نشر بتاريخ: 24/01/2016 ( آخر تحديث: 24/01/2016 الساعة: 11:16 )
الكاتب: فراس ياغي
جهلٌ في البيئه وجهلٌ في الدين وجهلٌ في الواقع وجهلُ الجاهلُ وحتى جهلُ المُتَعلّم والمُثقَف عناوين أساسيه تجتاح الدول العربيه جمعاء، الأميّه تستَفحّل لدى أمة "إقرأ"..القراءة تصل لدرجة العدم أحيانا، ومطالعة الكتب تقترب من الصفر، والممنوع منها كثير، والتخطيط ليس سوى لنشرات الأخبار المُوَجّهه، والتعليم يرافقه عملية تجهيل مرتبطه بطريقة التدريس والأسلوب والمنهج نفسه...فالطريقه تعتمد مفهوم الحفظ الغيبي للماده ودون فهمها غالباً، أما الأسلوب فهو تلقيني يُمنع على التلميذ أن يُعطي وجهة نظر تُعارض المُلَقِن، بل إذا تجرأ وخالفَ المُلَقِن يكون قد تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تؤدي به لعواقب لا يُحمد عقباها...اما المَنهَجْ وما أدراكَ ما المَنهَج فهو نظري سردي محشو بعبارات وجمل وشرح وقوانين وآيات وأحاديث ونص على الطالب أن يحفظه عن ظَهرِ قَلب، مع ضرورة حفظ حتى الفاصله والنقطه وعلامة السؤال والتعجب، الجهل ليس في القواعد بقدر ما هو في الكادر وفي واضعي نصوص المنهاج التعليمي والمجتمع نفسه من جهة، ومن الحهة الأخرى جهل مُطبق بين النظرية نفسها والتطبيق، فكثير مما يَرد في الكتب التعليميه لا يجري إجراء تجربه عليه لإثباته عمليا للتلميذ.
مشكلة المشاكل هي في الفجوة القائمه بين طبيعة نمو المجتمعات العربيه ثقافيا وعلميا وعقليا وبين التكنولوجيا والعَولمه، هذه الفجوة أوجدت بالأساس تيارين، الأول كمبرادوري ناهب لمجتمعه مرتبط بالغرب الرأسمالي الشره ولا يرى سوى الطريقه الغربيه الليبراليه كأسلوب حياة وفي مُختلف الجوانب، فيشجع التقليد الأعمى ويرسل أبناءه للتعلم في الغرب الأمريكي والأوروبي، بقصد التأمرك والتأوْرب، لا بقصد التعلم ونقل تلك الخبرات والتطورات العلميه لمجتمعه، فمثلاً، إحدى الدول العربيه أرسلت ولا تزال مئآت آلاف المُبتَعثِين للدراسه في الولايات المتحده وأوروبا، لكنها لم تقم على الإطلاق بإعادة صياغة المجتمع لديها بما يتناسب ومع فكر المُبتَعثين الجديد، لأن الهدف هو الطريقه الغربيه نفسها أكثر من كونه تطوير وتقدم للمجتمع نفسه، خاصة أن وسيلة الحكم والكادر المحلي لا تتناسب ولا تتوافق مع مفهوم الإبتعاث نفسه، أما التيار الثاني، فهو يحارب كل شيء حتى نفسه، ويعمل بإسم الدين والتقاليد والعادات لحكم الجاهليه، لأنه يريد تطبيق ظروف وطبيعة القرن السابع ميلادي على ظروف وطبيعة القرن الواحد والعشرين، هذا التيار يختبيء في عباءة الدين وشيوخه وفقهائه وعلماءه، وحين تفشل شعاراته أو منهجه يظهر أكثر تطرفاً بإسم التطبيق الحرفي للشريعه، لأنه يعزوا الفشل لعدم تمسك الناس بالدين ولعدم الحكم بإسم الشريعه الدينيه والتي تكون دائما مُطلقه من وجهة نظر حزبه وتياره ومنظمته، والصراع بين "الدواعش" و "القاعده" و "الإخوان المسلمين" وغيرهم واضح للجميع وعبر عقود من الزمن.
إن أساس تطور أي مجتمع مرتبط بالمدرسه والأسره والمجتمع، المدرسه حيث ينصهر الجميع في بوتقة التعلم ليس علميا فحسب، بل وطنيا من حيث مفهوم المواطنه والتساوي والواجبات والحقوق، وبحيث يكون منهاج التعليم متوافق مع تلك المفاهيم، فالمسلم والمسيحي إخوان في الوطن الواحد، والعربي والكردي والأمازيعي والأرمني والشركسي لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، والمذاهب في الدين الواحد مسألة طبيعيه ومطلوبه لإغناء الثقافه والإجتهاد الحقيقي العلمي الواقعي..في حين تتوافق وتتلائم الأسره مع المدرسه من جهة ومع سلطة القانون في المجتمع من جهة أخرى، بحيث يكون هناك إنسجام مُجتمعي نابع من طبيعة التربيه وبما يسمح للسلطة الحاكمه بالتدخل في الأسرة حين تكون طريقة التربيه وأسلوبها يتناقض مع القوانين السائده وبما يسندها تعليميا ومعنويا وماديا إذا تطلب الأمر ذلك...أما المجتمع فيحكمه دستور ناظم للعلاقات وقوانين نابعه ومُشَرّعه من برلمان مُنتَخَب وسلطه تنفيذيه مراقبه من البرلمان والشعب ومؤسساته المدنيه، وسلطة قضائيه مُستقله وقادره ومتمكنه، وإلى جانب كل ذلك السلطه الرابعه التي هي الأساس في مختلف المجتمعات "الإعلام" بكل أشكاله، إعلام مستقل وحرّ وقادر على الوصول للمعلومه التي يجب أن تكون مُتاحه للجميع ووفقاً للقانون نفسه.
