الكاتب: يونس العموري
كان وما زال للاسم معنى وارتبط بالذاكره وخلده الشعب، والبسطاء هم القادرين على تخليد الذكرى ونسج حكاياتها، وتوريثها والحفاظ على مكنوناتها، لتتحول الحكاية الى تعويذة معلقة بافئدة المؤمنين بعدالة اللحظة الفارقة ما بين الحقيقة والخيال والحق بالايمان وبالقدرة على تحقيق المُراد بصرف النظر عن وقائع القوانين الحاكمة ومن يأمر ومن هو الآمر والمؤتمر، حيث تتجلي تلك البطولات الشعبية النابعة من ايمان فطري مجبول بالموروث المختزل لماهية المعادلة الحاكمة للصراع وهو الذي لابد من ان يفهمه من يعتلي منصة اولي الأمر فينا رغما وارغاما، او خيارا واختيارا، وهو القرار الذاتي بالنطق بلغة الضاد في ظل المحرمات، والحصار والتنكر والانكار للحق بالصراخ، والحق بنقش التاريخ على الارض السمراء حيث العبور نحو الخلود، وتسطير ملحمة تنقشها جماهير ادركت حقيقتها وان لا حياة لها خارج اطار زمانهم وامكنتهم...
هم اسماء اضاءت الدرب واعادت تصحيح بوصلة الفعل والاهتمام، لم ينتظروا القرار الصادر من ابراجهم المشيدة، ولم يأبوه لجعجة الكلام المسيطر على منصاتهم، القرار قرارهم والفعل فعلهم، واللحظة لهم والخلود خلودهم، والارض السمراء كفيلة، بحفظ اسماءهم والبسطاء هم من طارد احلامهم والتقطوا وصاياهم وادركوا حقائق افعالهم، فكان البكاء والايمان بحتمية الانتصار على الجوع والقيد ومناطحة التغول.
هي اسماء كبرت قبل أوانها وتحملت الكثير من اساطير الحكاية منذ ان صارت فلسطين نجمة الصبح معلقة بالسماء، ومنذ ان اصبحت مدنسة برجس الشيطان، ومنذ ان خضعت للمؤامرة الكبرى، وحيكت ضدها كل المؤمرات الصغرى، والواقع الراهن جزء من مؤامرة الفشل والافشال، ومحاولة حرف بوصلة نجمة الصبح فلسطين عن وجهتها ولحظتها يدرك واحد من هؤلاء العشاق انه بوصلة لا تشير تجاه ام المدائن بوصلة مشبوه....
ادركوا انه وفي ظل الفوضى لابد من ارباك الفوضى بالفوضى ذاتها، فمارسوا ضجيجهم وقرعوا جدران خزانتهم، واوقفوا مدركات من يعتلون المنصات، واعادوا للحظة معانيها، وللصراخ قوانينه ...
لم يختلف عليهم احد، ومن يختلف يدرك باعماقه ان لا خلاف على ايقونتهم ...
اوقفتني المشاكسة وارهقت كهولتي وسألتني من يكون (ابو جورج) وطريقه تلك الواصلة الى منطقة الاغوار ... والحت بالسؤال والاستفسار، وهي المشاكية بكل يومياتها، وادراكها ان ثمة شيء بهذة التسمية ...
انتبهت لسؤالها، واعتدلت بجلستي، متسائلا وقد اكون مستغربا، لماذا هذا السؤال الأن ..؟؟ هل في جعبتها شيء، ام هي ارادة المعرفة ، قلت لها مشاكسا ومن هو البهاء والمهند ، والملحم .. ؟؟ وناديت على كل تلك الاسماء .. فقالت بلعة جادة وقد تكون حادة هم الشهداء ... هم شهداء الواجب والحق .. والانتصار للحظة يا سيدتي الصغيرة، وهم من كان لهم القرار بمواجهة الفوضى وانحراف البوصلة عن المشهد العام ...
