نشر بتاريخ: 05/03/2016 ( آخر تحديث: 05/03/2016 الساعة: 21:11 )
بقلم: شادي أبو عياش-أيرلندا
من أبرز ما يلفت الانتباه في البيان الختامي لاجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح الاخيرة هو غياب أي إشارة الى توجهات الحركة المستقبلية نحو رفع مستوى التنسيق والعمل مع القطاعات الشعبية العالمية، وهو ما يعني بالضرورة استمرار تجاهل قيادة الحركة الوطنية للدور الآخذ في الاتساع لحركة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني التي تقف بقوة خلف النجاحات المتتالية لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في الدوائر الأكاديمية والأحزاب والاتحادات الشعبية في أوروبا والولايات المتحدة.
لا أدعي ان غياب هذا العنصر عن أجندة فتح الرسمية أمر مفاجئ، على العكس تماماً. ان الخمول التدريجي للتفاعل الفكري والسياسي الذي اعترى حركة فتح منذ إنشاء السلطة الوطنية حيث تحولت جهود حركة نحو بناء المؤسسات العامة، نجم عنه جمود في قدرة القواعد الشعبية للحركة على التأثير في سياسات فتح سواء تلك المتعلقة بالسياسات الداخلية او تلك المتعلقة بالعلاقات مع العالم الخارجي.
لا اعرف ان كانت اللجنة المركزية والمجلس الثوري تسترشد عند وضع قراراتها وتوجهاتها بآراء أبناء الحركة في سجون الاحتلال وفي مختلف المواقع التنظيمية وهياكل الأطر الشعبية لا سيما حركة الشبيبة في الجامعات والاتحادات أو حتى إن كان هناك أي التفات للنقاشات الدائرة على منصات شبكات التواصل الاجتماعي. الا انني على يقين ان اندماج أوسع لقواعد اطر الحركة وحواضنها الشعبية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بسياسات الحركة لا بد وأن ينتج عنه اسهام أكبر لهذه القواعد الشعبية في التأثير على سياسة وتوجهات الحركة، وبالتالي التأثير على مسار الحركة الوطنية بشكل أوسع في مختلف المراحل، بما في ذلك إعادة الاعتبار للعلاقة التحالفية مع القوى الشعبية العالمية وفي مقدمتها حركة التضامن العالمي.
إحياء مفهوم حركة التحرر الوطني... منعطف إجباري
وقد يكون من غير المنطقي الحديث عن دور كلاسيكي للحركة الوطنية الفلسطينية يسعى لإعادة طرح فلسطين كقضية عالمية يشارك في النضال في سبيلها جموع من قادة ونشطاء الحركات التحررية والاجتماعية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني العالمي كما كان الحال قبل عقدين من الزمن. إذ ان اختلاف توجهات الحركات الاجتماعية العالمية العابرة للحدود وتغير أولوياتها، إلى جانب تغير أسلوب العمل النضالي الفلسطيني على المستوى السياسي الخارجي يحولان دون عودة الدفء لهذه العلاقات. بل أكثر من ذلك، ان التغيير البنيوي الذي أصاب الحركة الوطنية حيث انتقلت عملية صنع القرار من اطر منظمة التحرير وحركة فتح الى مؤسسات السلطة الوطنية، انعكس بشكل واضح على قدرة الحركات والأحزاب الوطنية على التأثير في التوجهات السياسية الداخلية والخارجية.
وهنا لا بد من الإشارة الى أن أبرز التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية لمنظمة التحرير وبشكل أكبر السلطة الوطنية على مدار العقدين الماضيين المتمثلة بانتهاج سياسية خارجية تقوم على أساس بناء وتنشط العمل الدبلوماسي وبناء جسور التعاون على المستوى الدبلوماسي مع دوائر صنع القرار الدولي وفي المؤسسات الدولية، وإهمال العلاقات التاريخية مع القواعد الشعبية من حركات اجتماعية واتحادات ونقابات وأحزاب. وعليه، فان مفهوم حركة التحرر الوطني ببعدها العالمي لم يعد قائما بعد تغير أولويات وأسلوب العمل الفلسطيني على حساب حركة التحرر الوطني بمفهومها النضالي الشامل.
والنتيجة هنا، أننا أصبحنا نطرح شعار الحركة الوطنية، فيما العمل السياسي وبناء التحالفات الخارجية في الواقع تتحكم به توجهات الدبلوماسية الفلسطينية المعاصرة. وحتى العلاقات المحدودة لحركة فتح على سبيل المثال مع أحزاب أوروبا تتسم بصبغة العمل الدبلوماسي، إذ لا تزال الجهود في هذا الإطار، ترتكز بالمجمل على تعزيز العلاقات مع قيادات هذه الأطر وتتجاهل في ذات الوقت القواعد الشعبية والنخب الفكرية وصناع الرأي والتوجهات داخل هذه الأحزاب، لاسيما في الدوائر الأكاديمية والاتحادات وقطاع الاعلام الشعبي.
