نشر بتاريخ: 05/01/2016 ( آخر تحديث: 06/01/2016 الساعة: 16:28 )
الكاتب: د. نايف جراد
سرد قصصي مدهش في اقتناص النور والحرية
اعترف منذ البداية أنني لست بناقد أدبي، لكنني قارئ يحاول أن يتذوق الأدب والفن، وإن اهتمامي الأدبي شغف أملته وتمليه علي عناصر الجمال في الوجود، التي تدفعني أحيانا للتعبير عنها بكتابة الخاطرة الأدبية والشعر، ناهيك عن الانشغال بمعرفة هذا الوجود. ولعل القصة القصيرة كسرد هي، كما هو معروف، أقرب الأنواع الكتابية للشعر، اذ قلما تخلو من فيض الصور والايقاع الداخلي الذي يعبر عن جمال الواقع ويسلب أنفاس القارئ بموسيقاه العذبة وانسيابيته.
"سيدات العتمة" مجموعة قصصية صدرت حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، للقاصة الفلسطينية شيخة حسين حليوى. و "سيدات العتمة" هو عنوان القصة السادسة عشرة والأخيرة في المجموعة، ومن الواضح أنه يحمل قراءة المؤلفة لنصها، ويبدو كمفتاح من مفاتيح" الرأفة "، التي تتواخاها شيخة لسيدات العتمة، النساء البدويات الفلسطينيات، اللواتي كابدن ويكابدن ظلام وتسلط المجتمع الذكوري والعادات والتقاليد البالية، ويتعرفن بمشقة على الذات والحياة و المدينة، وينطلقن للحرية والفضاءات الأرحب من مضارب وقرى البدو، في نوع من التحدي الصعب، الذي لا يعني الا تمردا على العلاقات السائدة.
وإذا كانت سيدات العتمة يدفعهن القهر في الشباب لتمرد قد يودي بهن " إلى مدن بلا روح" ، وهروب لقرى" لا ترحل فيها البنت إذا غنت وأحبت"، وينضج لديهن التمرد مع نضوج علاقتهن بالجسد وفتنة الجمال، وأنهن إجمالا "لا يعرفن"، ويرددن في عمر الثلاثين" عٌمٌر ودّه يمضي"، وفي الأربعين "يبدأ العد التنازلي أو احتساب الوقت الضائع عند بعضهن"، فإن سيدة " سيدات العتمة"، التي جعلت من المرأة البدوية الشخصية المحورية لقصصها، تعبر عن رؤية وفلسفة تنويرية واضحة، تريد أن تبعث بالنور من روح المرأة التواقة للحرية، عبر تصوير خلأق وغير مفتعل للواقع ، وبسرد مدهش، سلس، وحرف مبدع. وهي وإن لا تخفي ذاتها المتنورة المتمردة العارفة فتمهر بها خواتم قصصها غالبا، إلا أنها تتناول الأحداث والشخصيات والواقع اجمالا بموضوعية عالية، تظهر ما فيه من بؤس وقبح كما تظهر ما فيه من بساطة وجمال أيضا، دون أن تحيد عن غايتها في هجاء المجتمع البدوي الذكوري والأبوي، الذي يقتل روح المرأة،ويكبل حريتها، ويحاول بشتى الوسائل أن يؤطر معرفتها وسلوكها في مقاييس قيم بالية وفكر محافظ.
في علاج هذا الواقع المأساوي ل" سيدات العتمة" تتجلى ملكات القاصة، فهي تعالج الأحداث في بيئتها وسياقها المكاني والزماني، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، بمنهج يدل بشكل واضح على استيعاب تفاصيلها، وباختزال وتكثيف لا يشتت القارئ، بل يشده في اللحظة المأزومة للموقف والعبرة أو الاحساس والفكرة ، ليرأف ب" سيدات العتمة"، تدفعه إليها بشكل غير مباشر ودون وعظ ، مقتنصة قبس النور من جنبات الواقع المؤلم لترسم أملا للنساء المعذبات. وليس صدفة أن تختتم شيخة حليوى قصتها الأخيرة "سيدات العتمة" بقولها: " النور رديف المعرفة والفلسفة بنت العتمة".
