الكاتب: المتوكل طه
I
كيف لي ، وأنا أدفُّ فوقَ الحجارةِ الملساءِ ،
وأتبعُ بِجَسدي تلكَ الفراشةَ الثَّملة ،
أن أنسى قليلاً قتلايَ الخمسينَ
الذين يصعدونَ من تَحتِ النَّدى المعدنيِّ كلَّ يومٍ ،
مثلما كان "بوننتورمو" يُنهي لوحاتِه الخمسَ
عن الشَّغفِ الذي يضيءُ الآنَ
حِصناً مُتقشِّفاً جنوبَ المدينة ،
وبإمكانه أن يسبحَ في نَهرِ "آرنو"
وأن يَجدَ جدراناً عاليةً سينوبيّةً ليعلِّقَ عليها ألوانَه ..
أما نَحن فلمْ يَعُدْ متَّسعٌ ، على جدرانِ الحوانيتِ والبيوتِ ،
لملصقٍ طازجٍ يحملُ صورةَ شهيدٍ جديد !
*
في فلورنسا
بإمكانِهم أن يُحيلوا السُّوقَ ومستودعَ القمحِ
إلى صدرٍ تُوضَعُ عليهِ أطيافُ "امتطاءِ المَجوس" ،
وأن يصبحَ هواءُ الكنيسةِ مُصلَّى للجنازةِ والأُمراءِ
وأن يكونَ المدخلُ محبساً أخضرَ
وتكونَ الطَّاولةُ تِمثالاً لـ"سجودِ الرُّعاة"
والسّاحاتُ تَماثيلَ لـ"داودَ"
وللقُبلِ الطَّويلةِ ولقاءِ الغرباء .
وبإمكانِهم أن يكونوا أحياءً
أما أنا فَمَيْتٌ يسيرُ ، جاء من أرضِ القتلِ
إلى هذه المَنْحَلَةِ الفارهة .
*
أسيرُ تَحتَ الجسرِ القديمِ
فَتبرقُ مشاغلُ الذَّهبِ
وألحظُ بزّةَ نقيبِ الشَّعبِ ،
ومن بعيدٍ
أسمعُ أصواتَ معركةِ "قادةِ المائة" ،
و"مايكل أنجلو" يتماهى مع الـ "مادونا" الرَّائعة ..
غيرَ أن ذلك كلَّه مرَّ خاطفاً ،
وبقيتْ صورةُ القنطرةِ المفخوتةِ في تلك القرية .
*
.. وكيف لي ، وأنا أشخصُ إلى برجِ الجرسيّة ،
أن أقتربَ من "بابِ الجنَّة" ، وأمدَّ يدي كالوطواطِ
لأُمسّدَ الرُّخامَ الأبيضَ والأخضرَ ،
وأعبثَ بأعضاءِ التَّماثيلِ المدلاّةِ كالقناديلِ المُطفأة ،
والتي لا تنفعلُ بتلكَ الفراشةِ الثَّملةِ ، التي أطالتْ إخفاءَ وجهِها
تَحتَ أنفاسِ ذلكَ الموشومِ
الذي لم يَعدْ يؤمنُ بأن رسماً للسَّيدةِ العذراءِ
يستطيعُ أن يُحقِّقَ المعجزات ،
لكنَّني
أؤمنُ بأن المعجزاتِ لها أرضٌ واحدةٌ ؛ هي بلادُ مريم .
*
وكيف لي أن أنسى ذلكَ الطِّفلَ العاريَ
المصبوبَ في رُخامٍ حليبـيّ
كأنَّ أفعى الأساطيرِ قد ضربتهُ بصدرهِ
فأحالَهُ ذيلُها إلى صلابةٍ هجَّرتْ طفولتَه ،
وأن أنسى ، أيضاً ، صالةَ الزَّنابقِ والمُصلَّى المُتناسقَ
لولا اللوحةُ الحائطيّةُ لـ "بيروجينو"
التي تُمثّلُ صلبَ المسيحِ
الذي أسمعُ الطَّرْقَ على مساميرِ يديهِ النَّازفتينِ الآن
وأنا على بُعدِ شريانٍ عن بيت لحم .