ينادي أحد الركاب في المقعد الخلفي على السائق "أغلبك نازل عند طريق أبو جورج".. لكنه ربما لا يعرف قصة تسمية الطريق ومن هو ابو جورج هذا؟! قالت هكذا سمعت احدهم يقول ...
جون جلال أو "ابو جورج" هو فلسطيني من يافا، كان يعمل سائقاً لدى الجيش البريطاني، وكلف آنذاك بنقل الجنود البريطانيين من معسكر بيرنبالا في رام الله باتجاه نابلس لقمع الثوار هناك.
وجاءت الأوامر حينها لأبي جورج بأن يسلك طريق الأغوار حتى لا يتعرض الجنود الانجليز لكمائن الثوار الفلسطينيين في منطقة عيون الحرمية.
وصلت الشاحنة المحملة بالجنود للوادي المنحدر بإتجاه الخان الأحمر، وهناك قرر أبو جورج أن يمنع مذبحة الثوار في نابلس من خلال تنفيذ عملية فدائية حيث قام بحرف الشاحنة عن مسارها لتنقلب بمن فيها في الوادي ما اسفر عن استشهاده وقتل العشرات من الجنود لتعرف هذه الطريق منذ ذلك الحين باسمه.. طريق "ابو جورج".
جون جلال ( ابو جورج ) لم ينتظر صدور الأمر من احد ولم يتوان على فعل الصواب، وكانت لحظة فارقة ادرك .. حلل .. فهم .. قرر .. نفذ .. فكانت النتيجة ... وبعد ذلك ادركت جموع الجماهير البسيطة وبسطاء الآرض حقيقة فعل ابو جورج فخلدوا تلك اللحظة وهذا الادراك وبالتالي الفهم والقرار والتنفيذ ...
ابو جورج الجميل، لم يكن ابن تنظيم او فصيل ثوري عامل على الارض آنذاك، ولم يحاول ان يتمترس بنظريات كلاسيكية حرب الشعب ومقاومة المحتل، ولم تكن المعادلة الاقليمية المرتبطة بمراكز القوى العالمية تشكل شيء بمنظومة وعيه وتشكيل ارادته، كان المؤمن بالمسيح المخلص للبشرية وان خفافيش الليل يريدون سلب كلمة الله من المؤمنين بحواري القدس وازقتها ..
وما اشبه اليوم بذاك التاريخ، فاذا كان جون جلال ( ولنحفظ الأسم جيدا ) قد خاض ملحمته، فها هو المهند والبهاء وكل ايقونات الحاضر يسطروا ملحمة المواجهة ويعيدوا المشهد ليتصدر العناوين من جديد، وان كان ثمة من يحاول الإنكار والتنكر لهم، ويأتينا النبأ بهذه اللحظة الفارقة انا الاسمر الجميل الشاب اليافع قد اطلق العنان لفعله، وتقدم نحو الباب العظيم للمدينة العتيقة وزمجر غضبه وسقط شهيدا ...
قد يكون ابو جورج قد قال كلمته ومضىى وانتصر لغضبته، وشهداء اليوم قالوا ايضا كلماتهم ومضوا، الا ان علامة تعجب ترتسم هنا ما بين الامس واليوم، ثورة ال 36 في حينها التهبت وامعنت في مقارعة الاحتلال والقيادة آنذاك أمنت بالبسطاء، وما بدلت تبديلا، وقيادة اللحظة ما زالت تطرح التساؤل وتحاول الاجابة وتراعي المصالح، وتدو دوائرها بالحسابات، مع ان الدم المسفوك واضح والمعادلة هي الاوضح ... واللحظة ايضا فارقة ...
والاهم من كل ذلك، هل سيطلع علينا جون جلال ( ابو جورج ) قائد اللحظة التاريخية ليمنع مجزرة المجازر بحق البشر والحجر ...