نشر بتاريخ: 28/01/2016 ( آخر تحديث: 28/01/2016 الساعة: 11:40 )
الكاتب: د.مصطفى البرغوثي
يمثل الاستعمار الاستيطاني ألاحتلالي جوهرة الفكرة الصهيونية، وقد مر هذا المشروع بثلاث مراحل.
المرحلة الأولى امتدت بعد تبلور الفكرة الصهيونية من أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1947، حيث عمدت الحركة الصهيونية إلى توسيع التواجد والاستيطان اليهودي في فلسطين تدريجيا، ثم استغلت الهولوكوست للدفع بأعداد كبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين.
أما المرحلة الثانية فامتدت من عام 1947 حتى عام 1967 وحققت اكبر انجازاتها عام 1948 بتهجير 70% من الشعب الفلسطيني من قراه ومدنه، وبذلك استكملت الاستيطان والاستعمار بالطرد القسري والنفي بهدف الإحلال في 78% من ارض فلسطين التاريخية.
أما من تبقى من الفلسطينيين وعددهم كان حوالي 250 ألفا فقد اخضعوا للحكم العسكري القاسي حتى عام 1966.
وحيث أن الفكرة الصهيونية بطبيعتها عنصرية، فقد أرست أولا عبر الحكم العسكري، ولاحقا بسلسلة من القوانين وأنظمة التمييز آلية عنصرية ضد الفلسطينيين العرب، رغم إعطائهم الجنسية الإسرائيلية، واهم أهداف ذلك التمييز كان الاستيلاء على أراضيهم وتحويلهم إلى تجمعات سكانية معزولة تقدم قوه عاملة رخيصة للاقتصاد الإسرائيلي.
أما المرحلة الثالثة فبدأت عام 1967 باحتلال ما تبقى من فلسطين والمفارقة هنا أن الانجاز العسكري الذي قدم للعالم كمعجزة بانتصار إسرائيل على ثلاث جيوش عربية ترافق مع بداية الأزمة الحقيقة العميقة للمشروع الصهيوني، بسبب إصرار معظم أبناء وبنات الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضهم المحتلة، بعد أن تعلموا الدرس كشعب وليس كقيادة من تجربة عام 1948 .
وحيث أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني مبني على ثلاثة عناصر، هي الاستعمار والاستيطان ثم الاحتلال ونفي الآخر وتصفية وجوده ولا تكتمل المعادلة إلا بالعناصر الثلاث، فان هذا المشروع واجه أزمة عميقة بعدم قدرته رغم كل المحاولات على نفى الآخر وإخراجه من ارض وطنه.
ولم يؤد فرض الحكم العسكري الشرس إلى حل المشكلة بل إلى تعميقها مع انطلاق المقاومة الفلسطينية بأشكالها المتنوعة، والتي وصلت ذروتها في انتفاضات ثلاث، نعيش اليوم بداية الثالثة منها.
وفي حين واصلت الحركة الصهيونية عملية الاستعمار الاستيطاني فقد عجزت عن طرد الشعب الفلسطيني الذي صمد واستبسل وقاوم محاولات جعل وجوده مجرد تجمع بشري سلبي عاجز عن الفعل و المقاومة كما أرادت إسرائيل.
وتحول الوضع الذي تبلور إلى أسوأ كوابيس مؤسسي الحركة الصهيونية الذين باعوا للعالم فكرة أن إسرائيل دولة ديمقراطية في بحر من التخلف والديكتاتورية.
ومع مرور كل عام من الأعوام التسعة والأربعين منذ وقع الاحتلال كانت إسرائيل تخطوا خطوة جديدة في اتجاه بلورة نظام تمييز وفصل عنصري أسوأ مما كان قائما في نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والذي أصبح اسمه مقرونا بالعار في العرف الإنساني والأخلاقي وحقوق الإنسان.
وبعد ثمانية وستين عاما منذ قيام إسرائيل فإنها تكرست فعليا وعلى عكس ما أراد مؤسسوها كدولة الابارتهايد الأسوأ في التاريخ البشري .
ومع ذلك يناقش العديد من الأكاديميين فكرة الفروقات بين منظومة إسرائيل الصهيونية ومنظومة الابارتهايد في جنوب إفريقيا
وهناك فروقات بالفعل. فنظام جنوب إفريقيا كان استعماريا واستيطانيا ولكنه لم يكن احلاليا ولا سعى لنفي الوجود البشري للأخر بل إلى استغلاله كقوة عاملة وكسوق بعد سلبه أرضه ومصادر ثروته.
أما في حالة الحركة الصهيونية فان مشروعها كان استعماريا واستيطانيا ولكنه إحلالي كذلك بمعنى السعي لطرد الأخر ونفي وجوده (Elimination ) وكان هدف الإحلال أهم من هدف الاستغلال البشري للقوة العاملة التي أستعيض عنها من خلال العمالة الأجنبية.
غير إن صمود الشعب الفلسطيني و مقاومته، وان لم تستطع حتى الآن وقف الاستعمار والاستيطان ، فإنها أفشلت منظومة الإحلال، وجعل ذلك إسرائيل تتورط بعمق في منظومة الابارتهايد والتمييز العنصري.
إن الطابع الاحلالي وان كان يجعل النظام الصهيوني العنصري مختلفا عن نظام الابارتهايد، فانه يجعله كذلك أسوأ وأخس وأشد عنصرية.
أما الفرق الثاني فيتعلق بطبيعة نضال الشعب الفلسطيني ضد منظومة التمييز والابارتهايد.
إن هذا النضال الذي يسعى إلى إلغاء التمييز وتحقيق المساواة في الحقوق لا يستطيع أن يهمل العنصر الوطني وحق تقرير المصير .
ويتجسد ذلك في أمرين :
أولا- حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين هجروا قسرا من وطنهم، إلى ديارهم التي هجروا منها.
وثانيا- إن المساواة لا تعني فقط مساواة الأفراد في الحقوق، كيهود وفلسطينيين، بل أيضا تعني المساواة في حق تقرير المصير للشعوب، ولذلك لا يمكن لأحد أن يقبل فكرة يهودية الدولة لأنها قائمة أساسا على قاعدة نفى الشعب الأخر وتزوير تاريخه وسلبه حق تقرير المصير ولو طبق هذا المبدأ كما يريد قادة إسرائيل في جنوب إفريقيا لأعلن عنها دولة للبيض فقط.
وبالتالي فان النضال الوطني الفلسطيني الذي يأخذ اليوم طابع الانتفاضة الشعبية يجب أن يجمع ويوحد كل الفلسطينيين سواء من يعيشوا في الداخل أو في الأراضي المحتلة أو في المهاجر حول أهداف الحرية وتقرير المصير والمساواة الكاملة في كل ارض فلسطين دون انتقاص من أي من هذه العناصر.
ولعل تبني هذا الفهم يمثل خطوة أولى في اتجاه بلورة رؤية جامعة وموحدة لأهداف النضال الفلسطيني بعد انهيار خيار المفاوضات وفشل أوسلو، وتعاظم احتمالات تلاشي حل الدولتين.