وبودّي أن أُنزِلَ المسيحَ عن صَليبه
كما فعلَ "بوننتورمو" الذي فهمهُ أطفالُنا
على شكلِ متفجِّراتٍ يُطَعِّمونَ بِها أجسادَهم
بعدَ أن أخذَ الرَّصاصُ منهم آباءَ الحكاياتِ البعيدة
لذا .. لم أعدْ أرى في مَتحفِ الفضّة
غيرَ سحجاتِ الجروحِ البيضاء ،
وفي متحفِ العرباتِ غير الدِّببة الحديديَّة
التي دَهمتْ غرفَ نومِنا ،
ولغّمتِ الهواءَ وأعدمتِ الطيورَ والأجنّةَ والنّوم ..
ولم أعدْ أرى غيرَ وادي الجحيمِ في كوميديا الأرض ..
ولم أر في الممرّ "الفازارياني" غيرَ النّعشِ العائمِ
فوقَ أكتافِ الهاتفين ،
ولا معنى لغرفِ الرّهبانِ في "دير سان ماركو" غيرَ السُّجونِ ،
أمّا ترصيعُ الذَّهبِ والفُسيفساء
فهذه عيونُ الأطفالِ المُطفأة .
وماذا بقيَ لي أن أرى فيكِ يا فلورنسا
غير الجنازاتِ والحواجز ؟!
أحاول ... ولا أستطيع .
II
تتزوَّجُ الحجارةُ ، في فلورنسا ، الضَّوءَ الغاوي
( عندما يُقطِّعونَ الحجارةَ
يغمسونَها في براميلَ تفيضُ بزيتِ الزَّيتونِ حتى تترنّقَ ،
وتبلغَ الفُحولة )
فيرفعونَها على الأكفِّ الخشبيَّة ،
وبِهذا يتحقَّقُ الخلودُ الذي سيشهدُ
غضبَ العطورِ ، ونسغَ النِّساءِ الرَّخوِ ،
والأرجلَ التي تضربُ الأرضَ بِمُوسيقى شَاهقةٍ ..
وأدخلُ، مع أصدقائي ، إلى قَبوِ المقهى الشَّاسعِ ،
حيث الوجوهُ الدَّائخةُ من دخانِ النَّغمِ اللاَّمع
والفرحِ الصَّاعقِ المتوهِّج ،
ويأتيني النَّادلُ بصحنِ البوظةِ الملوّنة ، مثل بُستانٍ أندلسيٍّ ،
فأراهُ أسود !
ويطفو قلبي حتّى يصلَ حدَّ حلقي
فأخرجُ إلى البوَّابةِ لأستنشقَ الهواءَ ، فأرى الفراشةَ الثَّمِلةَ
تطوّحُ بيدِها اليُمنى يَدَ صديقِها اليُسرى .. ويعبران ،
بلا مبالاةٍ ، إلى جنّةِ الهواء ..
( أتمنّى السَّلامَ في شخصِ سيّدهما الذي هو العشق ).
*
المقابُر، في فلورنسا، تُؤنِسُ العشَّاقَ،
وتَحضنُ الغُرباء ،
لا وحشةَ هنا ، لا عشبَ هائشاً ، ولا شقوقَ للسَّحالي
أو الدّبرِ ..
وفي الليلِ ، لا يكسرُ الشَّواهدَ جانٌ بَشِعٌ أو غُولَةٌ جائعةٌ ..
كلُّ ما تسمَعُهُ تساقطُ الرّضابِ من الشِّفاه ،
وتقليبُ الأوراقِ ، ومسحاتُ الفرشاةِ على خدّ القماش .
هنا ضوءٌ ناعسٌ ، ووردٌ حَيِيٌّ ، ومطرٌ وديعٌ ..
أجلسُ على حافّةِ قبرٍ مَمشوقِ الأضلاع ،
أمرّرُ كفيَّ على ظاهرهِ النَّاعمِ ، فيَفيضُ بالدَّم ..
فأفزَعُ .. وأنظرُ ثانيةً ،
فأراني عند قبرٍ محروثٍ في مقبرةٍ شعثاء .. تعجّ بالعتمةِ الثَّقيلةِ
وأصواتِ الحشراتِ اللَّيليّة .
