الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

برامج الديموقراطية الأوروبية في فلسطين: مصالح أمنية بثياب ليبرالية

نشر بتاريخ: 31/01/2016 ( آخر تحديث: 31/01/2016 الساعة: 15:52 )

الكاتب: الدكتور أمجد أبو العز

وضع الإتحاد الأوروبي منذ عام 1991 مبادئ نشر وتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح على رأس أولويات سياسته الخارجية. وعلى المستوى القانوني تعتبر هذه المبادئ من الركائز الأساسية للسياسة الخارجية للإتحاد، ولا تخلو المعاهدات الأوروبية الداخيلة والخارجية من مواد تنص على تعزيز الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. ونظرياً يشكل احترام هذه المبادئ شرطاً أساسياً لإستمرار تعاون الإتحاد مع شركائه الدوليين.

ينفق الإتحاد مئات الملايين من ميزانيته السنوية للترويج للديموقراطية وحقوق الإنسان حول العالم. فخلال الفترة ما بين 2007-2013 انفق الإتحاد عبر "الإداة الأوروبية للديموقراطية وحقوق الإنسان (The European Instrument for Democracy and Human Rights (EIDHR) ما يقارب المليار ومائة مليون يورو لدعم ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن وإﺣﻼل وتعزيز اﻟﺪﻳﻤوقراﻃﻴﺔ حول العالم. أضف الى ذلك نحو مليار و300 مليون يورو أنفقتها الدول الأعضاء بشكل منفرد، على رأسها دول شمال أوروبا لدعم تلك البرامج عالمياً. علي سبيل المثال، تنفق بريطانيا ما يقارب 500 مليون يورو سنوياً من ميزانيتها الخارجية على برامج الديموقراطية وحقوق الإنسان. لكن لماذا هذاالحرص على الأوروبي على نشر الديموقراطية؟

هذا الحرص الاوروبي مرده إلى عدد أسباب منها:
• أولاً: ما يتعلق بهوية الإتحاد كونه "قوة ناعمة"يفتقد الى القوة العسكرية لتنفيذ وفرض سياساته، فوجد في الترويج الديموقراطي و تقديم المساعدت المادية والتقنية ضالته تعوضه عن عدم قدرته على التأثير دولياً من خلال القوة العسكرية على غرار الولايات المتحدة. وهذا ما يفسر تسميته "بالعملاق الاقتصادي والقزم السياسي".
• ثانياً: رغبته في إستساخ تجربته في دعم الديموقراطية من خلال نظام العضوية التي ساهمت في ترويض ولايات الإتحاد السوفيتي السابقة وادخالها الحظيرة الأوروبية بشكل سلمي.
• ثالثا: يعتقد مسؤولي الإتحاد أن هناك صلة بين الديموقراطية والنمو الاقتصادي والازدهار والسلام، وأن تحقيق النمو الاقتصادي في أي مجتمع لا يتم إلا بإحترام حقوق الإنسان الأساسية. فلا أمن بدون التنمية، ولا تنمية بدون الأمن.
• رابعا: الاعتقاد ان الديموقراطيات"لا تحارب بعضها البعض، وأنها تولد الرخاء في جغرافيتها."

لكن هل فعلاً يرغب الإتحاد الأوروبي وأعضائه في نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان حول العالم ولا سيما في المنطقة والعربية وفلسطين بالذات؟ الإجابة بدون مواربة وتجميل للحقائق لا. لكن هذا لا يعني "غياب النية" بقدر ما هو غياب الارادة السياسية لتنفيذ برامج الديموقراطية والاصلاح المعلنة.
على الرغم من التصريحات لدعم وتعزيز الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان في فلسطين الا أن الإتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء لم تظهر الإستعداد الكافي لتنفيذ هذه السياسات على أرض الواقع. هذا مرده الى"التفكير البراغماتي المصلحي النفعي"الذي يسيطر على صانع القرار الأوروبي. فصانع القرار الأوروبي يتوجب عليه الإختيار بين الحفاظ على المصالح الأمنية التي تحرص عليها وتروج لها المؤسسات الأمنية الأوروبية بإعتبار هذا التعاون يضمن أمن ومصالح أوروبا وبين دعم برامج الديموقراطية وحقوق الإنسان التي تروج لها المفوضية والبرلمان الأوروبي. يضاف الى ذلك حرص أوروبا على تأمين مصالحها الاقتصادية ومصادر الطاقة، ولعل هذا الصراع على الأولويات بين المصالح الأمنية والتجارية والاقتصادية من جهة، وبين مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان من جهة اخرى يفسر التناقض (Paradox) بين التصريحات العلنية للمسؤولين الأوروبين وبين أفعالهم على أرض الواقع. لا يسع المجال هنا لإبراز التتاقضات الأوروبية على 
المستوى الدولي فهي كثيرة، لذا سيتم التركيز على تحليل برامج وسياسات الإتحاد الاوروبي تجاه فلسطين.

