نشر بتاريخ: 07/02/2016 ( آخر تحديث: 07/02/2016 الساعة: 10:40 )
الكاتب: د. حسن أيوب
يحدثني صديقي، وقد تجاذبنا أطراف سيرة ما يجري في "قباطية" التي تحاصرها دبابات الاحتلال منذ أيام، بأن بلدتهم القريبة تهتز بيوتها وكذلك مسجدها من وقع الاليات العسكرية وهي تنتهك "قباطية"، ولا زال بوسع الإمام في بلدة صديقي أن يلقي خطبته يوم الجمعة -ومنبره يهتز- عن حرمة قتل النفس بغير وجه حق! ذكرني بخطبة جمعة قبل سنوات وفي أوج العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عندما انبرى الأئمة في مساجد الضفة لبيان الحرام والحلال في لباس البحر والسباحة. في الحالتين يظهر جليا كيف يستخدم منبر الجمعة لرسم أولويات الرأي العام في قالب ديني في إطار الحلال والحرام، وحسب ما تراه السلطة السياسية ملائما لأجندتها. إن التناقض المرعب بين الواقع المعاش وبين الخطاب الذي يقدم للناس بغلاف ديني هو أبرز مؤشرات العجز عن مجابهة هذا الواقع من جهة، وعلى محاولة تبرير سلوك لا يمكن تبريره، وهو في هذه الحالة سياسات السلطة الفلسطينية، من جهة ثانية. يهمني في هذا السياق أن اختيار عنوان خطبة الجمعة يأتي على خلفية اتهام د. عبد الستار قاسم بأنه يدعو إلى قتل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو ما قاد إلى اعتقال الدكتور وتقديمه للمحاكمة.
منذ اللحظة الأولى التي أعقبت تصريحات الأستاذ الدكتور عبدالستار قاسم حول مطالبته بتفعيل القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي لا أتفق معه بشأنها لأسباب مبدأية تتعلق بفكرة اللجوء للقضاء الثوري بتفاصيله كوسيلة لحسم الخلافات السياسية، ولأسباب عملية إذ لا أرى بأن ذلك كفيل بأن يخرجنا من المأزق التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية، ولن ينهي تفرد القيادة الفلسطينية بالقرار السياسي ولا انتهاكها لأنظمة المنظمة وقرارات مؤسساتها وللقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، وبخاصة فيما يتعلق بالتنسيق الأمني والمفاوضات. منذ اللحظة الأولى لهذه التصريحات تجندت المنظومة الرسمية للسلطة الفلسطينية ممثلة بتلفزيون فلسطين للرد على د. قاسم وكأنها في مواجهة خطر وجودي، أو حركة تمرد، أو منظومة متكاملة من التهديدات، فكان رد هذه المؤسسة أقرب إلى الهستيريا، وأكثر خطرا وأشد تأثيرا على "الشعور القومي"، وعلى "هيبة الدولة" من تصريحات د. عبدالستار (هذا جزء من التهم الموجهة لعبدالستار قاسم).
استدعى تلفزيون فلسطين سماحة وزرير الأوقاف ليرد على تصريحات الدكتور قاسم، وبدون مقدمات أو مبررات حولت مقدمة البرنامج ومعها سماحة الشيخ كلام الدكتور من رأي سياسي (بغض النظر عن مقدار صحته) إلى فتوى بقتل الرئيس تحتاج إلى فتوى مضادة تبطلها، وإلى فتوى أخرى تبيح قتل الدكتور قاسم: ألم يقل سماحة الشيخ بأن الدكتور إذا قُتل بسبب ذلك سيقتل قتلة الجاهلية بحكم أنه أثار فتنة؟ ألم تقل المذيعة الفاضلة وهي تقرأ عن ورقة معدة سلفاً بأن ما فعله الدكتور قاسم "خروج على الإمام" حكم الشرع فيه أن يصلب وتقطع أيديه وأرجله من خلاف (ما يعرف بحد الحرابة)؟ دعك من أن تلفزيون فلسطين يريد أن يعيدنا إلى عصور بائدة في لغة وفي علاقات السياسة، فإن ما قامت به هذه المؤسسة الرسمية هو عملية تهييج خطير للرأي العام وزج للدين والفتوى في شأن سياسي، يجعلنا لانختلف في شئ عن بعض النماذج المرعبة التي نراها في محيطنا العربي. ألا تسهم مؤسستنا الرسمية بذلك في تعزيز فرص انتشار الأفكار والأساليب الداعشية في التعامل مع الاختلاف في الرأي. فإذا كان د. قسام كفرد قد "ضبط متلبسا" بالدعوة للقتل (وقد نفى الرجل ذلك بوضوح) فإن تلفزيون فلسطين وهو مؤسسة رسمية ومعه السيد الوزير قد تورطا في ذلك. هذا يذكرني بدعوة شيخ الأزهر منذ عام مضى بتقتيل وتقطيع أوصال الدواعش من خلاف ردا على جريمة إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة. أين ذهبت سماحة الإسلام؟ وما الفرق إذا بين داعش وبين شيخ الأزهر؟ ونأتي بعد ذلك مولولين متسائلين كيف ينتشر التفكير الداعشي؟ والأنكى أننا (دولة فلسطين) قد دخلنا في تحالف إقليمي لمحاربة الجماعات الإسلامية الإرهابية المتطرفة!!!!