أين أنا ؟
- المقابرُ في فلورنسا مكانٌ حيّ للأمواتِ ،
أمّا عندنا فهي مكان ميتٌ للأحياء -
*
قصرٌ قوطيٌّ راسخٌ ،
بواباتهُ واضحةٌ ، وجنائنهُ مرسومةٌ بالفِرجَار ،
أقفُ قبالَته وأتَمتمُ ، فيحسبني الحارسُ ممسوساً ،
أو قادماً من أزمنةِ الجليد ..
وأتَمتمُ ..
فيقتربُ منّي بتهذيبٍ حاسمٍ ،
يسألني عن سببِ وقوفي !
أرفعُ يدي دليلَ سلامٍ ، وأمضي ..
كيف سأشرحُ له أنّني كنتُ أحوّطُ القصرَ بالصّلوات ؟!
*
امرأةٌ عاريةُ الكتفينِ تقفُ على الشُّرفةِ ،
تُحدّقُ في مياهِ النّهرِ ،
لعلّها من بناتِ الحاكمِ الذي أورَثها ذلك المبنى المعتّق ..
وأكادُ أن أصرخَ فيها : ادخلي ..
حتى لا يَصيبكِ الرّصاصُ الأعمى !
III
هذا بيتي يا "دانتي" !
من أسمائهِ جبلُ صُهيون ، لكنّه جبلُ الزَّيتون اليبوسيّ
( من زيتهِ المحليِّ أرسلَ أهالي القدسِ وجنين قارورةً
لإضاءةِ مصلَّى "رافينا" الصَّغير، حيث ترقد رفاتُك )
وفي أكنافِ هذا الجبلِ المَطْهرُ ، حيثُ الشُّهداءُ
وحنَّاءُ العرائسِ الأرامل ..
( وعلى أحواضهِ التي عُمِّدُوا فيها سينالونَ الأكاليل )
ومن البحرِ الزَّجليِّ إلى النَّهرِ المسروقِ فِردوسٌ مُمتدٌّ
اسمهُ فلسطين .
( والغبطةُ كاملةٌ في الكلماتِ التي بِها أمتدحُ سيّدتي )
سَماؤها بلا نُجومٍ ، فَمِن ذاتِها تستضيءُ، بِلّوريَّةً ،
دائمةَ البكاء ..
جاءها ملكُ بابل "لوسيفير" متخفياً بزيّ "هيرتزل" الذِّئب ،
أو "شارون" صاحبُ نَبْرِ الجرَّافات ، أو السَّاحرةُ "غولدا"..
( أولئك الذين طَرَدتْهم السَّماءُ ، كي لا تنقصَ بِهم جمالاً ،
وأغوارُ الجحيمِ تلفظهم ..
حتّى لا يتفاخرَ عليهم الآثِمون )
لقد جعلوا أرضَ سيّدتي مخروطاً مقلوباً
وأشاعوا فيهِ قَناطِسهم المَسعورة ،
وخلّوهُ خرائبَ بشعةً
وأسواراً ناريّةً
ومدافنَ
ومهاويَ
ومستنقعاتٍ ..
فكيف لي ، بغيرِ آياتِ الحديدِ ، أن أواجهَ ساديَّةَ الشَّيطانِ ؛
الخالعِ الباطشِ المُدمِّرِ المَهووسِ اللاّطمِ المُقهقِهِ اللاّعبِ الكاذبِ اللاّغبِ الغاربِ السّالبِ المُتعطِّشِ الحارقِ المارقِ الشّانقِ النَّاعقِ السّارقِ الذَّابحِ الجامحِ السّافحِ الهادمِ الجاثمِ العادمِ القاتلِ المُعتدي .. والرَّجيم ،
وكيف لي ، وقد اقتلعوني كما اقتلعوكَ ،
أن أعودَ إليهم جاثياً على رُكبتيّ ؟
ليتهم تاجروا - كعادتِهم - برُفاةِ القدِّيسينَ وأسنانِهم الذَّهبيةِ،
فعندها سأجعلُ الدِّيَكةَ تُوقظهم مع عَجينِ أُمَّهاتِهم ..
