الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

تحليل السياسات العامة في فلسطين بين الواقع والمأمول

نشر بتاريخ: 09/02/2016 ( آخر تحديث: 09/02/2016 الساعة: 14:50 )

الكاتب: فراس مرار

أثناء مطالعتي لقرارات مجلس الوزراء الفلسطيني على صفحة المجلس الرسمية على شبكة الإنترنت الأسبوع الماضي أدركت حجم المشاكل الملقاة على طاولة مجلس الوزراء، ما بين الصحة والتعليم والأمن، وتنظيم المؤسسات العامة، وترشيد الإنفاق العام في ظل غياب الموارد ومشاكل العجز في الموازنة العامة، ولست أدري إن كان لدي القدرة على تحليل الواقع الصعب الذي تعيشه عملية صنع السياسات العامة في وطننا المحتل الطامح لبناء دولته والاستقلال والانعتاق من الاحتلال، 

وقررت أن أتناول كباحث في مجال الإدارة العامة،طبيعة تحليل السياسات العامة في فلسطين وأهمية وجودها وضرورة تطويرها وإعطائها الدور المطلوب في دورة صنع السياسات العامة، انطلاقاً من كوني قد أنهيت متطلبات مساق تحليل السياسات العامة الأول في درجة الدكتوراه بجامعة القاهرة على يد أحد أعمدة تحليل السياسات العامة في الوطن العربي د.سلوى شعراوي جمعة، والتي أتيح لي من خلالها التعرف على المعنى الرصين لمفهوم السياسة العامة، والذي عرفته على أنه" مجموعة من القرارات التي تتخذها الدولة، بهدف حل مشكلة عامة، تواجه قطاع عريض من المواطنين وغالباً ما تكون هذه القرارات على شكل خطط أو قوانين أو برامج"، كما أدركت ماهية دورة صنع السياسات العامة بدءاً من المبادأة و طرح السياسات و تحديد الاولويات مروراً بالصياغة واتخاذ القرار والتنفيذ وانتهاء بتقويم تلك السياسات، كما تم التعرف على كيفية تحليل السياسات العامة والتطبيق العملي على بعض مشاكل السياسات العامة على المستويين العالمي والإقليمي والمحلي، ولست هنا بصدد الحديث عن آلية صنع السياسات العامة والتي ترتبط بالقوى والمصالح والشبكات المؤثرة على الصعيد المحلي والدولي والإقليمي، والتي ربما ستكون عنوان لمقالة أخرى تولد لاحقاً.

وعوداً على ذي بدء وبعد الاطلاع على قرارات مجلس الوزراء الفلسطيني بتاريخ 21/1/2016، وبملاحظة آخر عشرين قرار صدر عن اجتماعات المجلس الاسبوعية، وبتصنيف بسيط، لاحظت أن هذه القرارات تضمنت إحالة ثلاث مشاريع قرار بقانون الى سيادة رئيس دولة فلسطين (في ظل غياب المجلس التشريعي)، وتمثلت في قرار بقانون الموازنة، وقرار بقانون الشرطة الفلسطينية، وقرار بقانون بشأن تعديل قانون الشراء العام رقم 8 لسنة 2014، في حين أن خمسة من القرارات العشرين كانت بتشكيل لجان مختلفة بشأن بعض الأزمات والمشاكل المختلفة التي تهم المواطن الفلسطيني وكان منها أزمة معبر رفح، والابتعاث الإعارة لموظفي الخدمة المدنية وغيرها من المشاكل المطروحة على طاولة المجلس، أما القرارات الاثنى عشر المتبقية فتمثلت في قرارات مجلس الوزراء بالموافقة على مقترحات بشأن مواضيع حيوية أخرى تمس المواطن الفلسطيني والمؤسسات العامة.