اعتقل الدكتور عبدالستار قاسم من منزله وتم تمديد حبسه لمدة خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق في تهم منسوبة إليه من قبل مواطنين من بينها التهمتين المذكورتين أعلاه. أيهما أكثر مسا بالشعور القومي وهيبة دولة ينص قانونها الأساسي على أن نظامها هو نظام ديمقراطي تعددي يقوم على مبدأ سيادة القانون (المواد 4،5،6) فرد/شخص مارس حقه في التعبير عن رأيه، أم مؤسسة رسمية ردت عليه بعقد ما يشبه محاكم التفتيش؟ في الأوضاع الاعتيادية، سيقرر القانون إذا ما كان عبد الستار قاسم كمواطن قد خرق أي من القوانين السارية وهو يمارس حقه في التعبير، فمن سيحاسب تلفزيون فلسطين على مسه الخطير بالحقوق الدستورية لعبدالستار قاسم، ولاستغلاله المؤسسة الرسمية في غير وظيفتها، ولتشويه الصورة الديمقراطة للنظام السياسي الفلسطيني؟
استمر تلفزيون فلسطين في استضافة المتحدثين حول ذات القضية، وذهب بعض المتحدثين إلى حد الزج باسم المؤسسة الغراء التي أنتمي إليها (جامعة النجاح الوطنية) مطالبا -ولو بشكل مبطن- بأن يكون لنا موقف. وهذا بالأساس ما دفعني للكتابة، بخاصة بعد اعتقال زميلي وأستاذي د. عبدالستار. وهنا أنا لا أتحدث سوى باسمي. فإن كنت لا أتفق أبدا مع ذلك الجزء من تصريحاته المتعلق بتطبيق القانون الثوري لمنظمة التحرير فإنني أجد بأن تجنيد منظومة بأسرها لمحاربة ومحاكمة الرجل هو من الخطورة بمكان على حرية التعبير وعلى الديمقراطية الفلسطينية، خاصة بأن اعتقال الدكتور قاسم وتمديد حبسه قد استندا إلى تهم تعد في القانون الفلسطيني (حسب لائحة الاتهام) جُنح يمكن لأي متدرب في القانون أن يخبرك بأنه لا يوجد أي سند لمحاكمته عليها أو تمديد حبسه بسببها.
إنه اعتقال سياسي يلبس ثوب القانون اعتباطا سبقه ورافقه تجنيد هائل لمنظومة متكاملة في مواجهة رجل واحد وصلت إلى خطبة الجمعة. فهل المستهدف هو رجل واحد؟ أم أننا أمام رسالة بليغة موجهة إلى "كل من يهمه الأمر" بأننا أمام منعطف ندخل فيه مرحلة جديدة من علاقة السلطة بالرأي العام وحدود المسموح والممنوع في التعبير عن الرأي، ربما برزت ملامحها في بعض مظاهر المساندة لتصريحات رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج والتحذير بعيد النظر والحكيم الذي أطلقه محافظ نابلس بهذا الشأن عبر صفحته على الفيس بوك. لا أريد أن أقرأ أكثر من اللازم في كلام الأخ أكرم الرجوب ولكن نُذر "يعقوبية" من نوع خاص تلوح في الأفق.