نشر بتاريخ: 09/03/2016 ( آخر تحديث: 09/03/2016 الساعة: 11:27 )
الكاتب: نبيل دويكات
يوميات مواطن عادي (48) في الثامن من آذار..كل يوم وأنتِ بخير
قبل أيام معدودة من مناسبة الثامن من آذار يوم المرأة العالمي، فوجئت بتعليق غاضب لإحدى الزميلات الإعلاميات على موقع التواصل الإجتماعي. وبالطبع فإن المفاجأة لم تكن من التعليق،فالزميلة فضلاً عن كونها إعلامية معروفة فإنها تدرّس في إحدى جامعات الوطن، واعتدت، كما الكثيرون من طلبتها وزملائها، على مساهماتها المختلفة والمميزة. إنما المفاجأة كانت من مضمون التعليق، فضلاً عن المفاهيم والكلمات التي استخدمتها للتعبير عن الفكرة التي أرادت إيصالها من خلال ذلك التعليق. ورغم أنني لن أقتبس هنا ذلك التعليق كاملاً، إلا أنني سأقدم فقط مثالاً مقتبساً من الكلمات التي استخدمتها: "ذات الاسطوانة المقززة"، وأعتقد أنه كافٍ ليوضح مقدار الغضب الذي يختزنه ذلك التعليق، خاصة أنني اعتدت على الزميلة ذات الخطاب الهادىء دائماً، والكلمات التي تنتقيها بعناية في حوارها في كل المجالات، وفي أشق الأحوال والظروف.
أما سياق التعليق فقد جاء في معرض الرد على خطاب سمعته الزميلة يتردد على لسان شخص وعبر مكبرات الصوت من إحدى دور العبادة. ومضمون الخطاب يدور كما يتضح من التعليق حول المرأة، وفيه اُستُخدمت جمل ومعانٍ كثيرة وعديدة يمكن تلخيصها وإجمالها بأنه ينتقد فكرة تحرر المرأة، ويعتبرها "مؤامرة غربية" على النساء والمجتمعات العربية والإسلامية، ودعم خطابه بمصفوفة معروفة ومألوفة من المفاهيم التي تشير وتدعم تلك الفكرة على نمط "التبرج، التزين، التعطر اللباس.. الخ من المفاهيم التي اُستخدمت على مدار سنين طويلة من قبل ذات الاتجاه الذي يناصب فكرة العدالة والمساواة للنساء، ومكرراً تلك "الوصمة" لأية حركة أو توجه يناصر المرأة وقضاياها بأنه مستورد من الغرب.
لا أعرف لماذا وجدت نفسي أغضب فجأة وأنا أكمل قراءة بقية التعليق، وفكرت عدة مرات في كتابة حلقتي القادمة من سلسلة "يوميات مواطن عادي" عن معنى ومغزى مناسبة الثامن من آذار، وما يحمله من معانٍ إنسانية، ليس للمرأة فحسب، وانما لكل الفئات والشرائح المقموعة والمضطهدة في كل بقعة من بقاع عالمنا الواسع، وبالأخص عالمنا ومحيطنا العربي. وفي مثل هذه الأحوال فإنه لا بد لكل إنسان من استحضار كل معاني وصور الدم والقتل والذبح والدمار والتشريد والاغتصاب والظلم والتعسف والاضطهاد التي غرقت بها مجتمعاتنا العربية خلال السنوات الأخيرة، ويستحضر أيضا صورا كثيرة وعديدة وأنماط الخطاب الذي بذر حصادا لا نزال نكتوي بناره حتى الآن. مر كل هذا الشريط في تفكيري ومحاولاتي. وفجأة وجدت نفسي أرغب في الكتابة بإتجاه مختلف، وربما مغاير لكل هذا الكم الهائل من المعلومات الذي يتراكم، ويواصل التراكم.
وجدت نفسي أرغب في الكتابة عن الإنسان. صحيح أن ما تسبب بكل تلك الأهوال هو إنسان، لكن ليس هو النموذج الوحيد في عالمنا الذي يعكس صورة الإنسان بكل معانيها. وسرعان ما قفزت تلك الإنسانة الى تفكيري. سأكتب ملخصاً عن تلك الإنسانة، كما عهدتها وعرفتها، وربما كتابتي تسعفني في أن أقدم نموذجاً آخر، مختلف، ويعكس معاني وقيما وأخلاقيات أخرى.
عرفتها لسنوات طويلة كإسم ونموذج لم يكن مرتبطاً الا بمعاني التضحية والنضال من أجل فلسطين، وكان لهذه الكلمات وقعها في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وكان اسمها مرتبطاً بتاريخ نضالي لم أكن أعلم عنه إلا القليل، وأجهل الكثير من تفاصيله بحكم ظروف وشروط النضال التي فرضت نفسها بوجود الاحتلال أولاً، وبحكم وجودها القسري خارج أرض الوطن. ولذلك كان الاسم معروفاً على المستوى التجريدي، أما في المستوى الملموس فأخذت العديد من تفاصيله تظهر، وترسم معالم المجرد وتحوله الى واقع ملموس في صورة أنسان كامل الملامح، وفي أبهى الصور.
