الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الربّ واحد والتَعدّديّه مَطلَبه

نشر بتاريخ: 16/01/2016 ( آخر تحديث: 16/01/2016 الساعة: 23:52 )

الكاتب: فراس ياغي



حاول الكثير من الكتّاب أن يدحضوا الرواية التوراتيه، منهم من ذهب بعيدا.. الدكتور "كمال الصليبي" وضع حدود الرواية في شبه الجزيره العربيه، والدكتور "يوسف زيدان" إعتبر الرسالات السماوية الثلاث (اليهوديه، المسيحيه، الإسلام) بأنها عربيه وسماها "اللاهوت العربي"، في حين رأى الكاتب العراقي "فاضل الربيعي" بأن "المسيح" عليه السلام عربي من "نجران"، بينما الدكتور "فراس السوّاح" يؤكد حينا بعضاً من الرواية التوراتيه ويرفضها حيناً آخر، ويرى أنها أخيوله أدبيه دينيه ليس لها علاقه بالتاريخ الحقيقي لمنطقة بلاد الشام رغم ورود بعض الشوارد هنا أو هناك فيها تؤكد الشواهد الأركيولوجيه ولكن ليس كما ورد في نصوصها، حيث أقحمت أحداث ومعارك وغيرها لتثبيت النص ولإيجاد وقائع وشواهد تثبته.
المُستغرَب أن بعضاً من الكتاب يحاول دحض الرواية التوراتيه من خلال إستناده إليها، فمثلا الدكتور "عبد المنعم جيري" في كتابه "المسيح عند اليهود والنصارى والمسلمين وحقيقة الثالوث" يحاول عبر مفرداته المُختلفه تسجيل نفي للروايه من خلال الرواية نفسها أو من خلال المجيء بأحاديث نبويه وآيات من "التنزيل الحكيم" دون أي سند آركيولوجي علمي، مما يؤكدها بدل نفيها.
حقيقةً أستغرب كيف تقوم الضحيه بتأكيد رواية جَلاّديها، بل إنّ الجلاّد نفسه إستطاع سرقة الروايه وأبدعَ في تحريفها، قال "إسحق رابين" رئيس وزراء إسرائيل أثناء حفل توقيع إتفاق "أوسلو" في "واشنطن" : " إن توقيع إعلان المباديء ليس سهلاً بالنسبة لي كمحارب في جيش إسرائيل وفي حروبها، ولا لشعب إسرائيل ولا لليهود في الدياسبورا"، هنا عن أي شعب يتحدث، عن قبيلة "بني إسرائيل" التي أُبيدت أو عن "قبائل الخزر" التي تهوّدت وعاشت في وسط أوروبا ثم جاءت وإستوطنت أرض فلسطين بإسم الوعد الإلهي "وعد الرب يَهوّه"..
المُشكله أن بعضاً من أهل العلم يستندون إلى روايات أثبتت علوم الآركيولوجيا عدم صحتها، بل نفتها جملةً وتفصيلاً، وحين حاول البعض المُتحيّز لفكرة "أرض الرب" و "شعب الرب المُختار"، شعب "يَهوّه"، وإستند إلى كتاب "التوراة" واعتمده كأساس للدليل التاريخي، وقف مشدوهاُ حين لم يَجد ما يُسنده على أرض الواقع، بل جاءَ ما يعاكسه كصاعقه على من لا يزال يؤمن برواية "الكاهن عزرا" العائد من السبي البابلي ومن تبعه من أحبار وكهنة وأنبياء من بني إسرائيل (والنبي يختلف عن الرسول، فمقام النبوة ليس كمقام الرساله التي هي من عند الله)..لقد تبين أن ما حوته "التوراة" من أخبار تاريخيه يغالط التاريخ نفسه، فكثير من الملوك والممالك جاءت في زمن يخالف زمن كتابة التوراة، والأحداث المُثقلة في "التوراة" تُخالف الحقيقه الآركيولوجيه..الإكتشافات الأثريه في "فلسطين" الكنعانيه لم تؤكد مطلقا ما تم روايته من بدائع وجيش وحروب وثروة وجاه ومال ونساء، عن مملكة إسرائيل الموحّده للملك داوود وسليمان، كما أن ما تمّ الكشف عنه أثريا في سوريا "أوغاريت"، والعراق "سومر وآشور وبابل"، ومصر "تل العمارنه"، وتركيا "الحثيه" وحتى إيران "فارس الإخمينيه والميديه"، لم يثبت مطلقاً إدعاء الروايه التوراتيه، حتى أن "أورشليم" هي تسميه جاءت في زمن "الهكسوس" في القرن التاسع أو الثامن عشر قبل الميلاد، لذلك نظر المؤرخون الجدد الآركيولوجيون للتوراة على أنها أخيوله أدبيه لا تصلح لأن تكون مرجع تاريخي علمي للحضاره البشريه.