بإرادتِهم جعلوا بيوتَهم مقابَرهُم ..
والجشعَ أنشوطةَ أيامهم ..
لكنَّ جغرافيّتهم الواهمةَ تَنـزَعُ عظامَ مقابِرنا ،
وتُلاحقُ أضرحةَ الأطفالِ وتَرميها في طبقاتِ الجحيم ..
لقد جعلوكَ / جعلوني هِرطُوقيّاً إرهابيّاً
ولم يعترفوا بقلبي الذي أحبَّ "بياتريشي"
التي كان موتُها مثلَ قَتلِ نبيٍّ شابّ
( كسوفٌ وبكاءٌ للشَّمسِ والقمرِ ،
وتَساقطُ الطُّيورِ في الهواءِ ،
وزلزالٌ يَرُجّ الأرضَ )
وما فعلوهُ ، يا أخي ، يشبهُ عِجْلَ التِّيه ،
الذي قتلوا به أبناءَ السيّدةِ الطَّيبةِ - الفَلسفة ..
لكنَّني سأحملُ أحفادَهم على لِسَاني
وأجعلُ دمي مَطْهَرَهُم، وأصعدُ بِهم إلى المَنـزلةِ الوُسطى ..
وكلُّ ما أريدهُ أن يتخلّى الرُّهبانُ البِيضُ عن التِّمثالِ الأسودِ ،
لنكونَ معاً على ذُروةِ الجَبل ..
وهناك سنخلعُ عليكَ ، مرّةً أخرى ، التَّاجَ والإكليلَ
لأنَّكَ صاحبُ المجدِ الذي هو ( الحبُّ الذي يُحرِّكُ الشَّمسَ
وسائرَ النُّجوم ) .
IV
ليلُ فلورنسا خَمرٌ وشبابٌ وكنائسُ صامتةٌ
وسَماءٌ تَحرسُ جسدينِ انصهرا مثل التّوتِ ،
ولا بأسَ إذا مَرَّ ملاكٌ يبكي من زوجتهِ ،
فليهبطْ بدموعٍ خاسرةٍ
يشربُ بعضَ الحسرةِ
أو يَمضي يبحثُ عن تائهةٍ أثقلها الهَجر
- سَيراها تحملُ شنطَتها الجلديّةَ ،
وقميصٌ مَخمورٌ يُمسكُ بالماءِ على نَهديها -
وتَجرُّ حذاءيها نَحوَ الموجِ
فَلَيلُ فلورنسا بابٌ مفتوحُ الأجنحةِ
يهبُّ الثّلجُ خَفيفاً ، مثلَ الهَمْسِ عليهِ ،
يُثيرُ نَحيبَ الجسدينِ ، فيتَّحِدان كما الشَّمعِ
ويدخلُ غَبَشُ الغيمِ إلى الغرفةِ
يكتبُ أحدُ الباكينَ عليهِ : أحبّكِ
كي يصعدَ جسدٌ مرضوضٌ بالرّمانِ إلى الشّباكِ
ويُلقي فوقَ الماضينَ إلى النّهرِ الحكمةَ :
هذا الدّربُ هَلاك ..
فتعالوا لِتروا ذَوْبَ النّارينِ
على بَرَدِ الدُّبِّ المذبوحِ
فلا حدّ لموتي بين يديهِ
ولا حلّ لمشنقةِ الكِتَّانِ على مَذْبَحِهِ المأخُوذِ ..
أثوبُ فتلدغُني الأفعى ،
أغمرهُ بسواحلِ نَعناعي فيذوبُ
ويصدعُ حتى الكشفِ
يُسلِّمُ للضَّوءِ الصَّاعقِ :
لا أعبدُ إلاّك .
وأكونُ هنالكَ خلفَ البابِ
لأبحثَ عن خَاتَمِ هذا الليّلِ الكاملِ ،
أو ألمسَ أُكرةَ هذا الطّقسِ
.. وأصحُو !
جرسُ الهاتف :
حضرَ السّائقُ، والطَّائرة على وشكِ الإقلاعِ ..
... وأسألُ :
هل كنتُ هناك ؟!