بين"حيفا اغتالت جديلتي"، القصة الأولى في المجموعة و " سيدات العتمة"، القصة الأخيرة، تدربت الفتاة البدوية عل اقتناص ذلك النور، معبرة بمشهدية درامية، عن الوجع من المجتمع الذكوري، الذي يكبل الحرية ولا يسمح للوهج أن يدخل المضارب خوفا من عار مزعوم أو توجسا من معرفة وأفكار وسلوكيات تقض مضاجع التخلف وتفكك علاقات البداوة، في زمن يشهد انتقالا من العتمة الى النور. ويبدو لي أن ثمة ملامح كثيرة بين شيخة حسين حليوى و"سيدات العتمة"، فهي تواكب ذلك الانتقال طارحة أسئلة الواقع البدوي والقروي الفلسطيني من خلال سرد قصصي لا تقلد فيها غيرها، ولا تتوسل انتاج أفكار أو بعث قيم ونفي نقيضها، بشكل فج على حساب بناء النص، بل تستخدم موهبتها القصصية واسلوبها الممتع لتقدم سردا ماتعا مكتمل البنية والأشكال القصصية عنوانا وشخصيات وحبكة وحوارا وحركة ونهايات. وعلى الرغم من الخروج عن السياق المكاني والبيئة المحيطة، كما في قصة " وردة حمراء مضحكة "التي تتحدث عن نمط آخر من" سيدات العتمة" المغتربات،اللواتي أخذتهن أضواء وأجواء العواصم الأوروبية لكنهن بقين وحيدات، وعلى الرغم من ضعف التشويق القصصي كما في " ثلاث لوحات "، فأن شيخة حليوى حاولت وبنفس قوي أن تجمع بشكل مدهش بين العرض المشوق والحدث النامي المتصاعد، والمشهدية المسرحية الدرامية، والبناء المحكم، وحذق الحبكة، واللغة السلسة، محافظة على تكثيف وتركيز يكتنز المعنى والمتعة معا.
ان الحبكة الحاذقة التي تتمتع بها شيخة حليوى، وايقاعات قصصها غير الرتيبة، والفكر التنويري الواضح الذي تعبر عنه، جعلها لا تذهب بعيدا في المتخيل والمجرد والرمزية، بل دفعها وبأسلوب يمزج بشكل واضح بين السخرية والوجع والادهاش والمتعة، الى أن تحاكي واقعا خصبا عاشته وخبرته وهي طفله وشابة وامرأة ناضجة. فمنذ أن اغتيلت جديلتها وهي طفلة على يد مقص ذكوري، فانتزع جزء من روحها،أخذت المرأة البدوية دروب النور الى المدنية، الى المدرسة والمدينة، الى سماء أخرى، والى جسد مصقول، وحب، وغناء، وفتنة، وطرقات وشوارع، رامية عنها الخوف والخجل وروح الخنوع، لكنها في ذات الوقت أخذت معها و حملت في يديها وجسدها وروحها جمال غزلان البادية البيضاء،وحرية ونقاء البرية الواسعة وبساطة العيش والأحلام الجميلة، لتتجاوز استبداد وتسلط الرجال، وهوس العار، وعادات الثأر، والخرافات،والخوف من الجديد، وفتنة الأفعى والقتل على خلفية الشرف، وزواج الأقارب، لتتجاوز " الجدران" وسؤال" وين يا مسهل؟" ، لتحاول أن "تقتنص عمرا" في "حيفا" و"يافا"، دون أن تغويها المدينة أو تحولها الى متسولة وبائعة هوى في "مدن بلا روح". بهذا المعنى المركب، أرادت شيخة من النساء البدويات أن يقتلن البداوة والقبلية والمجتمع البطرياركي.وهي بذلك لا تعالج هموم المرأة البدوية فحسب، بل هموم المرأة الفلسطينية عموما، التي تعيش اضطهادا مركبا، اجتماعيا وسياسيا.
"سيدات العتمة" مجموعة قصصية تضع أقدام شيخة حسين حليوى بثبات وقوة في مضمار القصة القصيرة،وستحفظ لها مكانة واعدة ووازنة في الأدب النسوي الفلسطيني مستكملة درب الأديبة الفلسطينية الرائدة سميرة عزام، التي انتزعت بجدارة لقب"أميرة القصة القصيرة في الأدب العربي".