ان هذا الاستعراض الموجز كان لإيصال فكرة مفادها أن هناك حجم كبير من الملفات المنظورة أمام مجلس الوزراء، وإن هناك آليات للعمل، تمر فيها معالجة هذه الملفات أو المشاكل، ومن هذه الاليات تشكيل لجان للدراسة وتقديم التوصيات من الاطراف ذات العلاقة بالمشكلة، وربما أن هذه الآليات ليست بالسهلة، حيث أنها تزيد من أعباء العمل على المشاركين في تلك اللجان من موظفي الدولة وتضاعف من الجهد والوقت المبذول، وتقلل من سرعة الاستجابة لحل المشكلات واتخاذ القرار بالكفاءة والفاعلية المطلوبة، وهنا تأتي أهمية دور عملية تحليل السياسات العامة أو وظيفة محلل السياسات العامة، والتي عرفها وليام دن بأنها "عملية تهدف الى توفير المعلومات اللازمة عن/ في صنع السياسات العامة"، فهي عملية حيوية تهدف الى تقديم المعلومات اللازمة لصنع السياسات و تحسين عملية صنع تلك السياسات، وبمعنى أكثر وضوحاً هيعملية توفير المعلومات اللازمة لصانع القرار حول مشكلة تهم قطاع عريض من المواطنين ليتسنى لصانع القرار اتخاذ القرارات اللازمة لحل هذه المشاكل، فتحليل السياسات العامة ليس "برستيج" أو ظاهرة تعبر عن التقدم والرقي، بل هي عملية حيوية تهدف الى دعم صانع القرار في اتخاذ القرار على اساس سليم مراعياً الاعتبارات الاخلاقية والقيمية، فهي تبدأ بالتحديد الجيد للمشكلة وتقدير الموقف الرصين ، ومن ثم وضع قائمة بالبدائل، والمفاضلة ما بين هذه البدائل وفق اسس متعددة كالتكلفة والعائد والمخاطر وتحقيق العدالة وغيرها من المعايير، وتنتهي بتقديم التوصيات لصانع القرار ليتخذ القرار على أساس معرفة كاملة بكافة الابعاد والظروف والتداعيات، وليس ليعيد إحالتها الى لجنة قد تستغرق وقتا وجهداً وتغيب فيها الضمانة الحقيقية للمعرفة والتخصص، 

ومن هنا أبدأ بتحليل الواقع الموجود لتحليل السياسات العامة في فلسطين، فأين هي عملية تحليل السياسات العامة في فلسطيين، وهل هناك جهات تقوم بتحليل السياسات العامة(بشكل فعلي) قبل صنعها ودخولها حيز التنفيذ؟ وسؤالي هنا ليس تهكمياً أو استنكارياً، وكوني هناك أتحدث بلغة الباحث المهتم، فالطريق أمام إثبات الوجود للعملية من عدمه يكون عبر طريقين لاثالث لهما، الأول هو البحث المتعمق ومعرفة الجهات والمؤسسات أو الأفراد الذين يمارسون دور محلل السياسات العامة، وتناولهم بالدراسة وهذا ربما يكون موضوع بحث أو ورقة عمل مستقبلية، والطريق الآخر هو الاستدلال عبر ملاحظة المؤشرات الدالة على وجود تحليل السياسات العامة من عدمه، وهو ما يتوائم مع هدف هذه المقالة، حيث أن هناك بعض المؤشرات التي بالإمكان النظر إليها:

• القرارات بقوانين المحالة الى رئيس دول فلسطين للتعديل في مجملها قرارات حديثة، وفي العينة التي تناولتها هذه المقالة، نرى أن تعديل قرار بقانون الشراء العام الذي قد صدر في العام 2014 لم يتجاوز العامين على إصداره، وهنا نحن نتحدث عن قانون ليس له علاقة بسياسات عامة عالمية أو التزامات دولية اقتضت هذا التعديل السريع، بل نتحدث عن تشريع ينظم شؤون محلية"سياسة محلية"، فما الذي استدعى تعديله بعد أقل من عامين على الاصدار، الإجابة تتمثل في أن المعلومات لم تكن كاملة أمام صانع القرار أو واضحة، وان التطبيق العملي للقانون بعد الإصدار أظهر وجود بعض الاشكاليات أو جوانب النقص، وهذا ان دل على شيء يدلل على غياب عملية تحليل السياسات العامة، فلم يقم أحد بتحديد المشكلة وجمع المعلومات الكاملة عنها، ويقترح البدائل بعد المفاضلة ما بينها على اسس ومعايير واضحة أو حتى يشارك في عملية الصياغة لهذه التشريعات الهامة، بما يمكن صانع القرار من اتخاذ قراره بشكل سليم وعلى أرضية صلبة.