قبل البدء في تحليل سايسات "الدمقرطة الأوروبية" السؤال هو لماذا هذا الحرص الأوروبي على "دمقرطة"الشعب والسلطة الفلسطينية؟ لاشك ان الاسباب التي ذكرها انفاً تنطبق على الشعب الفلسطيني، ولكن ما يمز فلسطين هنا ان الإتحاد الاوروبي يعتقد أن إصلاح السلطة الفلسطينية من شأنه أن يزيد الثقة الدولية وحتى الإسرائيلية بها ويعزز قدرتها على التفاوض بالنيابة عن الفلسطينيين.

خلال الفترة ما بين 1994 الى 1998 تم تخصيص ما يقارب231 مليون يورو لمشاريع المتعلقة بنشر وتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان في فلسطين اي ما نسبته 52% من مجمل المساعدات الأوروبية للسلطة الفلسطينية. وخلال الفترة بين 2002-203 أنفق الإتحاد الأوروبي ما يقارب 7 ملايين يورو لإصلاح وتحديث النظام القضائي الفلسطيني، وإنشاء معهد التدريب القضائي الفلسطيني. وعقد العديد من دورات حقوق الإنسان للاجهزة الامنية بالاضافة الى نحو 16 مليون يورو لبناء مركز التدريب الشرطي في اريحا. وفرض الإتحاد الأوروبي عنصر المشروطية عبر التصريح ان اي انتهاك لحقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية يعطي الإتحاد الحق الكامل لتعليق المساعدات الأوروبية للسلطة في خطوة لدفع السلطة لتطبيق اصلاحات خاصة في الاصلاح المالي والشفافية.

على الارض نجح الإتحاد الاوروبي ودوله في تحقيق بعض من برامجه ولاسيما في ما يتعلق بزيادة الوعي بحقوق الإنسان والديموقراطية وحكم القانون والشفافية واصلاح الجهاز القضائي،والاجهزة الامنية الفلسطينية من خلال الدورات التدريبية وورش العمل بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني. ونتيجة للضغوط التي مارسها المجتمع الدولي على راسهم الإتحاد الأوروبي تبنى المجلس التشريعي الفلسطيني في عام 2003 ميزانية السلطة لأول مرة في تاريخها. وقدم الإتحاد الأوروبي نحو 7 مليون يورو للتحضير للقانون الانتخابي والمناطق الانتخابية الفلسطينية وتدريب الموظفين كما قدم الإتحاد10 مليون يورو لتغطية تكاليف 300 مراقب انتخابي دولي.

وعلى غرار الإتفاقيات الأوروبية مع دول المنطقة بما في ذلك إسرائيل تضمنت المعاهدات والإتفاقيات التي وقعها الإتحاد الأوروبي مع السلطة الفلسطينية سواءً اتفاقية الشراكة لعام 1997، أو خطة العمل الخاصة بسياسة الجوار الأوروبية لعام 2004 الموقعة مع السلطة الفلسطينية مبادئ تنص على أن "تلك الإتفاقيات مشروطة بمدى إحترام اطرافها مبادئ الديومقراطية وحقوق الإنسان".
على الرغم من ان الإتحاد الأوروبي اظهر الرغبة والاهتمام بنشر الديموقراطية والاصلاح في فلسطين وإسرائيل الا انه لا هو ولا اعضائه اظهروا الاستعداد الفعلي لتطبيق تلك السياسات أو فرضها على شركائهم على الأرض. السلوك السياسي للإتحاد الأوروبي وأعضائه يشير الى ان الإتحاد الأوروبي يميل لدعم مصالحم السياسية والامنية والتجارية على حساب التزاماته بدعم الديموقراطية وحقوق الإنسان. الواقعية البراغماتية لآلية صنع قراره جعلت سياسات الإتحاد في هذا المجال ضحية لمصالح الضيقة قصيرة الاجل بالدرجة الاولى وهي المصالح الامنية. كما ان اختلاف مواقف الدول الاعضاء تجاه الإسلام السياسي العائد الى اختلاف دول الاعضاء ومصالحهم وتاريخيهم وهوياتهم بالاضافة الى الاختلاف تجاربهم مع الديموقراطية وعلاقتهم بالاسلام. فالخوف من الاسلام السياسي هو الذي يسيطر على العلاقة بين الجانبين الان.