مُعضلة العقليه العربيه والمتأسلمه بالذات، وعلمائهم وفقائهم وشيوخهم وبعض من يُزَيّن إسمه بحرف "الدّال"، لا يزال متسكون برواية التوراة وما جاء به الموروث السلفي عن الإسرائيليات في تفسير "كتاب التنزيل" مثل "إبن كثير" أو الأحاديث النبويه التي تم إقحامها على رسول الله الأكرم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلّم، هم يهاجمون الصهيونيه ويؤكدون في المقام نفسه على روايتهم الدينيه، ولا يُكلّفون أنفسهم عناية قراءة ما تم دحضه من قبل علماء الآثار وأكثرهم من الغرب بل وحتى من علماء "إسرائيل" الجدد...مملكة "السامره" هي كنعانية الصفه والدين والعادات وليس لها علاقة بإسرائيل التوراتيه، وتم تدميرها عام 721 ق.م من قبل الإمبراطوريه الآشوريه حيث تم سبي أهلها إلى آشور وهؤلاء لم يعودوا مطلقا وتم إسكان مكانهم عرب من قبيلة "ثمود"، كما أنها لم تعاصر مملكة "يهوذا" سوى بضع سنين (فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل)، ويضيف "السوّاح": أن مملكة "يهوذا" هي أيضاً كنعانية وليس لها علاقة بالرواية التوراتيه قبل السبي البابلي، وتم تدميرها هي و "أورشليم" على يد الإمبراطور البابلي "نبوخذنصر" عام 587 ق.م، وسُبِىَ جميع أهلها ما عدا الفقراء إلى "بابل"، وجزء من هؤلاء ومع شعوب أخرى مُتعدّدة عادت من السبي إلى "يهوذا" في عهد الملك الإخميني الفارسي "قورش"، حيث كانت جزء من الإمبراطوريه الفارسيه وسميت المقاطعه "اليهوذيه"، وكان من ضمن العائدين الكاهن "عزرا" الذي بدأ بكتابة "التوراة الأولى" وبأثر رجعي تاريخي..
لاحقا جاءت الإمبراطوريه اليونانيه "الإغريقيه" بفكر الإسكندر المكدوني الأكبر ذو الثقافه "الهلنستيه" والذي دعا إلى فكر عالمي وثقافه عالميه وإله عالمي، ومن جديد تم التزاوج مع هذا الفكر وأصبح "يَهوّه" في معبد "هيلنستي" إغريقي "زيوس" بعد أن كان في معبد الإله الفارسي "أهورا مازدا"، كما تم تسمية تلك المقاطعه، "اليهوديه" بدل "اليهوذيه".
