نشر بتاريخ: 29/12/2015 ( آخر تحديث: 29/12/2015 الساعة: 15:05 )
الكاتب: راتب عمرو
منذ ان بدأت "الهبة" الفلسطينية الحالية والسؤال المتعلق بمن يدعمها او من يتبناها يراوح مكانه ، دون ان يجيب عليه اي من التنظيمات الفلسطينية الفاعلة على الساحة الفلسطينية ، حتى إسرائيل الجهة المستهدفة بتلك "الهبه" لم تستطع حتى تاريخه تحديد هوية المنفذين لعمليات الطعن او الدهس التي إستهدفت عسكريين إسرائيليين أو مدنيين بشكل مباشر .
وعلى الرغم من ان القيادة الفلسطينية نأت بنفسها عن كل ما يحدث ، إلا ان تنظيم حركة فتح في الضفة الغربية أيد بشكل مباشر او غير مباشر تلك العمليات، وشارك في الجنازات التي أُقيمت للشهداء ، في مشهد بدى وكأنه توزيع للأدوار بين القيادة والتنظيم ، لكنه في الحقيقة تناقض واضح حيث أن القيادة الفلسطينية هي نفسها قيادة " فتح " .
في سياق متصل فقد تواصلت الأحتجاحات في قطاع غزة على نقاط التماس مع الأسرائيليين لعدة أيام ، سقط خلالها عدد من الشهداء في محاولة من قبل حركة " حماس " للتضامن مع "الهبة" في الضفة الغربية ، كما أعلنت الحركة منذ بداية الأحداث " أن ما يجري ليس هبة جماهيرية أو مواجهة مؤقته ، بل هو إنتفاضة حقيقية تحتاج الى توفير كافة وسائل الدعم والأسناد لحمايتها " ، وبعد ذلك بأيام أصدرت الحركة بياناً دعت فيه الى إشعال المواجهات في جميع نقاط التماس مع الأسرائيليين ، ثم طالبت بتشكيل قيادة ميدانية موحدة لما أسمتها بإنتفاضة القدس ، في مشهد بدى واضحاً بأنه دعوة للتصعيد .
أما حركة الجهاد الأسلامي فقد دعت منذ البداية الى التصعيد لحماية الأقصى ، والتصدي للأحتلال الأسرائيلي بكل الوسائل الممكنة .
مما سبق فإننا نستطيع القول أن التنظيمات الرئيسيية في الساحة الفلسطينية إبتعدت عن تبني هذه "الهبة" ، على الرغم من أن جميع الشهداء اللذين سقطوا تم تبنيهم من قبل إحدى هذه التنظيمات من خلال رفع علم هذا التنظيم أو ذاك ، ومن خلال الشعارات واليافطات التي إعتادت عائلات الشهداء أن ترفعها على بيوت العزاء ،في تناقض واضح حيث من يتبنى أولئك الشهداء يُفترض أن يكون هو من أوعز إليهم بالقيام بذلك العمل ، وبدت الأمور وكأن سباقاً محموماً ونوعاً من التنافس المجاني على من يتبني هؤلاء الشهداء من قبل هذه التنظيمات المتصارعة ، ليبدو أكثر وطنية وأقرب الى نبض الشارع الفلسطيني الذي يغلي مثل بركان هائج ، لكن دون اي تلميح او توضيح من أي تنظيم بدعم او تبني هذه "الهبة الشعبية "، وفي حالات كثيره يكون الشهيد لا يتبع لأي تنظيم ، وأن مجرد كون والده أو شقيقه او قريبه يتبع لهذا التنظيم ، فإنه يتم تبنيه من قبلهم ، في حالة تُظهر مدى التنافس والصراع المحموم على إستقطاب الولاء والأنتماء ، ويبقى السؤال المتعلق بمن يدعم أو يتبنى دونما إجابة .