على الرغم من "اورربة" السياسات الأوروبية (Europeanization ) وعلى الرغم من ان انشاء منطقة التأشيرة المشتركة وازالة الحدود الا ان سياسات الدول الاعضاء اختلاف رؤية الدول الاعضاء تجاه التهديد القادم من منطقة الشرق الاوسط. واختلاف وجهات النظر الأوروبية تجاه نوعية التهديد ساهم بدوره في تعميق الخلاف تجاه البرامج الديموقراطية الأوروبية الموجه للمنطقة.
الدول الاعضاء انقسمت في مواقفها تجاه الديموقراطية والاصلاح الى مجموعتين. المجموعة الاولى: دول الجنوب على رأسها فرنسا واسبانيا وايطاليا الحذرة من دعم الجهود الأوروبية المتعلقة بالديموقراطية لخوفها من تخلق الديموقراطية حالة من عدم الاستقرار يمكن ان تؤثر على أمنهم واستقرارهم بفعل القرب الجغرافي مع تلك الدول .لذا تفضل هذه الدول التغيير التدريجي لان التغيير المفاجئ قد يجلب الفوضى والعنف وهو عكس ما خط له. بكلمات اخرى تفضل هذه الدول تغيير النظمة والتشريعات الداخلية بشكل تدريجي بدل التغير المفاجئ للنظم السياسية ( changing the system rather than changing the regimes). حاجة دول جنوب اوروبا لتعاون دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا في جهودها لمحاربة الارهاب الدولي أحتل أولوية على قائمة اولوياتها، وخفف من المشروطية في التعاون مع تلك الدول لإعتقادها أن العقوبات على انظمة المنطقة قد تأتي بسياسات سلبية معاكسة لاهتمامات ومصالح الدول الأوروبية. وللحفاظ على مصالحها مع دول المنطقة حاولت دول الشمال حذف أي إشارة للترويج الديموقراطي والإصلاح في عملية برشلونه مما دفع دول الشمال الى التهديد بعدم دعم المبادرة في حال غاب هذا البند من عملية برشلونه.
المجموعة الأخرى من الأعضاء تقودها المانيا والسويد والدنمارك وفلندا تظهر اهتماماً أكبر في نشر الديموقراطية واكثر انتقاداً للدول الديكتاتورية والتي تنتهك حقوق الإنسان في المنطقة. تعتقد هذه الدول أن هناك مجال للضغط على الدول الديكتاتورية في المنطقة لتبني إجراءات وبرامج الديموقراطية والإصلاح بدون تعريض المنطقة للفوضى والمصالح الأوروبية للخطر .

فرنسا والخوف على الهوية من الاسلام السياسي.
سياسة فرنسا تجاه برامج الديموقراطية والاصلاح وحقوق الإنسان تجاه المنطقة تعكس هويتها ومصالحها. الاعتداءات التي تعرضت لها فرنسا على ترابها ورغبتها في التخفيف من تأثير الأيدوليوجية الإسلامية المتطرفة على هويتها في ظل وجود اكثر من اربعة ملايين مسلم في فرنسا الغالبية العظمى منهم من شمال افريقيا، دفعت فرنسا لإتخاذ مواقف أكثر تشدداً ضد الدول ذات الطابع الإسلامي الحكم، والاسلام السياسي والاحزاب السياسية الإسلامية، وغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يقترفها حلفائها في منطقة الشرق الاوسط والتخفيف من حدة الانتقادات الأوروبية لأنظمة المنطقة.