التاريخ عادةً يكتبه بشر، فيؤشر ذلك على رؤيا الكاتب وفكره وأيديولوجيته وحتى دينه..الكل على هذا الكوكب يريد أن يعرف أصلَه ومن أين أتى، فِكره تُشغله عن واقعه من جهة، ومن الجهة الأخرى تكون مُحفّزاً للإنقضاض على الآخر من جنسه..الإنسان بشكل عام تأسره فكرة الأصل التاريخي وفكرة التَمَيّز عن غيره..مثلا "التوراة" تتحدث عن إختيار الرّب "يَهوّه" لشعبه وقبيلته، والشعوب الأخرى "الغويم" لها آلهه أخرى هي إختارتها أو خلقها الرّب "يَهوّه" لتخدم قبيلته..الديانه "المسيحيه" ترى في "المسيح" عليه السلام المُخَلّص للإنسانيه جمعاء وأن تضحيته وصلبه جاء لخلاص البشريه من شرور الظلام المادي، أو وفق فهم "بولس الرسول"، للخلاص من "إله هذا الدهر الذي يعمي بصيرة غير المومنيين" وهذا هو لقب الرّب "يَهوّه"..الديانه المُحمديه ترى انها خاتمة الرسالات والديانات وهذا صحيح، لكن غيرُ الصحيح أنه يحقّ لها أن تنسخ كلّ شيء، في حين أن "النسخ" أساسه في فكرة "نظرية الحدود" في "كتاب التنزيل" من حيث إيجاد تشريعات جديده أو تخفيف حدة تلك التشريعات وعقوباتها السابقه، إضافة إلى تفصيل المُحرّمات الإلهيه بشكل نهائي ووضع منهيات للإجتهاد الإنساني وفقا لكل مجتمع وطبيعة ظروفه، وتأكيد على القيم الإنسانيه الأخلاقيه في "الفرقان العام" الذي تدرج من زمن سيدنا "نوح" عليه السلام من بِرّ الوالدين وحتى الوصايا العشر زمن سيدنا "موسى" عليه السلام مع إضافة "الفرقان الخاص" الذي ميّز سيدنا وروسولنا محمد صلوات الله عليه وسلّم في إتمامه لمكارم الأخلاق وفقا للدكتور محمد شحرور.
فكرة "شعب الله المُختار"، وفكرة "الفرقه الناجيه"، وجهان لعملة واحدة وتعبران عن عنصريه مقيته مُغَلّفه بإسم الدين والله الواحد الأحد..شعب "يَهوّه" و "فرقة" المتأسلمين "الناجيه" لا تُعَبّر عن الحقيقه الإلهيه التي ترى في مفهوم "النزعه الإنسانيه" وصراع "الخير" و "الشر" كمفاهيم مرتبطه بالأساس بالقيم الأخلاقيه والإنسانيه، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وبنظرية الحدود التشريعيه كمفهوم "حد أعلى أو أدنى، وحد أدنى وأعلى"، وبمفهوم "الشعائر" التي تختلف من دين للآخر..التعدديه الإنسانيه مطلب إلهي، فهو القائل تعالى: " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود118)، " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" (يونس99)..والله الواحد الأحد دعا للحوار والمجادله بالتي هي أحسن، فهو القائل، قال تعالى: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت46)..الخلاف مطلب إلهي، لأنّ مَرَدّه إلى الله يوم الدينونه، فهو القائل، قال تعالى: "اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (الحج69)، " ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (آل عمران55)..أما حقيقة معركة "هرميجدون" و "مرج بن دابق" و "نزول المسيح" عليه السلام، و "الحجر الذي يتكلم" و " الشجرة التي تُسمى الغرقد"، ليست سوى أفكار من وحي الإنسان أُقحمت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لله الواحد الأحد علاقه بها، لأن علم الساعه من علمه وحده، ويوم القيامه والحساب قراره وحده، والدينونه هي رؤيته في محاكمة خلقه من الناس أجمعين الذين وافقوا على حمل الأمانه التي رفضتها السماوت والأرض والجبال.
لا حكومة إلهيه وفق "شهود يهوه" ستأتي بعد معركة "هرميجدون" التي هي أصلاً لن تحدث، ولا "فرقة ناجيه" ستدخل الجنه وفق البعض المتأسلم السياسي السلفي وغيره في الديانه المحمديه، قال سيد البشر صلوات الله عليه وسلم " من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يصمت"، وقال الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه " الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". الربّ واحد والتعدديه مطلبه.