعوهم يعبرون عن أنفسهم، لأنهم فعلا في حالة تعبير شعوري وفكري، يتجلى جزء منه بإلقاء حجر.

أما دلالة "مش متزكر" في سياق وصف الهبة-الانتفاضة وتحليها، فهي أن الفعل التعبيري أصلا هو انفعالي ارتجالي غير مخطط له، فمن أين سيأتي أحمد والآخرون بتفاصيل هي أصلا غير موضوعة على المجمل!
أبدع الشيخ الخليلي في رد فعله "بهمش".
وصدق الطفل المقدسي في التعبير عن حاله الخائفة والمرتبكة.
تلك هي اللغة التي نريدها. تلك هي المضامين التي نحتاج أن ندمجها في خطابنا الإعلامي والسياسي.
- إذن؟
- نحن بحاجة لانتفاضة لغة، منها نستطيع الدخول للحداثة والابداع للتخلص من التقليديين السلفيين.
- وانتفاضة اجتماعية وإدارية، سمها هبة، تخلص الناس إضاعة الوقت والانشغال ببعضنا بدلا من الانشغال بما وضعنا له وأؤتمنا عليه، في الشارع والبيوت والمؤسسات، في الوزارات. (وقد دمجتهما معا لاعتقادنا بأهمية وظيفة رعاة الأسر من أب وأم، ووظيفة العاملين/ات في الحكومة بشكل خاص).
- و؟
- وانتفاضة ثقافية وسياسية تخلصنا من العبث واللامبالاة، لأن ما ينفع الناس يمكث في بيت القصيد، على حد تعبير محمود درويش، في تناصه القرآني "ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

هناك مجال لقياس أثر الفعل على الأرض الفلسطينية: أرض الزراعة، وأرض الثقافة، وأرض الوظيفة الحكومية، وكل أرض خصبة تصلح للبذور والأشتال.
لو فصلنا أكثر، سنجد أننا في أي مرحلة من مراحل بناء كياننا السياسي والمجتمع والمؤسسات، قبل وخلال وبعد، نحن بحاجة إلى تحديث مؤسسات التعليم والبنى الثقافية والدينية والإعلامية والأمنية، تحديث يستهدف منظومة بديلة تهدف إلى مخرجات أفضل، بشرط أن يتم ذلك من خلال التصالحية لا العنف؛ فمن الطبيعي، ومن السهولة تطوير بنية مؤسساتنا، في ظل توفر الموارد البشرية، التي كل ما تحتاجه هو التشغيل والمساءلة بعدها للتقييم والتطوير لا للثأر والمعاقبة، ولا لتبديل مراكز قوى بأخرى تعيد الإنتاج نفسه تربويا وصحيا وثقافيا وزراعيا وقضائيا...

في البدء تكون الكلمة، فنهضة الأدب والفن والتعليم هو مبشّر بنهوض آخر اجتماعي يمهد لنمو اقتصادي، وسياسي يرع، وإعلامي يصور ويحاسب أيضا.
نختتم بتوفيق الحكيم كاتبنا العربي الكبير، الذي صدرت روايته" يوميات نائب في الأرياف" عام1937 تلك التي سرد فيها مشاهداته من الحوادث والقضايا التي عرضت عليه أثناء عمله في القضاء، في الريف، حيث دارت أحداثها حول يومياته كوكيل النيابة القادم من القاهرة إلى الأرياف، وكيف يمضي وقته في محاربة البعوض والذباب، والاصطدام مع المأمور وكاتب النيابة، وتفكيره النقدي في القوانين والحكم. كما ظهر في الرواية فساد المنظومة الإدارية، وعدم مقدرتها على تحقيق العدل للفلاحين المساكين، حيث يعرضها الكاتب في أسلوب فكاهي ساخر.

نحن لسنا بعيدين عن مصر والعالم العربي والعالم النامي المنشغل بنفسه والمقتتل على ثمار المنصب، لا دوره.
استدعى المضمون الإنساني لغة إنسانية معاصرة للحدث، والأهم استدعى التعبير الصادق والتفكير النقدي الملتزم، حيث راح القراء المثقفون والوطنيون والنخب السياسية الصاعدة في الأربعينات يتأثرون بهذا النقد، والذي سرّع من عمليات الإصلاح فيما بعد. ولعلنا نتذكر كلمات أغنية صورة للشاعر صلاح جاهين، التي غناها عبد الحليم حافظ، المتحدثة والمتغنية بالإنجاز، نسمع منها:
مدخنه قايده قلوب حسادنا تحتها صلب كأنه عنادنا
وقدامه من اغلي ولادنا عامل ومهندس عرقان
وبعيد عن العين لكن في الصوره اوضح ناس
ناس تحت حر الجبال والقلب كله حماس
بتفجر الرمل انهار من دهب اسود
وناس بتكسيه بخضره وكل لون له ناس
واساتذه وعلما ومعامل ودكاتره من الشعب العامل
ورجال سُكَّر علي مكاتبها تخدم بالروح لما تعامل
والصوره مافهاش الخامل
النهضة عاملان ذاتي وموضوعي.
نعم صدق الشيخ الخليلي في بهمشه.
وصدق الطفل المقدسي في عدم القدرة على التذكر.
وصدق صلاح جاهين، واللي حيبعد من الميدان عمره ما حيبان في الصورة.