على الرغم من الموقف الفرنسي المتشدد تجاه الإسلام السياسي الا ان موقفها تجاه حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين مختلف تماما. لم تفتح فرنسا حواراً مع حزب الله، ولكنها رفضت مقترحات قدمت من أعضاء في الإتحاد الأوروبي لوضع حزب الله على قائمة الارهاب الأوروبية. وفي البداية قاومت فرنسا الضغوطات الأوروبية لوضح حماس على قائمة الارهاب، ولكن نتيجة للضغوط التي مارستها بريطانيا وهولندا استجابت فرنسا ووافقت في عام 2003 على وضع حماس على قائمة الارهاب الأوروبية وذلك بعد العمليات الانتقامية التي قامت بها حماس في تل ابيب بعد اغتيال إسرائيل لاسماعيل ابو شنب. بشكل عام تتبع فرنسا سياسة براغماتية في هذا لملف تقوم على دعم الجهود الديموقراطية مادامت تخدم مصالحها بالدرجة الاولى والانقلاب عليها في حالة معارضة مصالحها. فلسطيناً: عارضت فرنسا قراراً اوروبياً بتعليق المساعدات بعد فوز حماس في الانتخابات البرلمانية لعام 2006، كما رحبت بدعوة موسكو لقيادات حماس لزيارتها واعتبرتها خطوة تدعم عملية السلام. كما عارضت فرنسا سياسات فرض الديموقراطية والاصلاح التي تبنتها الولايات المتحدة كوسيلة لعزل واستبدال الرئيس الراحل أبو عمار، على العكس في بداية عام 2004 دعمت فرنسا الأصوات التي دعت الى تأجيل عقد الإنتخابات البرلمانية معتقدة أن الإنتخابات ستأتي بأبو عمار للسلطة هذه المرة بشرعية أقوى وأكبر. وفيما يتعلق بموقف فرنسا تجاه الإنتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في فلسطين خلال الحروب الإسرائيلية على غزة امتنعت فرنسا منها عدد من اعضاء الإتحاد عن حضور جلسة التصويت على تقرير مهمة تقصي الحقائق التابع للامم الامم المتحدة والذي اعده القاضي الدولي ريتشارد غولدستون.

اسبانيا وصفحة الماضي ومخاوف من دول الجوار.
على الرغم من ان الإتحاد الأوروبي كان لاعباً اساسياً في نقل أسبانيا من الديكاتورية الى الديموقراطية بعد حقبة فرانكوا، الا ان اسبانيا اقل الاعضاء الأوروبين إهتماما أو دعماً للجهود الأوروبية المتعلقة بنشر الديموقراطية والاصلاح في المنطقة. عدم الاهتمام الإسباني مرده الى مصالح اسبانيا القوية مع دول وملكيات في شمال افريقيا. كما اوقفت اسبانيا عدت مقترحات من اعضاء الإتحاد والبرلمان الأوروبي تدعو الى ربط المساعدات المالية الأوروبية بتبني سياسات واصلاحات تعزز الممارسات الديموقراطية في أنظمة شمال افريقيا الأعضاء في منظومة سياسة الجوار الأوروبية. هذا التردد الأسباني عرضها للإنتقاد من قبل دول أوروبا التي أتهمتها بإضعاف موقف أوروبا الجماعي عبر التحالف مع الديكتاتوريات من أجل الحفاظ على مصالحها.

الحكومات الأسباينة المتعاقبة لديها أقتناع أن الاضرار التي قد تنجم عن التخلص من الديكتاتوريات في المنطقة قد تفوق المنافع خاصة في المراحل الانتقالية التي قد تنقل العنف والفوضى للاراضي الإسباينة بحكم القرب الجغرافي. وفيما يتعلق بفلسطين رفضت أسبانيا سياسة عزل الرئيس الراحل أبو عمار التي تبنتها الولايات المتحدة لإعتقادها أن الرئيس أبو عمار يتمتع بالشرعية ومنتخب من قبل شعبه، كما عارضت اسبانيا وضع حماس على قائمة الارهاب الأوروبية. على العكس كانت اسبانيا مع التعامل مع حركة حماس كأفضل طريقة "لعصرنة" الحركة وتشجيعها للإنضمام الى عملية السلام.

