الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

هيكل.. خجل التأريخ في حضرتك

نشر بتاريخ: 17/02/2016 ( آخر تحديث: 17/02/2016 الساعة: 16:12 )

الكاتب: عبدالله بدران

عبد الله بدران، مراسل قناة الميادين في العراق، غطى عدداً من الأحداث في الوطن العربي سياسية وعسكرية، دراسات عليا في الأدب العربي -جامعة بغداد
أخاطبك أنت، لأنك لم تمت، بل غادرت عالمنا إلى ذمة الله، وعزاؤنا أن فينا بعد رحيلك من حمل لوائك، وعزاؤنا أنك ظللت مصيباً في رؤياك، وعزاؤنا أنك باقٍ في التاريخ تحدثنا وتحدث الاجيال بحقائق اللحظة وحقائق التاريخ، وأن سيرتك كنسيمٍ اهدأ من عواصف الحرب، وعواصف السلام المزيف، وأنك كتبت في حياتك مستأذنا الانصراف كمحارب تمنى الترجل من صهوة جواده.

لقد كنت اروع لحظات عمرنا، ولا زلت
لقد كنت اروع لحظات عمرنا، ولا زلت
صحيح أن وقائع التأريخ الكبرى لا تهبط على المواقع مثل المظلات كما قلت أنت، لكنك وإن كنت شيخاً، فإن نبأ وفاتك هبط كالصاعقة. لكأنك توفيت وأنت ذاك الشاب عندما كتب زيارة جديدة للتاريخ أو كلام في السياسة.

بقيت ذلك الصحافي الذي ألهم القوميين، وكان نموذجاً فريداً ليساريين ولرجل دولة وصحافة، كشف الحقيقة وقدمها سهلة سلسة، مشوقة، بصياغات ووثائق ومعلومة صحافية.

إسمح لي في حضرة مقامك أن استعير منك وإليك، رحلة محبيك من جيل أحفادك بدأت من كتابك عن فلسطين وعن خريف الغضب وكشفك مفاوضات الخيانة مع إسرائيل، الهمت يوم كتبت عن الرصاصة التي انطلقت من صدر الاسلام، واستقرت في قلب القرن العشرين. تجاوزت أبعادك بإبداعك. لم تجامل يوم أرادوا الاساءة لك، بعدما أرادوا لنا فهماً جديداً لعروبة ما بعد الثورات العربية، علمت وأدركت فكتبت وانتقدوك، فقلت متواضعاً، مستقبلي اضحى من الماضي، وأنا ادرك أن القادم أقل بكثير مما مضى، ولذا فإنني أحسب الكلام وآثاره، وأدرك الواقع ومآلاته، ولست اليوم من يقدم عبد الناصر مجملاً ومجاملاً، بقدر هدفي في أنه نموذج وأمة، وفكرة، وقرار، وأن ربيع العرب ليس هذا.

ليس سهلا أبداً رثاؤك، وليس سهلاً أبداً أن نضع في دفتي كتاب ما نرسمه من صورتك عندنا. أنت تأريخ لوحدك، شكلت ما لم يشكله غيرك من اثر حفرته، بقرار اتخذته يوم أرادوا تصفية ناصر بعد وفاة ناصر، ويوم أرادوا لك أن تحسب على نظام وأفكار لم تؤمن بها، فلم تهادن، وكنت بوزن اسمك وتاريخك في الصحافة والسياسة، وكنت كما انت، ناجحاً في معركة الضمير، منتصراً في حرب الاعصاب التي قادها الموتورون وما أكثرهم في وطننا العربي. وما اقسى ما عانيته منهم، بل إن نضالك في الكلمة والموقف، حتى آخر لحظات عمرك، تفرض على من هم في ضفة المختلفين معك، أن يعيدوا قراءة الاحداث، وأن يزوروا التأريخ من جديد.

قلت في ما قلت أنت، إن دورنا في تقرير مصائرنا بالكاد بدأ، وخطواتنا فيه قرب المداخل، لكنك أنت دخلت التاريخ، وتركت الباب مفتوحاً لك وحدك، بقيت مصارعاً لتأريخ الامة، واستللت سيف الحق من صحافتها للدفاع عنها، لأنهم ارادوا لها ان لا تبقى خير امة، وكنت انت البوصلة لمن اراد ان ينسينا من هي هذه الامة.
كنت وستبقى نموذجاً لبطل على هذا التأريخ، وهذه الصحافة التي قدمتها، اقتربت من كل صنّاع القرار العربي يوم كانوا يصنع عندنا، فأبعدك طهرك عن أدواته يوم صار القرار يأتينا مغلفاً من خلف الحدود، لا السياسة ابعدتك عن الكتابة الصحافية، ولا الصحافة حرفتك عن تقديم النصح واخذ الدور وأداء المهمة بأمانة في السياسة، فكنت صحافياً بأمانة حملتها وقدمتها بمعلومة اقتربت منها وأدركتها إن لم تكن من صانعيها، وكنت اميناً في مهام جسام حملتها ولم تغرر بك هذه المهام لتبعدك عن الصحافة.

سبحت بحرية طوال قرن إلا سنون شاءت الاقدار أنك لم تكن فيها، لا مولوداً، ولا مغادراً، وكنت قريباً من الحدث واثاره، فحللت وقيمت فأصبت، وأنت نفسك من قلت يوم كتبت، إننا ننزلق نحو الغروب لنفسح مجالاً لحقب أخرى، نهايتها مع القرن العشرين، وهو أخطر قرون في تاريخ الانسانية، لأنه ينقلنا إلى دنيا مختلفة، وقد كان.

لقد كنت اروع لحظات عمرنا، ولا زلت، غصتنا أنك غادرت لأنك هيكل، اسسّ لبناء فكرة كرامة الامة ومعركتها، وليس الانسان الذي مرّ بمراحل الحياة وأضحى شيخاً كبيراً مسناً.

أخاطبك أنت، لأنك لم تمت، بل غادرت عالمنا إلى ذمة الله، وعزاؤنا أن فينا بعد رحيلك من حمل لوائك، وعزاؤنا أنك ظللت مصيباً في رؤياك، وعزاؤنا أنك باقٍ في التاريخ تحدثنا وتحدث الاجيال بحقائق اللحظة وحقائق التاريخ، وأن سيرتك كنسيمٍ اهدأ من عواصف الحرب، وعواصف السلام المزيف، وأنك كتبت في حياتك مستأذنا الانصراف كمحارب تمنى الترجل من صهوة جواده.
__________________________________________________________________________________________________________
* مراسل قناة الميادين في العراق، غطى عدداً من الأحداث في الوطن العربي سياسية وعسكرية، دراسات عليا في الأدب العربي -جامعة بغداد