إسرائيلياً فقد بدت حالة الأرتباك على تصرفات وتصريحات القيادة السياسية والأمنيه ، وبدى واضحاً مدى ضعف الجهات الأسرائلية الأمنية والعسكرية وعدم قدرتها على تحديد شكل وطبيعة العمليات ، وتحديد مكانها وزمانها ، وحتى تحديد هويات أولئك المنفذين التنظيمية ، في مشهد بدت فيه المؤسسة العسكرية الأسرائيلية وقد أصابها في كثير من الحالات الأرتباك والفوضي ، وبدت الأمور أن الجيش الذي لا يُقهر تم إرباكه من قبل فتية ليس لديهم حتى الحد الأدنى من الوسائل القتالية، من خلال عمليات طعن بالسكاكين وعمليات دهس بالسيارات ، وفي بعض الحالات المحدودة أُطلقت فيها النار وقُتل فيها بعض المستوطنين دون أن تتبناها أي من التنظيمات الفلسطينية الفاعله .
ولعلي من أكثر المتابعين للمشهد الفلسطيني – الأسرائيلي ، ونظراً لخلفيتي العسكرية ، حيث أستطيع أن أفهم مدى إنعكاسات تلك العمليات على الضباط والجنود الأسرائيليين وتحديدا المقاتلين منهم ، حيث تم إعداد هؤلاء للقتال في ميدان المعركة ليقاتلوا في حرب ميدانية ، وذلك يندرج ضمن توقعاتهم التي إستعدوا وتهيأوا لها سلفا ، ولم يكن في حساباتهم أن يتعرضوا لطعنة من سكين ، أو لهجوم إنتحاري أو عملية دهس بسيارة من قبل شابات وشباب فضلوا الشهادة على الحياة لأسباب يعرفها الأسرائيليون جيداً ومن ابرزها استمرار الأحتلال ، لكنهم تجاهلوا هذه الأسباب والمسببات وأقحموا جنودهم في مواجهات ليست من صميم عملهم ، أدت بشكل مباشر أو غير مباشر الى المس بهيبة هؤلاء ، بل انها وصلت الى درجة خدش ما هو متعارف عليه في كل جيوش العالم ، " بالشرف العسكري " ، ومست بشكل أكيد بكرامة الضباط والجنود وكبريائهم ، وساهمت بشكل أكبر في كسر حاجز الخوف عند هذا الجيل من الشباب والشابات واللذين هم في الأصل جيل ما بعد " أوسلو " ، بعد أن إعتقد الكثير من جيل الأمهات والأباء بأنهم جيل الأنترنت ، "والفيس بوك " ، فإذا بهم جيل السكاكين والغيرة على القدس والمقدسات وجيل الثورة الشعبية بكل ما في الكلمة من معنى .
كل ذلك بسبب إصرار القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل بإقحام ضباطهم وجنودهم وتوريطهم في ساحة ليست هي في الأصل ساحتهم التي أُعدوا اليها " فأخذتها العزة بالأثم "، وأصرت على مواصلة الأحتلال وممارسة إجراءاتها التعسفية بحق الأرض والأنسان ، وتجاوزوا ذلك الى المس بالمقدسات والتي هي بالنسبة لهولاء الشباب أكثر من غيرهم الخط الأحمر الذي لا يمكن الأقتراب منه أو السكوت على تجاوزه ، فكان ما كان .
وبدى المشهد الشعبي الفلسطيني وكأنه مشهد تنافسي لمن يطلب الشهادة أولاً ، ومن ينتقم للأقصى ومن يثأر لشقيقه ولشقيقته وإبن قريته ومدينته وإبن وطنه ، ومن ينتقم لهدم البيوت وتحرشات المستوطنين وإقتحامهم للبيوت وحرق من فيها ، وقتل الفتيات والفتية بدم بارد وتركهم ينزفون بعد إطلاق النار عليهم على الحواجز حتى الموت ، وأنتقاماً لأؤلئك الشبان والشابات اللذين أُعدموا بدم بارد وهم في طريقهم الى بيوتهم أو مدارسهم أو جامعاتهم ، دون أن يكون بنيتهم لا الطعن ولا الدهس ولا ما يحزنون ، بشكل يندرج تحت مقولة " تأبط شراً " وهؤلاء كُثر ، كل ذلك وضع أمام هذا الجيل من الشباب شعاراً طالما رددوه كثيراً " الموت ولا المذله " .
