نشر بتاريخ: 04/02/2016 ( آخر تحديث: 04/02/2016 الساعة: 13:02 )
الكاتب: د. وليد القططي
يقول الأديب اليوناني الكبير ( نيكوس كازانتزاكيس ) في روايته ( الحرية أو الموت ) على لسان بطل الرواية " عندما اُقاتل في سبيل الحرية طوال حياتي فإني سأموت إذن رجلاً حراً ... إن الرجولة كامنة في الروح وليس في الجسد ... إن الحرية بذرة لا تنمو بالماء وإنما بالدماء وحدها تنمو وتترعرع " . ومضمون الرواية إجمالاً يؤكد أن الحرية لا يمكن أن تُمنح بل تُنتزع انتزاعاً , وإن من يُمنح حريته سيكون عبداً لمن يمنحهُ تلك الحرية , ويظلُ الإنسان حراً طالما يملك إرادته في الكدح نحو الحرية , حتى لو لم يحصل عليها وينعم بها في حياته , ومات مناضلاً في سبيلها فعندئذٍ يصبح حراً بانعتاقهِ من قبضة الطين وجاذبية الأرض .
والأسير محمد القيق يجسّد كل تلك المعاني والقيم من خلال اضرابه المتواصل عن الطعام في السجن معانقاً الشهادة التي توصله إلى الحرية الحقيقية , ومحتضناً الموت الذي ينقله إلى حياة الخلود . وسواء نال حريته وخرج من السجن حياً فقد أصبح حراً عندما قهر سجانه وانتصر على جلاده وحطّم أغلال قيده . أم نال الشهادة وخرج من ضيق الدنيا وسجنها إلى سعة الآخرة وفسحتها فقد أصبح حراً عندما قهر شهواته وانتصر على نفسه وحطّم أغلال جسده . وفوق ذلك فهو حرٌ عندما لم يُعطِ عدوه نشوة النصر عليه , فإن كانوا قد سجنوا جسده فلم يتمكنوا من روحه , ذلك السر الإلهي الذي لا سلطان لهم عليه .
والاضراب عن الطعام بهذه الطريقة الفريدة من الكفاح هو اسلوبٌ حفره الفلسطينيون بدمهم وجوعهم وألمهم , لا يقدم عليه إلاّ أولو العزم من الثوار وأولو البأس من الأحرار , الذين يمتلكون إرادة النصر , ويدركون أن النصر صبر ساعة , ويفهمون فلسفة المواجهة وأسرار الصمود التي تجعل الجسدُ الصغير كبيراً عندما تسكنه روحُ كبيرة , وتجعل الجسم النحيف عظيماً عندما تحرّكه نفسٌ عظيمة ... ومن يمتلك هذه الصفات ومعها الهمة العالية والإرادة الصلبة والعزيمة القوية يصبح حراً حتى لو غيبه السجن أو القبر , وسيان بعد ذلك إن عاش عزيزاً حراً أو مات شهيداً حراً .
وعندما ينتزع الأسير حريته من بين فكي عدوه ولم يستجديها منهم , فكأن لسان حاله يقول لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد , أن النصر ليس هبة مجانية أو منحة إلهية , كما أن الهزيمة ليست قدراً لازماً أو مصيراً محتوماً . فللنصر أسبابه وسننه كما أن للهزيمة أسبابها وسننها . فالنصر يبدأ بقوة الإيمان بالله واليقين بنصره , ثم عمق الإيمان بالقضية والثقة بعدالتها , ومن بعد ذلك امتلاك ارادة النصر والتحلّي بأخلاق المنتصرين , وعزيمة الأحرار وروح الثوار ... والهزيمة تبدأ بضعف الإيمان بالله والشك في نصره , ثم سطحية الإيمان بالقضية وعدم الثقة بعدالتها , ومن بعد ذلك فقدان إرادة النصر والتخلّي عن أخلاق المنتصرين , وتسلل الوهن إلى النفوس والفتور إلى الروح والاسترخاء إلى الهمم والفساد إلى الأخلاق .
وعندما يصنع الأسير من جوعه حريته ومن ألمه فرحه ومن معاناته عزته , فكأنما اُختزلت أرواح شعبه في روحه لتصبح روحاً واحدة جبارة ثائرة لا يوقفها أحد حتى تحط رحالها وتصل إلى مبتغاها : الحرية بالشهادة أو الحرية بالخروج من السجن . هذا الشعب العظيم الحر الذي يقدّر رموزه الوطنية ويحترم قادته من الشهداء والأسرى وغيرهم يميز بين هؤلاء وبين قادة النضال المكيّف من فئة الخمسة نجوم الذين تطاولوا في البنيان , وقادة كل الأزمنة والأنظمة ممن يجيدون فن البقاء ومهارة التسلّق والارتقاء , وقادة الردح السياسي المتبادل عبر شبابيك فضائيات الفتنة وقنوات الفُرقة . هذا الشعب الذي سكنت روحه روح الأسرى المضربين عن الطعام جديرٌ بقيادة تبصّره بواقعه دون تهويل أو تهوين , وتبشّره بمستقبله بعيداً عن الوهم أو اليأس , وتصنع فيهم القدرة على الفرح رغم الألم , وتعمل لتخفيف معاناتهم وهي تسير بهم نحو التحرير والعودة والاستقلال .
وأخيراً لم يكن الأسير محمد القيق بدعاً من الثوار الذين سطّروا بجوعهم وحفروا بألمهم أروع صفحات النضال الفلسطيني , فقد سبقه آخرون ويرافقه الكثير وسيلحقه المزيد من أحرار هذا الشعب العظيم المعطاء الولاد بالرجال الأماجد والنساء الماجدات حتى يأذن الله تعالى بالنصر المبين . أما ثوار منتصف الطريق ومقاتلو النفس القصير ومعهم فلاسفة الهزيمة واللاهثون وراء الوليمة فإلى زوال .