الدول الاسكندنافية الاكثر حرصا على حقوق الانسان
بشكل عام تعتبر الدول الإسكندنافية الدول الأكثر دعما والمدافيعن عن الديموقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة والعالم بشكل عام، وهذا الدعم غير مرتبط بالقرب او البعد الجغرافي، ولا تتوانى الدول الإسكندنافية عن انتقاد أو وقف مساعداتها المالية لأي نظام غير ديموقراطي او تسوء فيه حقوق الإنسان. السويد من القوى الرئيسية الدافعة لبرامج الدمقرطة والإصلاح في الشرق الأوسط، وانتقدت القيود المفروضة على حرية الاعلام في المغرب، كما اصطدمت مع المغرب وفرنسا واسبانيا فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية. كما امتنعت السويد عن تقديم الدعم الفني والتدريب للأجهزة الأمنية في الشرق الأوسط. وفيما يتعلق بفلسطين تعتبر السويد من اكثر الداعيمن للقضية الفلسطينية وكثرهم انتقادا لإسرائيل، ومن أبرز الداعيم لبرامج الديموقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان. وعارضت السويد سياسة عزل أبو عمار وحافظت على علاقة جيدة مع حركة حماس، ودعت الى الإعتراف بحكومتها وذهبت أبعد من ذلك حين منحت بعض الوزراء المحسوبين على حركة حماس تأشيرة دخول لأراضيها على الرغم من أن حماس على قائمة الإرهاب الأوروبية.

بلير واصلاح مؤسسات السلطة
بريطانيا: على الرغم من ان حكومة توني بلير العمالية لم تعر نشر الديموقراطية اي اهتمام في البداية، الا ان هذا القضية احتلت اولوية بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر. وفي عام 2003 نظم بلير في لندن مؤتمراً دولياً في لندن لبحث إصلاح الاجهزة الامنية الفلسطينية، والحكم الرشيد والدستوري في فلسطين. وفي نفس العام منحت حكومة بلير السلطة الفلسطينية نحو 50 مليون يورو كحزمة من المساعدات لاصلاح مؤسسلت السلطة ولا سيما الامنية منها، في العام الذي تلاه دعمت حكومة بلير سياسة الولايات المتحدة تجاه عرفات ودفعت باتجاه انتخابات جديدة.

القوة الناعمة الألمانية والحوار مع القوى الإسلامية
كما دعمت المانيا جهود الديموقراطية وحقوق الإنسان لان ذلك يتطابق مع هويتها باعتبارها "قوة مدنية ناعمة " civilian power"على العكس من فرنسا التي اتخذت موقفاً متشدداً تجاه الاسلام السياسي. وابدت المانيا انفتاحاً تجاه فتح حوار مع الحركات الإسلامية كقوة صاعدة يمكن أن تدفع باتجاه التحديث والانتقال التدريجي السلمي للديموقراطية. على الرغم من ذلك لدى المانيا مخاوف كمثلها مثل بقية دول الإتحاد من الاثار السلبية التي قد تنجم عن التغيير السياسي المفاجئ في دول المنطقة، لذا إنخرطت المانيا في المنطقة عبر مؤسسات المجتمع المدني والمشروطية الايجابية والدبلوماسية الشعبية والعامة. لكن "التسامح الالماني" تجاه الاسلام السياسي في الوطن العربي قابله تشدد تجاه الإسلام السياسي في فلسطين، فعلى الرغم من رغبة المانيا واستعدادها للإنخراط في حوار مع الحركات الإسلامية الا أنها رفضت التعامل مع حكومة حماس التي شكلتها بعد فوزها بالإنتخابات كما رفضت التعامل مع وزراء حماس في حكومة الوحدة الوطنية. وقامت المانيا مع عدد من الدول الأوروبية بالتصويت ضد تقرير رتشاريد غولدشتاين بعد حرب غزة.

