نشر بتاريخ: 19/01/2016 ( آخر تحديث: 19/01/2016 الساعة: 10:12 )
الكاتب: هاني المصري
لم تتحول الموجة الانتفاضية المستمرة للشهر الرابع على التوالي إلى انتفاضة شعبية شاملة لها قيادة موحدة وأهداف محددة لأسباب عديدة، سبق أن تعرضت أنا وغيري لها، أهمها أن القيادة لم تتبنّ الانتفاضة واكتفت بتأييدها الخجول، وأن القوى إما عاجزة أو مترددة بين تبني الانتفاضة واستخدامها، والخشية من تحولها إلى انتفاضة شاملة لا يمكن السيطرة عليها، وكذلك من إقدام الخصم والمنافس الداخلي على توظيفها لصالحه وضدها.
غير أنّ هناك بعض المظاهر التي أعطت شعبية للانتفاضة لا يمكن التقليل من أهميتها، ومثال ذلك الحشود الشعبية التي شاركت في جنازات الشهداء وبيوت العزاء، وفي المظاهرات والتحركات المنادية باستعادة جثامين الشهداء وتوفير حزام بشري حول بيوتهم، ما حال في مرات عديدة وأجّل تنفيذ أوامر الهدم التي اتخذت بحق بيوتهم.
في هذا المقال سنركز على سياسة هدم المنازل لمنفذي العمليات الفدائية التي كانت جزءًا من الخطوات التي قررت سلطات الاحتلال اتخاذها كنوع من العقاب ولردع آخرين عن تنفيذ عمليات جديدة.
منذ بداية الموجة الانتفاضية، تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبارًا عن وجود تباين بين قيادة جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية من جهة، وبين القيادة السياسية من جهة أخرى حول جدوى سياسة هدم المنازل واحتجاز الجثامين وقضايا أخرى. وجاءت الأحداث لتثبت – من وجهة نظرة العسكريين - أن هذه السياسات تؤجج الوضع ولا تساعد على إخماد الانتفاضة، ما دفع الاحتلال إلى الإفراج عن غالبية الجثامين، بينما احتفظ ببعض جثامين شهداء مقدسيين، لأن المسؤولية عنهم ليست ضمن سلطات الجيش، بحكم أن القدس ضمت لإسرائيل وينطبق عليها القانون الإسرائيلي، وليس القانون الاحتلالي الذي يحكم الأراضي المحتلة العام 1967.
بدأت القصة في مخيم شعفاط في القدس حين بادرت مجموعة من الأشخاص بتنظيم حملة لجمع تبرعات لإعادة بيت الشهيد إبراهيم العكّاري، وتجاوب معها الناس بالرغم من أحوالهم المعيشية الصعبة، وساهم الفقير وبعض الأغنياء في الحملة، وكرت السبحة ... حيث تم إطلاق حملة "إعمار بيوت الأحرار" في نابلس التي جمعت مليون شيكل عوضًا عن تبرعات عينية أخرى، وحملة إعادة بناء الشهيد مهند الحلبي التي جمعت ما يقارب 600 ألف شيكل عدا عن الأرض ومواد عينية أخرى والعمل دون أجر. كما أعلنت نقابة الموظفين المنحلة والمعروض أمرها على القضاء عن قرارها بدفع كل موظف 1% من راتبه لدعم الحملة، وإذا طبقت السلطة هذا القرار فهذا يعني جمع حوالي خمسة ملايين دولار، وحثت النقابات الأخرى أن تحذو حذوها لجمع أضعاف هذا المبلغ، وتوظيفه لإعادة بناء المنازل المهدمة، ومساعدة أهالي الشهداء والأسرى والمتضررين من الإجراءات الاحتلالية.