• اللجان المنبثقة عن مجلس الوزراء، إن وجود هذه اللجان أو تشكيل لجان متخصصة لدراسة مشكلة ما وتقديم بدائل لحلها ليس أمراً سيئاً، بل خطوة في الاتجاه الصحيح اذا ما تكاملت عناصرها، ومشكلة اللجان لدينا أنها تجمع ممثل عن الوزارة أ، وممثل عن الوزارة ب،وممثل عن مجلس الوزراء، وممثل عن جهة أخرى، ويجب التأكيد على أن هذه اللجان عليها أن تراعي صفة التخصص الى جانب صفة التمثيل، فالمعرفة الفنية والادارية معاً تثري عملية دراسة البدائل والتحديد الدقيق للمشكلة الذي يمثل نصف الحل، والمسألة الهامة الأخرى في تشكيل تلك اللجان غياب الفاعلين الآخرين، أو ما أصبح يعرف بمفهوم الشبكات، فدراسة المشاكل وصياغة الحلول في أكثر دول العالم تقدماً لم يعد مسند الى القطاع العام وحده، بل تشترك فيها النقابات والمجتمع المدني والمراكز البحثية والاحزاب والمؤسسات النشطة على المستوى المحلي والمهتمة بالقطاعات المختلفة وأصحاب المصالح، حيث أن وجود هذه الشبكات يعطي شرعية أكبر للقرارات المتخذة ويمنحها قبول شعبي من خلال ما تقوم به من ترويج والتفات الى القضايا التي تهم عامة الشعب وتلامس طموحاته، وتستند هذه المشاركة الى قاعدة أن تحقيق المصلحة العامة هدف من حق الجميع المساهمة في تحقيقه، خصوصاً في ظل غياب دور المجلس التشريعي الفلسطيني.

وانطلاقاً من تفاؤلي بأننا يجب أن نسير في الاتجاه الصحيح لبناء مؤسسات الدولة، فلا بد أن يوجد لدينا تحليل سليم وناجع للسياسات العامة، يمكِن من صنع السياسات العامة بشكل يلبي طموحاتنا، من خلال الخطط والقوانيين والبرامج الفعالة التي يصدرها أويقدمها مجلس الوزراء للإصدار من قبل رئيس الدولة، وانطلاقاً من ضرورة تصحيح المسار باتجاه التحول من علاج المشاكل الى الوقاية من المشاكل ، أرى أن هناك مجموعة من الجوانب التي ينبغي دعمها للنهوض بعملية تحليل السياسات العامة وإعطائها الدور الحقيقي اللازم، على النحو الاتي:

- ينبغي أن يكون هناك وحدات متخصصة في الوزارات الفلسطينية المختلفة، تعني بتحليل السياسة العامة المتعلقة بالقطاعات التي تشرف عليها كلوزارة، وهنا حتى نكون واقعيين في ظل غياب الموارد، بالامكان البدء بوضع توصيف وظيفي لمهنة محلل السياسات العامة في تلك الوزارات، على أن يتم وضع خطة لتدريب وتأهيل من سيكونوا نواة لتلك الوظيفة مستقبلاً.

- ضرورة ايلاء أهمية على الصعيد الأكاديمي، لموضوع تحليل السياسات العامة، لدى الجامعات الفلسطينية، بدءاً من تلك التي لديها تخصصات رئيسية أوفرعية في مجال الإدارة العامة، حيث أن ذلك يمثل نقطة تواصل ما بين الخريجين وما بين هذا الحقل الهام في الإدارة العامة، ليكونوا على معرفة علمية عند حصولهم على وظائف عامة مستقبلا.

- ضرورة ايلاء اهتمام خاص من قبل الحكومة الفلسطينية، لمؤسسات المجتمع المدني، والتي بالامكان الاستفادة منها في عملية تحليل السياسات العامة في القطاعات الصحية والتعليمية والاجتماعية والمالية، وخصوصاً في مرحلة الصياغة في ظل غياب المجلس التشريعي منذ عقد من الزمان.
وأجد لزاماً علي أن أوضح أن حال وواقع تحليل السياسات العامة في فلسطين صعب وبحاجة الى تأسيس وتطوير، وإن الأراء التي تقول بأن حالنا في مجالات معينة أفضل من حال بقية الدول العربية لا تنطبق في هذا المجال، فإن العديد من الدول العربية قد قطعت شوطاً في مجال تحليل السياسات العامة، وتقيم الندوات والمنتديات وتصدر المؤلفات التي تناقش هذا العلم ما بين الواقع النظري والتطبيق العملي، وأتمنى أن تكون فلسطين رائدة في هذا المجال كما كانت ولا زالت رائدة في النضال الوطني عبر التاريخ.