الاحتلال الاسرائيلي والديموقراطية.
الاحتلال الاسرائيلي يشكل اهم العقبات التي تواجه الجهود الأوروبية لتعزير الديموقراطية في فلسطين، فمن الصعب بناء نظام ديموقراطي تحت الاحتلال الاسرائيلي لكون الاحتلال صاحب اليد الطولى في نهاية المطاف، وابرز مثال على ذلك اعتقال إسرائيل أكثر من نصف أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخبين، وبالتالي فإن عملية الإصلاح والديموقراطية ستظلان رهينتان للإحتلال الإسرائيلي.
المراقب للمواقف والسياسات الأوروبية تجاه الإحتلال الاسرائيلي وانتهاكاته لحقوق الإنسان يلحظ التناقضات بين التصريحات والأفعال الأوروبية على أرض الواقع، ويمكن ارجاع ذلك إلى آلية صنع القرار وتضارب المصالح الأوروبية.

الإتحاد الأوروبي لم يطبق بنود المشروطية التي تعتبر جزء من اتفاقيات التعاون والشراكة مع إسرائيل. هذه البنود تعطي الإتحاد الحق القانوني في تعليق هذه الاتفاقيات في حالة انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان. على الرغم من امتلاك الإتحاد لهذه الادوات القانونية، الا انه لم يستخدمها او يطبقها على الرغم من التقارير الأوروبية التي تؤكد انتهاك اسرائيل المستمر للحقوق الفلسطينية. كما غط الطرف الأوروبي الطرف عن سياسة التفرقة العنصرية ومنع الفلسطينين من استخدام الطرق وسياسة الإغلاق والتدمير الممنهج والمستمر للبنية التحتية الفلسطينية التي بنيت بأموال دافعي الضرائب الأوروبية.
كما أن المؤسسات الأوروبية لم تصف أبداً الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كنوع من انتهاك حقوق الإنسان والديموقراطية. ولم تسمح دول الإتحاد للمفوضية الأوروبية بتعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية الاسرائيلية على الرغم الأصوات الأوروبية التي تدعوا لذلك، أو فرض أي عقوبات على إسرائيل أو إستخدام العلاقات التجارية كأداة لإجبار إسرائيل لتنفيذ التزامتها مستغلة بذلك الفصل بين القرار السياسي والاقتصادي في الإتحاد الأوروبي. لعل عقدة الهولوكست، والمصالح التجارية والعلمية،والحرص الأوروبي على الإبقاء على "شعرة معاوية" مع إسرائيل لضمان مكان لها على طاولة المفاوضات المستقبلية عوامل تفسر السلوك الأوروبي في هذا المجال.

كما أن برامج الديموقراطية والإصلاح أضحت ضحية للإختلاف في سياسات وأولويات المؤسسات الأوروبية نفسها. ففي الوقت الذي ينتقد البرلمان الأوروبي المعُبر عن أراء مواطني الإتحاد إسرائيل بشكل مستمر، يتجنب المجلس الأوروبي المعُبر عن مصالح الدول الأعضاء انتقاد إسرائيل. في عام 2002 دعا البرلمان الأوروبي الى تعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية الاسرائيلية وفرض عقوبات اقتصادية عليها لدفعها لاحترام حقوق الإنسان في فلسطين، في المقابل رفض المجلس الأوروبي دعوة البرلمان على الرغم من ان المادة 2 من اتفاقية الشراكة تنص على "ان هذه الشراكة بنيت على مبدا احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديموقراطية". وعلى العكس قام الإتحاد برفع مستوى علاقاته مع إسرائيل في عام 2008.

ومن ابرز امثلة التناقضات بين مواقف المؤسسات الأوروبية والدول الاعضاء تجاه الصراع، الموقف تجاه التقرير الذي اعدته لجنة تقصي الحقائق بقيادة القاضي غولدشتاين في أعقاب الحرب الاسرائيلية على غزة في عام 2009. ففي الوقت الذي عارض فيه عدد من اعضاء الإتحاد التقرير، قام البرلمان الأوروبي بتبنى التقرير واتهم إسرائيل بارتكاب جريمة حرب في حربها على غزة مما أضعف الموقف الأوروبي.الدول الاعضاء غير معنية في تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان اذا كان ذلك على حساب عملية السلام والاستقرار والمصالح الامنية الأوروبية في المنطقة، أو على حساب علاقاتها مع اطراف النزاع. اي بمعنى آخر الدول الأوروبية لن تتوانى عن اتخاذ سياسات مناقضة لتصريحاتها، اذا رأت ذلك مصلحة عليا لها.

السبب الاخر اوروبا لن تخاطر بالمساس بالقيادة الفلسطينية الحالية مادامت هذه القيادة تعتبر السلام خيار استراتيجياً، وشريكاً حقيقياً لاسرائيل في عملية السلام. كما ان الخوف من حماس وسيطرتها على الضفة الغربية ساهم ايضا في دعم اوروبا للقيادة الفلسطينية الحالية، في ظل رفض حماس القبول بشروط الرباعية وهي الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف، وقبول الاتفاقيات الموقعة مع السلطة.
وكما فعلت مع إسرائيل منعت الدول الاعضاء للاتحاد المفوضية الأوروبية من فرض اي عقوبات جدية على السلطة الفلسطينية خلال الفترة من عام 1994 ولغاية 2006 على الرغم من التهم الأوروبية لمؤسسات السلطة بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان، الا ان سياساتها لم تصل الى حد تعليق المساعدات او العقوبات خلال تلك الفترة لان أوروبا كانت تعتبر الرئيس أبو عمار شريك سلام حقيقي لإسرائيل.

لا شك أن أوروبا هددت الرئيس الراحل اكثرة من مرة بوقف المساعدات الأوروبية، لكنها لم تفعل ذلك لعلمها ان وقف المساعدات لشريك السلام قدم يؤدي الى انهيار السلطة وبالتالي انهيار عملية السلام برمتها. بالمقابل نفذت تهديداتها وقطعت المساعدات عن حكومة حماس لانها لم تعتبرها شريكا في عملية السلام. المعيار الأوروبي بالتعامل مع الحركات والحكومات في فلسطين يعتمد بالدرجة الاولى على موقف هذه الدول او الحركات من عملية السلام، هل تؤمن بالسلام؟ وهل تعترف او ستعترف بإسرائيل؟ وتنبذ العنف.؟ وليس الى اي مدى هي ديموقراطية او كيف وصلت للسلطة. الإتحاد الأوروبي يرى ان الاستقرار والسلام والديموقراطية وحقوق الإنسان يمكن تطبيقهما بعد احلال السلام بين الفلسطينيين والاسرائيلين، ووجود قيادة تؤمن بالسلام، لذا دعمت الرئيس الشهيد ياسر عرفات بإعتباره شريك سلام وكابح لجماح المعارضين للسلام، ولكن بعد فشل قمة السلام في "كامب ديفيد "واندلاع الانتفاضة تولد لدى عدد من دول اوروبا على رأسها بريطانيا وهولندا والمانيا احساس ان أبو عمار لم يعد شريك سلام وتراجعت الثقة فيه واعتبرته عقبة أمام السلام وعقبة امام الإصلاح يجب الخلاص منه. واعتبر عدد من المراقبين جهود الاصلاح التي كانت تروج لها اوروبا بعد قمة كامب ديفيد محاولة لتخطي الرئيس عرفات وتجريده من صلاحياته وقوته ولا سيما المالية والامنية، وابقائه في منصبه كقائد شرعي منتخب ولكن شكلي. بمعنى اخر دعم الإتحاد الأوروبي عمليات الاصلاح الديموقراطي والحكم الرشيد في فلسطين كوسيلة من اجل اضعاف الرئيس الراحل ياسر عرفات والقيادة التي كانت تحيط به والتي اعتبرت في ذلك الوقت عقبة امام السلام.