تبرهن حملات التبرع مرة أخرى على أن الشعب جاهز للكفاح والعطاء، أما القيادة والنخبة فغائبة إلى حد كبير. فالمبادرات للتبرع لم تطلقها القيادة ولم تتبناها السلطة، مع أن الأصل أن تلتزم السلطة بإعادة بناء كل بيت يقوم الاحتلال بهدمه، وعدم التذرع بقلة الموارد لأن تلبية هذه الحاجة الحيوية والوطنية أولوية وتعلو أي مسألة أخرى، وإذا ضاقت السبل تستطيع أن تنفذ مبادرة نقابة الموظفين وتشجع مبادرات مماثلة.
إن السلطة التي لا نعرف قرارها بخصوص هذه المبادرة، والتي لم تتبن تغطية كل الخسائر الناجمة عن إجراءات الاحتلال وجرائمه ضد الشعب بحجة الانتفاضة، تخشى من غضب الاحتلال عليها إذا أقدمت على ذلك، مع أنها تبالغ كثيرًا في هذا الأمر. فالسلطة قادت الانتفاضة الثانية المسلحة ولم تحلها إسرائيل، لأن البديل عن السلطة سيئ جدًا، ولأنها كانت تراهن على إيجاد سلطة جديدة وكان لها ذلك بكل أسف. فالسلطة بعد الانتفاضة الثانية أسوأ مما كانت قبلها، لأنها، في البداية، كانت جزءًا من عملية سياسية كانت تأمل أن تنتهي بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة، أما بعد انهيار قمة "كامب ديفيد" وإعادة احتلال الضفة أصبحت السلطة غاية دون أفق سياسي.
إذا كانت السلطة تخشى تبني إعادة بناء البيوت المهدمة وغير ذلك، فكيف ستقنعنا أنها ستنفذ قرارات المجلس المركزي بخصوص إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، وفك التبعية للاقتصاد الفلسطيني؟!
إن من لا يشارك في جنازات الشهداء وبيوت العزاء إلا بشكل محدود وليس على أعلى المستويات، ولم يبادر ولم يتبن حملات التبرع لإعادة بناء بيوت الشهداء؛ لن يقدم على تغيير العلاقة مع الاحتلال من "شريك سلام" إلى عدو، إلا إذا أجبر على ذلك لسبب أو لآخر، أو كردة فعل على أحداث أو جرائم كبرى. يجب التنبه مبكرًا والعمل على عدم نجاح إسرائيل في توظيف ما يجري والانقسام والتيه الفلسطيني لتطويع السلطة أكثر، خصوصًا في مرحلة خليفة أبو مازن.
هناك من يقبل من السلطة كل ما تقوم أو لا تقوم به، بحجة أن هذا أفضل من لا شيء، وبأن السلطة محكومة باتفاقيات والتزامات، وأنها إذا قامت بهذا وذاك ستعاقب، وهذا سيؤدي إلى انهيارها أو حلها، ما يفتح باب الفوضى الذي سيقود إلى جهنم. ووصل هذا التبرير إلى حد اعتبار أن عدم إدانة القيادة والسلطة للانتفاضة وعدم منعها التظاهرات في مناطقها نعمة كبيرة وأحسن من لا شيء وأحسن من إدانتها.
لا يا سادة، هذا غير مقبول. صحيح أن تأييد الانتفاضة والتضامن معها مثلما تفعل السويد مثلًا أحسن من إدانتها ومنعها، ولكنه غير كافٍ، ويمكن أن يكون بسبب الخشية من ارتداد الانتفاضة على السلطة، ويمكن أن يؤدي إلى منعها في المستقبل إذا اعتقدت السلطة أن بمقدورها ذلك، ولعل ما حدث في "بيت إيل" وغيره من المواقع من منع المتظاهرين من الاقتراب من الحواجز الاحتلالية جس نبض وبداية لها ما بعدها.