ان ما يفرضه الواقع السياسي على الحركة الوطنية الفلسطينية التي تعيش أزمات داخلية وخارجية متزايدة ان تفكر بشكل مختلف تجاه علاقاتها مع المحيط الدولي، إذا ما كانت تسعى الى اعادة بلورة سياسة فلسطينية مختلفة يتكامل فيها العمل النضالي في فلسطين مع رديفه على المستويات الشعبية العالمية.
وربما تكون فتح أبرز من يمكن ان يملأ فراغ العلاقات مع القوى الشعبية العالمية الذي نجم عن تحول السياسة الفلسطينية نحو دبلوماسية العلاقات الرسمية. إلا أن فتح تحتاج قبل ذلك الى ان تتخذ قراراً استراتيجياً طالما تجنبته يقتضي باتباع سياسة نضالية مغايرة عن دبلوماسية السلطة. وقد يبدو هذا الطرح ساذجاً للبعض بفعل التداخل بين قيادات الحركة والسلطة الوطنية كمشروع وطني قام على اكتاف أبناء الحركة، الا أن هذا الطرح ليس بجديد، اذ طالما تعالت الأصوات بهذا الاتجاه داخل البيت الفتحاوي كلما حُملت فتح أوزار سياسات السلطة. ولم يعد ممكنناً الدفاع عن مقولة أن فتح لا تتوانى عن انتقاد أخطاء السلطة، فأي حديث عن أن فتح لا تمثل السلطة لا يمكن أن يقنع أحداً في ظل الواقع الحالي، خاصة وأن الحركة لا زالت تتبنى سياسات السلطة والحكومة، أو في أحسن الأحوال لا تعارضها. ففي عديد من الاحيان لا يمكن أن نفهم المنطق في انبراء بعض الناطقين باسم الحركة بالدفاع عن سياسات حكومية غير شعبية.
ان عودة فتح كحركة رائدة للعمل الوطني عبر استلام زمام مبادرة العمل الوطني في هذه المرحلة على المستويات الداخلية والخارجية، لا بد وان ينعكس إيجاباً على مسيرة التحرر الوطني أولاً، وكذلك على العلاقات الاستراتيجية مع القطاعات الشعبية العالمية وبالأخص تيارات التضامن مع الشعب الفلسطيني في العالم الغربي.
حركة التضامن...جزء من النضال الوطني؟
ولا يعني ذلك اهمال العمل الدبلوماسي مع الدوائر السياسية الدولية لا سيما الغربية، الا ان عودة فتح لتعريف نفسها كقيادة للحركة الوطنية تقتضي منها إعادة بناء جسور التحاف والتعاون مع الحلفاء الطبيعيين للشعب الفلسطيني ونضاله حول العالم بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا.
ونقطة الانطلاق هنا تكمن في انهاء علاقة التنسيق الباردة مع حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني الآخذة بالاتساع والتأثير في الدوائر الشعبية وبخاصة الطلابية والأكاديمية في الدول الغربية. ويكفي مراقبة القلق الإسرائيلي المتزايد والميزانيات التي وضعتها حكومة إسرائيل لمحاربة حركة المقاطعة العالمية لمعرفة الدور البارز لحركة التضامن في مجابهة إسرائيل على المستوى الدولي. وهو ما يفسر أيضاً تعرض هذه الحركة العالمية وهي التي تعد الرافعة الاساسية لانتشار حركة مقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد إسرائيل، الى حملة سياسية –تتخذ شكلاً قانونياً-على ضفتي المحيط الأطلسي تتمثل في سن تشريعات وقوانين تسعى للحد من قدرة المؤسسات والاتحادات والشركات على مقاطعة إسرائيل.
وهنا يبرز السؤال الأساسي، هل ترى الحركة الوطنية الفلسطينية في حركة التضامن العالمي شريكاً في النضال الوطني ومكون أساسي من مكونات حركة التحرر الوطني، أم هي بالنسبة لصانع القرار الفلسطيني عنصر سياسي مساعد ليس أكثر؟
إن كانت الدبلوماسية الفلسطينية تتجنب بناء العلاقات مع تيارات التضامن مع الشعب الفلسطيني لاعتبارات تتعلق بنهج السياسة الخارجية الفلسطينية كما سبق وذكرت، فان حركة فتح لا يجب ان تلزم نفسها بهذه السياسة. بل من الطبيعي ان تقع على الحركة مسؤولية الانفتاح نحو الشرائح المجتمعية النشطة في المجتمعات الغربية. وهو ما يتطلب بناء نسيج أوسع من التعاون والنقاش البناء مع التيارات الحزبية والاكاديمية والطلابية وكذلك مؤسسات المجتمع المدني المتقبلة أكثر من أي وقت مضى للرواية الفلسطينية.