لا أتذكر بالضبط في أي سنة تعرفت عليها شخصياً ووجهاً لوجه، ولكن ما لن أنساه هو ذلك الوجه المبتسم دائماً، والملامح الهادئة التي تجعلك خلال لحظات قليلة من بدء الحديث معها تشعر أنك أمام إنسانة عظيمة بكل المقاييس. أما حين تبدأ بقراءة ما تكتبه فإنك تستطيع شيئاً فشيئاً أن ترسم ملامح العظمة في تلك الإنسانة، وتعطي لمفهوم العظمة المجرد كل الملامح الإنسانية التي تقربه من تفاصيل وحياة كل إنسان. ولا تلبث أن تجد نفسك مشدوداً للمتابعة، وربما أحياناً البحث بين السطور والكلمات عن سر تاريخ تلك الإنسانة، وكيف تكونت تلك الروح عبر محطات التاريخ المختلفة.
مما لا شك فيه لدي الآن أن تاريخ هذه الإنسانة لم يبدأ عندما طالت يد الاحتلال زوجها ورفيق دربها، فقد استهلت شبابها في النضال من أجل فلسطين، بكل قناعة وعمق وهي التي كتبت عن خلفيات وذكريات انتمائها للعمل الوطني قائلة بأن بدايات بواكير وعيها كانت على فشل الانظمة العربية في حرب حزيران، وأهمية إمساك الفلسطيني بقضيته في أحزاب فلسطينية مستقلة. وما لبثت ان انخرطت في العمل الوطني والنضالي، وحين حصلت على عضوية انتمائها الحزبي والوطني، لم تكن تعرف تفاصيل هذا الخيار، إلا أنها كانت متأكدة وجاهزة للانتظام والنضال، ثورة وإرادة الشباب دفعت الدم في شرايينها وأضاءت قلبيها. لكنها عرفت الكثير من التفاصيل لاحقاً ومضت دون تردد. بعد تسعة وعشرين عاماً من اغتيال زوجها ورفيق دربها كتبت تحت صورته:
"بكاميرتي في المكان الذي طلبني من والدي للزواج، كان سعيدا ومكتفيا، ووالدي يضحك ويقول له:
- إنك تطلب الغالية الوديعة، أنت صاحب اجمل ابتسامة رأيتها، لكني أخاف من يوم يأتون بك اليها محمولا، سيقتلها هذا.
تدخلت وقلت وقد انبعثت بي طاقة غريبة:
- عندها سأعيش على تأملات.. وأقتات على زاد من الذكريات والصور والكلمات".
ولم يقتلها حين ودعته محمولاً، بل مضت على عهد النضال الذي التقيا عليه من أجل الوطن، وحملت مسؤولية أطفالهما الثلاثة، وهم يكبرون كل يوم، ويخطون مسيرتهم في الحياة، وهي تسندهم في كل لحظة كأم وأب في نفس الوقت، وتعطيهم من الحب والحنان ما ساهم في التخفيف عليهم من ألم فقدان الأب. ولم تتوانَ عن الدور النضالي، مع أن التفاصيل تظهر كل يوم، بل كل لحظة عن تبعات واستحقاقات خيارها، وأكملت مسيرتها النضالية من غربة الى أخرى، وحملتها الأيام الى أرض الوطن، حيث محطات أخرى من النضال الوطني والاجتماعي من أجل استكمال مسيرة تحرر الشعب الفلسطيني واستقلاله، ومن أجل كرامة المرأة ومساواتها في مجالات الحياة المختلفة. وقفت مع الأسرى في نضالهم وإضراباتهم عن الطعام، ولم تتخلف عن المسيرات والمظاهرات وحملات العون والدعم لكل ما هو فلسطيني، بل وعربي وأممي. تقدمت صفوف العمل مع النساء الفلسطينيات من أجل حقوقهن وقضاياهن الاجتماعية، بل ومع النساء العربيات، ومع كل امرأة مظلومة ومضطهدة في كل بقعة من بقاع الأرض، وكتبت عن النساء تحت الاحتلال، وعن النساء المصريات واللبنانيات والعراقيات والتونسيات والأفغانيات.. وكل نساء العالم. ولم تتردد لحظة واحدة في قول كلمة الفصل لصالح قضاياهن.