ثم أن المؤسسة العسكرية والأمنية الأسرائيلية وفي محاولة منها لتبرير عمليات القتل المتعمد والأغتيالات الواضحة للعيان ، قامت بشكل واضح بوضع السكاكين بجانب الشابات والشباب اللذين سقطوا بنيران الجنود ، بعد تُرك العديد من المصابين ينزفون حتى الموت أمام الكمرات ووسائل الأعلام المتعددة . وبدى المشهد وكأنه يهدف الى زيادة عدد الشهداء والجرحى ، وكأن الهدف منه الترهيب والأحباط ، وإشعال فتيل "الهبة" الجماهيرية البريئة لتمريبر العديد من المخططات و " لأهداف في نفس يعقوب " .
هنا فإننا نستطيع القول أن " الهبة " الفلسطينية وإذا ما إفترضنا إبتعادها عن تدخل القيادة السياسية والتنظيمات الفلسطينية الفاعلة في الساحة الفلسطينية ودعمها ، وإذا إفترضنا جدلاً عدم رغبة المؤسسة السياسية والأمنية في إسرائيل في تصعيد الأوضاع في الضفة الغربية من خلال التحرشات المستمرة والمتعمدة في المسجد الأقصى ، وعمليات الأستيطان المتتالية في الضفة الغربية والقدس الشرقية ، والمداهمات اليومية والمضايقات المتكررة على الفلسطينيين ، فإننا نستطيع القول _ وإلى أن تتضح الصورة أكثر فأكثر _ ، بأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية هو " هبة " شعبية بريئة أبعد ما تكون عن تدخل القيادة الفلسطينية والتنظيمات الفاعله ، وهنا وفي حال ثبت ذلك بالدليل القاطع فإن هذه " الهبة " تكون هي الحدث الأبرز والأكثر خطورة في تاريخ القضية الفلسطينية ، الأمر الذي يؤسس الى إنفصال سياسي وأخلاقي بين الشعب والقيادة والتنظيمات من جهة ، وبين تلك التنظيمات والقيادة من جهة أُخرى ، وهذا هو " مربط الفرس " .
وهنا فإنني أقول : عندما تكون القيادة الفلسطينية والمنظمات معاً والتي سيطرت على قرار الشعب الفلسطيني ردحاً من الزمن " في وادي والشعب في وادي آخر " ، فإن الشعب الذي إنكسر ظهره وعانى الأمرين منذ عقود من إحتلال لا يرحم إمرأة ، ولا كهلا ، ولا طفلا رضيعا ، في الوقت الذي وجد هذا الشعب نفسه أمام تنظيمات إنفصلت عن نفسها ، وجعلت من خلافاتها أولوية قصوى ، بعد أن تحولت القضية الى قضية مكاسب وإمتيازات ، وأمام قيادة لا تدري في أي إتجاه تسير ، تذهب ببرامجها العقيمة يميناً ، وإذا بها تعود ويعود معها الشعب يساراً ، وتشطح بتوقعاتها محاولة المضي الى الأمام ، وإذا بها تعود ويعود معها الشعب سنوات كثيرة الى الخلف ، تعزف على وتر الدولة الفلسطينية وهي تُدرك بأنها لن ترى النور وستكون مجرد حبر على ورق ، وتعزف على وتر وقف او تجميد الأستيطان تارة ، والتوجه الى محكمة الجنايات الدولية تارات اخرى ، وهي تراوح مكانها دون اي بصيص من الأمل ولو بالحد الأدنى ، في مشهد بدى وكأننا نلف وندور في حلقة مفرغه ، وبدت فية القضية الفلسطينية وكأنها " مكانك قف " ، وكأن القيادة والتنظيمات تفتقد الى إستراتيجية واضحة قد تؤشر الى مستقبل أفضل ، كل هذا يؤكد بما لا يدع مكانا للشك ، أن القضية الفلسطينية ومعها الشعب والقيادة وكل الأقطاب السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية ، وكل الطموحات والبرامج والتاريخ والنضال الفلسطيني أصبح في خبر كان .