ملامح تحولات في الساحة الأوروبية والأمريكية وفرص البناء عليها
ان ملامح تحولات الرأي العام في صفوف قطاعات شعبية أمريكية هامة والتي تشير الى التململ من السياسات الامريكية تجاه القضية الفلسطينية أمر جدير بالمراقبة في ظل تنامي التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي والقواعد الشعبية التي تدور في فلكه. يضاف إلى ذلك التململ الواضح الذي تشير إلية استطلاعات الرأي بين القطاعات الشبابية اليهودية الامريكية التي بدأت نظرتها تتغير سلباً تجاه إسرائيل.
إن قراءة سريعة لاستطلاعات الرأي التي صدرت خلال العامين الماضيين التي تتناول موقف النخب وقادة الرأي في الحزب الديمقراطي تشير الى انعطاف سلبي تجاه التعاطف مع إسرائيل، إذ ترى أغلبية من المستطلعة آرائهم ان لإسرائيل نفوذ كبير على السياسة الامريكية، فيما لم تتوانى نسبة منهم عن اعتبار إسرائيل دولة عنصرية. وقد يكون للعلاقة الفاترة والمتوترة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" والرئيس الأمريكي "باراك أوباما" عامل أساسي في تغير نظرة هذه القطاعات الهامة داخل الحزب الديمقراطي نحو إسرائيل، الا انه لا يمكن إغفال العوامل الأخرى التي أدت إلى تنامي هذه في صفوف بعض نخب الحزب.
ويمكن قراءة النقد الذي يتعرض له المرشح الديمقراطي الاشتراكي التقدمي "بيرني ساندرز" من العديد من مناصري الحزب الديمقراطي، وبخاصة التيار التقدمي لتجاهله الحديث بشكل واضح حتى الآن عن موقفه من القضية الفلسطينية، في إطار هذه التحولات. صحيح ان الجدل الدائر بين الحرس القديم والتقدميين في الحزب الديمقراطي في خضم موسم الانتخابات الامريكية الحالي يتمحور حول الملف الاقتصادي وتأثير شركات المال والاعمال على السياسات الاقتصادية، الا ان الموقف من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هو أيضاً نقطة نقاش آخذة في التطور بين صفوف أحد قطبي الحياة السياسية الأمريكية.
ولا ازعم أن سياسات الدول الغربية المحتضنة لإسرائيل هي في طور التغير الدراماتيكي. الا ان التحولات الإيجابية في العديد من الدوائر الشعبية في الغرب يمكن البناء عليها. ففي العديد من الجامعات الامريكية التي تنشط فيها مجموعات "طلاب من اجل العدالة في فلسطين"، يجد مناصرو إسرائيل صعوبة متزايدة في الدفاع عن دولة تمارس العنصرية والاضطهاد خلال النقاشات التي تدور حول القضية الفلسطينية في ساحات هذه الجامعات.
ولا يختلف الامر عنه في الجامعات البريطانية حيث توجد قاعدة طلابية نشطة تعمل بشكل حثيث على نقل القضية الفلسطينية الى الساحات البريطانية ولا تتوانى عن مجابهة التغطية الإعلامية المنحازة لإسرائيل من جهة، والانخراط بشكل كثيف في تنشيط حملات المقاطعة لتل أبيب، من جهة أخرى.
وكذلك الأمر في جمهورية ايرلندا حيث افرزت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة فوزاً لعدد من مناصري القضية الفلسطينية، وهو أمر ما يرى فيه بعض المحللين دفعة للقضية الوطنية في هذا البلد الأوروبي الذي قادت فيه مجموعات التضامن حملة منظمة دعت فيه المرشحين البرلمانيين لإعلان دعمهم لحقوق الشعب الفلسطيني، في محاولة منها لوضع القضية الفلسطينية على أجندة المشهد الانتخابي الداخلي.
مجمل القول هنا، ان بناء علاقة تكاملية بين قيادة الحركة الوطنية وحركة التضامن العالمي لا بد وأن يعطي دفعة للقضية الوطنية في الساحات الدولية، لا سيما الغربية منها. كما يمكن لأي جهود انفتاح واسعة تقودها حركة فتح تجاه مجموعات حركة التضامن أن تكون مدخلاً يسهل عملية انفتاح فلسطيني أكبر على الدوائر البرلمانية والحزبية والشعبية في الساحات الأوروبية والأمريكية، في ظل بروز ملامح تحولات جدية في رأي النخب الشعبية تجاه إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا.