نشر بتاريخ: 01/02/2016 ( آخر تحديث: 01/02/2016 الساعة: 14:28 )
الكاتب: المتوكل طه
يتقشّر الليل بهدوء، أو يتبخّر تدريجياً،ويصعد ما تبقّى من حِبْر شفيف إلى البعيد،وينبلج الصُبحُ بارداً،ونبدو كأننا التماثيل الصّلبة
التي استيقظت بكامل عافيتها.
ونتجاوز البيوتَ الهادئة المطمئنة،ونعبر الطرقاتِ الترابية الملبّدة،
والمفضيةَ إلى الحقول الباذخة، فيآخر ساعات هذا الليل النهاري.
ويكون الزُّرّاعُ والفلاحون، مصحوبينبأولادهم ونسائهم، قد ولجوا الزَّرْع،ولم يتبق منهم سوى الهسيس وصدىالنداءات الخافتة،وخلفهم غيم الطوابين وبخور القمح المخبوز.
ومع انتهاء الضحى، وصعود الغزالةرمحين في السماء، يكون الفلاحونقد أنهوا أعمالهم، وعادوا إلى بيوتهميفيضون بالعرق البارد والخضرة البهيجةوالخيرات العارمة الشهيّة، تواكبهمرائحةُ الأرض والثمر الفّواحة،وخلفهم الحقول المقلّمة بأتلامالغرين المترقّب، كأرحام
العرائس، للبذور المنعوفةبفرحٍ واطمئنان.
وعلى ثيابهم البُقع الخضراء وبقايا الطين العالق،وأجراسُ الدواب التي تخبّ إلى مراقدها.
* * *
في الحقول المتراصّة المرصوفة،تنفرد الأرضُ الحليقة لتوّها،ولم يتبق على وجهها غير العقير النابز،أو صليبة قمح أو شَعير أو حابون حِلْبة أو ذُرة،كأنها أَهرام انفرطت وتعلوبحبوبها اللعوبة .. العابقة!
والبيادر المتفتّحة تشرب رذاذ نجومها الماسيّة.
هنا، ثمة محراث يفترع الأرض فيفتحها ..لتصعد من جراحها الريّانة فحولةٌ تعبّيءُالمدى .
وفي الأعالي الواطئة رفّالشنّار الدارج والسابحفي فضاءات حرير الصّبا.
وهناك؛ القامات المنحنية، كأنها تركع،لتلتقط القرون الخضراء والأزرار الحمراء،أو تجزّ قامات العروق المائسة .
وترى عن كثب؛ رجلاً بفأسه يُجلَّفويحوّط ويُمسِّد، كأنه يرسم لوحة
من التراب المنُقّى، ليَبْذُرأو يزرع، في أحواض ومساكب تشكّلت
كلوحة الشطرنج المالسة..
وحولك مَنْ يملأ حاويات القشأو السلال بأكوام الخضرة والإضمامات،ويرتّبها كالجدائل، ويسوّيها ليظهر أحلاها..
وفي كل الجهات؛ تتناثر المواقد،والأيادي تتحلّق حولها، تأكل وتشرب بحركاتهانئة رتيبة.. وهبوب الزاد في كل مكان.
ويتنادى الجيران، يتعازمون ويدعون بالعافيةلبعضهم البعض.
وتظلّ الحواكير وأعراس الحصاد والزّرع وسحابات الجذورالفوّاحة،
وما سيسكن الجرار والخوابي .. مشهدي الأثير.
وسأذكر، كيف كانت حِزمأشعة الشمس الطازجة تقع صلبة
على الأرض.
فينبسط دثارُ الذهب الغامر،وتتجلّى الزهور البرّية، بلونها الجلّناري
الذي يكاد دمُه ينقط على التراب،وبركان التيجان تتزاحم لتشكل
بساطاً سحرياً يخفق .. كأنهسيطير، دون جدوى !
وتطالعك تجاعيد الجبال الملتحية
الخلاّبة، والحصان المكحّل يصهلفي قلبها الزيتوني، فتعلو نافورة
النثار المضيء.
وكأن الناي يتماوج فيجرح صفحة النابض المتوثَّب الظمآن، والمثخن بزهر النبيذ المُشرقكدوائر النور الملّون.
وعلى ضفاف السناسل المرتّبة، بعنايةأصابع الآلهة القديمة، تشهق حبّات العسل الفتيّ .. والشجر يتنفّس بعطر الصخور.
هنا؛ الجمَال هو صاحبُ هذه الأرض،
أما نحن البشر، فقد كُنّا سكّانها
ليس إلاّ .