من ابرز الامثلة على تلك السياسة الضغوطات التي مورست على الرئيس ابو عمار من اجل تعديل القانون الاساسي للسلطة، وانشاء منصب رئيس الوزراء الذي بدروه سيقوم بعمليات الإصلاح في مؤسسات السلطة الفلسطينية. ولاجبار ابو عمار على القبول بمقترح انشاء رئيس الوزراء ربطت الولايات المتحدة تسليم الفلسطينيين "خارطة الطريق" بقبول ابو عمار انشاء هذا منصب رئيس الوزراء ونقل جزء من صلاحياته الى المنصب الجديد. ثانياً، الاصلاح من اجل تقوية الاجهزة الامنية الفلسطينية للقيام بواجباتها والتزاماتها تجاه عملية السلام. ثالثا، الصلاح المالي والرقابة والشفافية هدفت الى عدم وصول المساعدات الأوروبية الى "الايدي الخطأ" ولا سيما ايدي حماس والتي من الممكن ان تستخدم هذه الاموال لدعم عملياتها العسكرية ضد إسرائيل. وبالتالي كان هناك انتقائية في دعم مشاريع الاصلاح على راسها الاجهزة الامنية والشرطية. رابعاً: اصرار الإتحاد الأوروبي على الشفافية المالية للسلطة الفلسطينية ومحاربة الفساد والرقابة فيما يتعلق بالمساعدات الاوربية، ولكنه اغفل الاليات القرار الديموقراطي والانتخابات وحكم القانون. كما ان هناك انتقائية في تمويل المشاريع ومؤسسات المجتمع المدني مستثنين بذلك مؤسسات المجتمع المدني ذات التوجهات الاسلامية. والامتناع عن تمويل مشاريع تعتبر حساسة بالنسبة لشركاء دول الإتحاد في المنطقة على راسهم إسرائيل.

من المفارقات ان المجتمع الدولي مارس ضغوطا على الرئيس عرفات لانشاء منصب رئيس الوزراء، ونقل جزء كبير من صلاحياته ولا سيما الامنية والمالية لهذا المنصب، ولكن بعد فوز حماس بانتخابات عام 2006 وتعيين اسماعيل هنية رئيسا للوزراء مارس المجتمع الدولي ضغوطاً جديدة على مكتب الرئيس مطالبةً اياه بإسترداد الصلاحيات الامنية والمالية من مكتب رئيس الوزراء واعادتها لمكتبه مرة اخرى، وهو ما فسر من قبل عدة مراقبين على ان الاصلاح بمفهومه الأوروبي يعني دعم حركة فتح على حساب حركة حماس. كما فسر نقل الصلاحيات ووقف تحويل الاموال الى وزارة المالية على انها ارتداد وانتكاسه عن سياسات الاصلاح الأوروبية، وما تم نجازه من اصلاحات على مدار العشرين عاما الماضية. كما انه يعتبر دعوة لحماس للتوجه لايران بحثا عن مصادر مالية جديدة لتمويل مشاريعها وزارتها تجنبا للفشل.

بشكل عام اصبحت برامج الديموقراطية والاصلاح ضحية ورهينة للمصالح الضيقة للدول الاعضاء في الإتحاد، التي فضلت دعم الاستقرار على حساب الاصلاح الفعلي والديموقراطية وحقوق الإنسان مما خلق فجوة بين الطموح والتصريحات من جهة والسياسات والفعل على ارض الواقع.
بشكل عام يتجنب الإتحاد الأوروبي واعضائه يتوجيه الانتقادات لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني، ويتجنبون مطالبة إسرائيل بدفع تعويضات لتدميرها مشاريع البنية التحتيةالفلسطينية التي بنيت بأموال اوروبية بحجة ان هذه المشاريع اصبح ملكا للفلسطينيين.. يحاول الإتحاد الأوروبي الموازنةبين اهدفه لتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان والاصلاح من جهة وبين مصالحه الامنية والتجارية والاقتصادية. اي صراع اولويات: صراع من يأتي اولاً؟ هل التنسيق الامني والمصالح التجارية؟ أم مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان؟ أي ببساطة الصراع بين القيم الليبرالية وقيم البراغماتية المنفعية جعل "الإتحاد الأوروبي لاعب واقعي بثياب لبرالية".

برامج الإتحاد ايضا ضحية ايضا للبناء الوظيفي والهيكلي للاتحاد الأوروبي واختلاف الاولويات بين الدول الأعضاء ومؤسسات الإتحاد ففي الوقت الذي يعتبر بعض الأعضاء الديموقراطية أولوية يرى أعضاء اخرين أن المصالح الأمنية والتجارية أهم في المرحلة الحالية في ظل ما تمخص عنه الربيع العربي من حركات متطرفة وفوضى لم تسلم منها معظم دول الربيع. وكأن لسان حال المسؤول الأوروبي يقول الان "تاجر بمتعوكس لا يجيك اتعس منه."