تقول القيادة والسلطة أنها تؤيد انتفاضة شعبية سلمية، ولا ندري ما الذي يمنعها من تنظيم ذلك، لأنها لو فعلت ذلك لن يكون لديها ما تخشاه من تحول الانتفاضة ضدها، وحينها سيشعر الشعب أنها معنية بمقاومة فعّالة حتى لو كانت سلمية، مع أن من حق الشعب الفلسطيني حتى وفق القانون الدولي ممارسة المقاومة بكل أشكالها، بما في ذلك المقاومة المسلحة، ما يعني ضرورة الاحتفاظ بهذا الحق واستخدامه عند الضرورة بقرار وطني، وضمن إستراتيجية وطنية، وفي مجال الدفاع عن النفس دائمًا، وفي كل زمان ومكان.
المقاومة السلمية التي تريدها السلطة مظاهرات داخل المدن بعيدًا عن الاحتكاك بقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، ومثل هذه "الانتفاضة" لا يمكن أن تستقطب الشعب، ويمكن أن يتعايش معها الاحتلال إلى الأبد.
تضم المقاومة السلمية بمعناها الواسع أكثر من مائتي شكل، فهي تشمل كل أعمال المقاومة اللاعنفية، بما فيها أعمال التخريب لكل المؤسسات الاحتلالية، وطرق سيرهم، والبنى التحتية، وتضم تنظيم مظاهرات بالآلاف وعشرات الآلاف، بحيث تكون سلمية وتتوجه للمستوطنات والمستوطنين داخل القدس والخليل وفي كل مكان، ويكون على رأسها قادة الفصائل والسلطة والمنظمة.
كما يمكن أن تتبنى القيادة والسلطة حملة المقاطعة لإسرائيل، وإذا اكتفت في البداية بمقاطعة المستوطنات عملًا وتعاملًا وتجارة فلا يعقل أن يكون هناك استثمار فلسطيني في إسرائيل والمستوطنات، ولا يعقل أن تكون الأسواق الفلسطينية لا تزال رغم إعلان المقاطعة مليئة بالبضائع الإسرائيلية، لا سيما في ظل أخبار متداولة مؤخرًا حول استعداد راعي الاستيطان رامي ليفي لإقامة مجمعات ضخمة بعمل مشترك مع رجال أعمال وشركات فلسطينية، يريد من خلالها كما قال العمل والعيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمن فيهم المستوطنين.
هل نحتاج إلى عدوان آخر على قطاع غزة لتنشيط حملة المقاطعة مرة أخرى. وهنا على السلطة ألا تلوم رجال الأعمال فقط، بل عليها أن تلوم نفسها، لأن القطاع الخاص سيقبل أو سيلتزم رغمًا عنه بأي سياسة تعتمدها السلطة إذا كانت جادّة في تطبيقها ولا تتخذها للاستهلاك الشعبي.
إذا لم ننطلق من أننا في مرحلة تحرر وطني، وأن لا حل على الأبواب، وأن إسرائيل ليست بوارد القبول بتسوية تعطي الحد الأدنى من حقوقهم، وأن المطلوب حماية الوجود البشري الفلسطيني في فلسطين، وتوفير مقومات الصمود، والحفاظ على ما تبقى لنا، وتقليل الأضرار والخسائر، وإحباط المشاريع والمخططات والبدائل الإسرائيلية؛ سنبقى نسير من سيئ إلى أسوأ، فلا يمكن الحفاظ على الوضع الراهن. فما يجري هو تدهور وتآكل كل شيء ببطء، إذ إن النهاية الحزينة لم تعد سوى مسألة وقت، مع أن إمكانيات وفرص تغيير هذا المصير كبيرة كما يظهر من الصمود والعطاء والمقاومة بكل أشكالها التي تخبو حينًا وتكبر حينًا آخر، وتأخذ أشكالًا جديدة، لكنها لا تنقطع، وكما يظهر أيضًا من التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية العادلة، وأشياء أخرى كثيرة تستند إلى الرهان على الشعب الذي أثبت الزمن أنه لا يخذل من يراهن عليه.