في مناطق السلطه الفلسطينيه لا نكاد نجد شيئا يوحي بأننا نضع مؤسساتنا ومجتمعنا على سكة التطور، فالمنهاج المدرسي بحاجة لتغيير جذري في الماده نفسها وفي طريقة التدريس وأسلوبه، فمثلا مادة الدين ومادة اللغة العربيه بحاجة لإعادة صياغه بما يؤسس لمفهوم التعدديه والديمقراطيه وإحترام الآخر، فبدل أن يعرف الطالب من هو "إبن تيميه" والذي هو بحد ذاته مُشكله، يجب أن يتعلم التلميذ أن الدين لله والوطن للجميع، وأن لديه أخوة في الوطن من دين آخر يجب إحترامهم...القصد تعليم الأخلاق كمادة بدل مادة الدين وبحيث تتشكل تلك المادة من مفاهيم موجودة لدى الإسوة الحسنة سيدنا محمد صلوات الله عليه وسلم ومفاهيم "الفرقان العام" و "الفرقان الخاص" الذي يُشكل بمجموعه منظومةً من القيم الإنسانيه الأخلاقيه، في حين اللغه العربيه لا تجد فيها مساحه للإبداع، فلا قصص واقعيه للقراءه مطلوبه من التلميذ تؤدي للنقاش من خلال عرض "سيمنار" مثلا يقوم به كل تلميذ او كل مجموعه، تصور مثلا في إحدى مواد اللغه الإنجليزيه يضعون صورة لفتاة مُحَجبه، بدل أن يضعوا صورتين لمحجبه وغير محجبه، وكأننا نعيش في الباديه والصحراء حيث تغطية الرأس سببها إتقاءً من الشمس أكثر من كونه تشريع ديني في الديانه المُحمديه، خاصة وأن الديانه اليهوديه سبقت كل الديانات في مفهوم التغطيه للرأس والجسد ككل، بل إن ذلك تم جلبه من الديانات الهنديه وأخذه اليهود، إننا نعيش في بلاد الشام وليس في بادية شبه الجزيره العربيه، ومن يريد حياة نجد والحجاز فليذهب هناك، فهذه الشام ونحن جنوبها تمتاز بتعدد المناخ والأديان والإثنيات والثقافات وحضارتها تُشَكّل الجزء الأساسي من تكَوّن الحضاره الإنسانيه في العالم أجمع.
لا تترقى وتتقدّم المجتمعات بالتركيز على تقاليد باليه عفا عليها الزمان، ولا تتطور تلك المجتمعات بدون العلم الذي يجب أن يُسند بنظام سياسي يُخطط لمجتمعه جيدا ويعمل على تطويره وفي كافة المجالات، فالدول المتقدمه تقدّمت بالعلم لا بالفقهاء ومشايخ الدين، بالبحث العلمي لا بالفتاوى المُتخلفه والرجعيه، بالتكنولوجيا لا بالسحر والجِن، بالقراءه ومحو الأميه ليس في القراءه وحسب، بل محو أميه في الكمبيوتر والإنترنت وغيرها من وسائل التكنولوجيا، الدول تقدمت بالمواطنه لا بالقبيله والمنطقة الجغرافيه، للفرد فيها دور مُمَيّز يأخذ مكانه بعلمه وعمله لا بنسبه وعائلته وقربه من ذاك المُتَنَفّذ أو ذاك المسئول، رحم الله الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني القائل "لماذا لم تدقّوا جدار الخزان"...وقتنا أصبح من جهل، والجهل جلب لنا سفك دماء في كلّ البقاع العربيه، الجاهل في الدين يأخذ أيديولوجيته للقتل بإسم رفع كلمة الله، رغم أن الله الواحد الأحد لم يشكو لأحدٍ من عباده ولا يحتاج أحداً منهم لرفع كلمته، قال تعالى: "الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين"، صدق الله العظيم.
زمننا جَهلْ، ووقتنا أصبح جهلٌ في جَهلْ، مكاننا جَهلْ، وإنقسامنا جَهلْ، وإتفاقياتنا جَهلْ، وكلامنا في السياسة والدين جَهلٌ مُطبق، حتى وجودنا أصبح عِبئاً وجَهلْ، يقول "المُتنبي" في الجهل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وأن أمراً لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
وما أشبه اليوم بالبارحة، هذا المثل ينطبق على سكان قطاع غزة، ووصل بهم الحال إلى أن اقتصرت أمنياتهم "معبر مفتوح وكهرباء منتظمة"، ويا ليت أحلامهم البسيطة تتحقق، بعد السنوات العشر العجاف التي سطر خلالها الشعب الفلسطيني أروع معاني الصبر على الألم والمعاناة، وبعد كل هذا يطرح المواطن الفلسطيني الصابر تساؤل بسيط لأولياء الأمور بكافة مسمياتهم ومناصبهم..
ألا يحتاج الوضع الراهن منكم لوقفات مع الذات ؟