وهنا فأنني لا أريد أن يفهمني البعض أنني أريد من القيادة الفلسطينية ومعها التنظيمات الكبيرة والصغيره أن تحشد القوى والأمكانيات ، وأن تتصدي للأحتلال الأسرائيلي بالقوة العسكرية ، فهذا من غير الممكن بل من المستحيل ، ولم يكن من الممكن حتى قبل " أوسلو " سيئة الذكر ولا حتى بعدها ، ولا حتى خلال الأنتفاضتين الأولى والثانية ولا حتى بعدهما ، بأستثناء تلك المحطات والصمود الأسطوري في قطاع غزه ، فأنا اتفهم ذلك وأعرف انه من المستحيل أن يتم ذلك ، ولكنني أقول أن القيادة الفلسطينية ، من خلال برامجها ومخططاتها غير المنسجمة مع واقع الحال ، وهي التي وضعت نفسها وشعبها في هذا النفق المظلم الذي نعيش ، وهذا الأنسداد الذي نرى ، وهي من يتحمل مسؤولية الماضي والحاضر والمستقبل ، ولسان حال الفلسطينيين يقول بأن السلطة هي من أوصلتهم الى هذا الأنفجار الشعبي الذي تشهده المناطق الفلسطينية منذ عدة أشهر ، بعد أن أجلت البحث في ما سمي بقضايا الحل النهائي وأبرزها القدس ، وما أن نادى المنادي " هيا لنصرة الأقصى " فإذا بهم مصلحون سياسيون وإجتماعيون ليس إلا ، وأن هنالك مسافة طويلة تفصلهم عن هذا الشعب العظيم ، وأن هذه المسافة ليست بسبب عدم دعم القيادة " للهبة " الشعبية أو تبنيها لأن هذا غير ممكن والشعب يُدرك ذلك ، ولكن هذه المسافة وهذا الطلاق البائن وهذه " الهبة " ما كانت لتكون لو أن القيادة إقتربت من نبض الشارع ، ليس فقط في مخططاتها وإستراتيجياتها بل في وضوحها وإقترابها من الواقع .
ثم أن الشعب الذي راهن على " أوسلو " منذ أكثر من عقدين من الزمن ، يعيش هذه الأيام حالة من اليأس والتردي ، وأن الأحتلال وكما أوهمتنا " أوسلو " بأنه زائل لا محالة ، أصبح يقاسمنا الأرض ويغلق البيوت والطرقات ، وأصبحت المستوطنات بالمئات بعد أن كانت بالعشرات ، أما القدس وبعد أن كان رمزها المسجد الأقصى ، أصبح عنوانها " جبل الهيكل " ، وقبة الصخره أصبحت " هيكل ىسليمان" وحائط البراق تحول الى "حائط المبكى" ، وهكذا دواليك ، فأين هي "أوسلو " وأين هي القيادة ؟ .
وإذا ما إفترضنا جدلاً أن إسرائيل هي الخاسرة في هذه " الهبة " الشعبية الفلسطينية ، فإننا نقول أن هذا الأفتراض غير صحيح ، فهي تجيد العزف على وتر الثورات والأنتفاضات الفلسطينية سواء السابقة منها أو الحالية ، وتجيرها لصالح مخططاتها التوسعية والأستيطانية ، وتهويد القدس ، وتقزيم مفهوم الدولة الفلسطينية ، وعلى الفلسطينيين أن لا يبالغوا كثيراً في التفاؤل من نتائج "الهبة" الحالية ، وعليهم أخذ العبر من الأنتفاضتين السابقتين ، وكيف أنها أوصلت الحالة الفلسطينية الى حالة ميؤوس منها ، سواء فيما يتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني ، أو حتى الكينونة الفلسطينية ، وأوصلتهم الى حالة يعدون فيها أنفاسهم قبل كل صباح وبعد كل مساء ، حتى أصبح الهمُ الفلسطيني كيف يحصل العامل على تصريح للعمل في إسرائيل ، وحتى في المستوطنات المقامة داخل الضفة الغربية ، وكيف يصل الى بيته ومكان عملة ومدرسته وجامعته دون معاناة بسبب نقاط التفتيش المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية ، وكيف يمكنه أن يعبر الى الأردن دون إعادة أو تأخير، وأخيراً وليس آخراً : كيف يبقى على هذه الأرض ليموت فيها ويُدفن بداخلها ، ولسان حالهم يقول " لقد أخذتم المكاسب والمناصب فأعطونا ما تبقى من الوطن " ، وإلا فأن الأحتلال لن يرحم ، وأن أرض الله الواسعة لن تتسع لهذا الشعب بما رحبت ، ولن يجد غير الصحاري والمحيطات محطته الأخيرة .