الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

يجذبُني عبقها كُلّ حين

نشر بتاريخ: 10/01/2016 ( آخر تحديث: 10/01/2016 الساعة: 11:15 )

الكاتب: عطا الله شاهين

أيقظتني زوجتي ذات صباحٍ وقالتْ لي : ألا تريدُ أنْ نذهبَ اليوم سويةً إلى القُدسِ؟ فأنتَ لطالما حدَّثتني عنْ شغفكَ لزيارتِها ولرؤيةِ جمَالِها وجمَالِ أسوارها وأبنيتها وأزقّتها، فرددتُ عليها بلا، فأنتِ تعلمين بأنّني أعشقُ القُدسَ، وأعشقُ السّيْرَ في شوارعِها، وكما قلتُ لكِ عبقها يجذبني كل حين، ولا أستطيع مغادرتها دون أن أشعر بألمها، وعشقي للقدسِ ما زال فيّ ينبضُ، وأظلُّ في حنين دائم إليها لأنها مدينة تعبق برائحة التاريخ وهي مختلفة عن كل المدن في فلسطين.. فسُرّتْ مِنْ كلامِي وراحت ترتدي ملابسها، فقمتُ مِنْ فراشي وقلتُ ما أجمل القدس، وجلستُ على الأريكةِ أحتسي فنجانَ قهوة الصّباح، ورحتُ أتذكّرُ زياراتي الماضية لمدينةٍ أحببتها وما زلتُ أحبُّ زيارتها باستمرارٍ، لكنَّ الاحتلالَ يمنعنا، ويُسمحُ لنا بدخولِها فقطْ في الأعيادِ، لأننا نحصلُ على تصاريحِ زيارةٍ لدخولِها، ولهذا نقومُ بزيارتِها حينما يكونُ بحوزتنا التّصاريح، يا للغرابة.. فأعمارُنا ما زالتْ لا تسمحُ لنا بالدّخولِ، عبر حواجز مقيتة إلى مدينةِ السَّلام هكذا قرر الاحتلال..

كانتْ زوجتي ترتدي على عجلٍ، فهي مثلي تتوقُ لزيارةِ الأماكنِ المُقدَّسة، وبعدما ما ارتدينا ملابسنا العاديّة انطلقنا بسيارتنا، ووصلنا إلى مدينةِ رام الله قبيل الظهيرة، وركّنا السّيارة بالقُربِ مِنْ ملعبِ مدرسةِ الفرندز، وذهبنا سيراً حتى موقفَ الحافلات، وركبنا الحافلة المُتجهة إلى حاجزِ قلنديا، وعندما وصلنا الحاجز، نزلنا لكيْ نمرَّ عبر نُقطةِ التَّفتيش، وولجنا بوابة المعاطة، ونظرتْ المُجنّدة إلى التّصاريحِ وهوياتنا الشّخصية وبصمنا على الجهاز الخاص، وسمحتْ لنا بالمرورِ، وهناك ركبنا في حافلةٍ أُخرى، وانطلقنا صوب مدينةِ القُدسِ، وفي الطَّريقِ تشاءمنا مِنْ رؤيةِ الجدارِ، الذي يفصلُ مدينة الرام، وشاهدنا في الطريق مستوطنة بسغات زئيف الجاثمة على أراضٍ فلسطينية، وكأنها مدينةـ

وعند وصولنا إلى حي الشّيخ جراح، تذكَّرتُ طفولتي عندما كنتُ آتِي إلى مدينة القدس بلا حواجز، لمُشاهدةِ الأفلام في سينما النّزهة، وقلتُ لزوجتي: ما أروع تلك الأيّام، لمْ يكنْ حواجزٌ في ذاك الزّمان، وتحسّرتُ على تلك الأيام الجميلة، وقلتُ في ذاتي: ما أروع مدينة القدس! فكنتُ دائم الزّيارة لمدينةٍ أراها الآن مُحاطة بجدارِ فصلٍ.

وعند وصولِنا إلى محطة الحافلات في شارعِ نابلس، نزلنا وتوجّهنا صوب بابِ العامود، وشعرنا بحُزْنٍ، لأنّنا لمْ نرَ أُناساً هناك، كالعادة، وولجنا إلى داخلِ زقاق خان باب الزّيت، وشعرنا بعبقِ المكان، وقالتْ لي زوجتي: ما أروع هذا الزُّقاق فهو يذكّرني بأزقّةِ نابلس، فقلت لها: بلا يشبهه كثيرا، لكنّ أزقَّةَ القدس تعبقُ بقُدسية المكانِ، ووصلنا إلى كنيسةِ القيامة ودخلنا إلى داخلها وطفنا فيها، ولم نرَ هناك حُجّاج كُثر كالعادة، وصلّتْ زوجتي هناك لدقائقٍ، وأوقدنا الشّموع، وخرجنا من الكنيسة الرائعة الجمال بحجارتها وقبتها، وعدنا عبر طريق الآلام، بخطواتٍ بطيئة، ومن ثمّ انعطفنا صوب شارع بابا الواد، وسرنا ببطء هناك ورأينا المحلات والمطاعم وكانتْ شبه فارغة، وبعد دقائق مِنْ سيرٍ بطيءٍ وصلنا إلى بابِ العامود، وسرنا باتجاه شارع السّلطان سليمان، وتناولنا الغداء في أحد المطاعم، وسرنا بعدما نفثنا دخان سجائرنا في الهواء باتجاه مغارة سليمان، ودخلنا فيها بعدما قُمنا بدفعِ دخولية، وقلتُ لزوجتي بأنّني هذه أول مرة أقوم فيها بدخولِ هذه المغارة الكبيرة، وسرنا بداخلها لمسافة تزيد عنْ مئتيّ متر، وانبهرنا مِنْ حجمِها الكبير، ومن كهوف صغيرة بداخلها، وبعدما أنهينا جولتنا هناك، عُدنا إلى محطّةِ الحافلاتِ مُنهكيْن، وصعدنا إلى الحافلةِ المُتجهة إلى رام الله، وقلتُ لزوجتي: لا أدري لماذا أعشقُ القدسَ وأُحِبُّ زيارتها أكثر من أية مدينة؟ فقالتْ لي :لأنَّ القُدسَ فيها عاشَ الرُّسل والأنبياء، أو لربما لأنَّ القدسَ هي مدينة السَّلام، فقلتُ لها: لأنَّ القُدسَ هي الحُبُّ الفلسطيني، وعشقها يسري في دمي.. فزيارتنا للقدس كانتْ رائعة، مع أنَّني شاهدتُ الحُزْنَ الجليّ على وجوهِ ساكنيها، ولكنني كلما أزورها أعشقها أكثر وأظل مشتاقا لرائحتها، فمدينة القدس تظلُّ حُبّي وألمي.