انخرطت في حركة نضال الشعب الفلسطيني في كل المجالات، ووقفت صلبة وقوية وهي تصرخ من أجل وحدة الشعب والوطن، وكان لسان حالها يردد دائما: "علَمنا الابيض والاحمر والاخضر والاسود الذي استشهد خيرة شبابنا من اجل ان يبقى خفاقا عاليا...سنحميه بعيوننا من التمزق". ووسط كل هذا الميدان المشتعل من النضال لم تنسَ يوماً أن تكتب عن الإنسان، وعن الطفل في كل إنسان. كتبت في إحدى المرات عن نشاطاتها مع طلبة المدارس خلال حملات مقاطعة بضائع الاحتلال قائلة: "اليوم الذي يبدأ في العمل مع الاطفال عملاً مثمراً ومختلفاً نوعياً، الاطفال صفحة بيضاء نقية، اسئلة واجابات واضحة وتلقائية وعفوية، خير من فلسفات الكبار والتواءاتهم".
وللشهداء مكانة خاصة لديها دائماً، أياً كانت انتماءاتهم وجنسياتهم وجنسهم، ولم تتوقف عن زيارة اضرحتهم ووضع أكاليل الحب تخليداً لذكراهم، وتجد بين كتاباتها:
"زرنا بعضا من اسماء فلسطين الحسنى
في عالمهم الآخر
من قبر هشام ابو غوش الى قبر نهاية محمد
ومن قبر ابو علي مصطفى الى قبر سميحة خليل
ومن قبر ام صبري صيدم الى قبر نهاية جيوسي
قلنا لهم: كل عام وانتم بخير
قالوا: طمنونا عنكم
قلنا: نحن لسنا بخير
مع امنيات بقاء شعبنا وقضيتنا بالف خير"
وتواصل المسيرة قائلة دون أن تترك السنوات أية تجاعيد على نضالها وروحها الثائرة "روحي لا تهدأ ولن تهدأ.. تسعى بين البدايات والنهايات.. ولا تتعب.. اول بيان تكتبه وتنسخه.. مرارا.. ولا تتوقف.. اول اجتماع.. اول تدريب باللباس الخاكي.. أول غارة وهمية.. أول رفيق لا يهدأ.. يتعهد أن لا يهدأ ..ويقسم ان لا يتعب". وخلال ذلك تكبر الأم الإنسانة وتصبح جدة تحتفي بأحفادها، وتنتظر استراحة المحارب لكي تعانقهم.
ربما يتمكن عدد من قراء هذه المقالة من معرفة من هي الإنسانة التي استلهم الكتابة عنها في مقالي هذا، أما بالنسبة لي فإنني لا أقصد بالطبع الكتابة بهذا الاختصار عنها، فهي تحتاج حقيقة الى أكثر من ذلك بكثير. أما ما أردت الإشارة اليه هنا فهو أنها لا تمثل حالة فردية ونادرة في مجتمعنا الفلسطيني. بل إنها تعكس نموذجاً حياً للمرأة الفلسطينية عبر تاريخ وعقود طويلة من الزمن. هناك مئات ألوف من المناضلات والشهيدات والجريحات والأسيرات والمشردات من بيوتهن وممتلكاتهن. وهناك مئات ألوف أخرى حملن الراية وتحملن أعباء فقدان الشريك والأب والأخ والرفيق شهيدً او جريحاً او أسيراً، وبيتاً مهدوماً، وكنّ على قدر المسئولية، بل حققن نجاحات لافتة مبهرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وغيرها من المجالات. وليس لدي أي أدنى شك في أن هذا النموذج يمتد على امتداد رقعة وطننا العربي من شماله الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه.
هو نموذج للمرأة العربية التي عايشت وعاشت كل تفاصيل حياة المجتمعات العربية بكل ما فيها من نضال من أجل التحرر من الاستعمار والتبعية، ومن ثم خوض معركة البناء والتنمية الحقيقية لكل هذه المجتمعات. بل حملت دائماً العبء المضاعف في تلك المسيرة الطويلة. وكانت أماً واختاً وربة منزل ومعلمة الى جانب كونها مناضلة ومقاتلة وجريحة ومعتقلة. ورغم هذا الدور وتفاصيله فإنها كانت تعاني، وتجد نفسها دائماً بحاجة الى وقت آخر لخوض جبهة ثالثة من النضال ضد التخلف، وضد الاتجاهات التي لم تتوقف يوماً عن تكرار تلك الاسطوانة كلما تعلق الأمر بمناقشة دور ومكانة المرأة في المجتمع، والقول إن فكرة مساواة المرأة وتحررها من التبعية والتمييز هي فكرة غربية أو مستوردة من الغرب.
كيف يجد أحدهم الجرأة لكي يعيد تكرار هذه الفكرة، وخاصة في أيامنا هذه، وكيف يمكن لهذا الاتجاه أن يستمر ونحن نرى ونلمس ونعايش في مجتمعاتنا العربية والإسلامية خلال العقود الأخيرة أن نفس الاتجاهات لا تقتبس من "الغرب" إلا تلك الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي حصدت وتحصد أرواح مئات الألوف، بل ربما ملايين من الرجال والنساء والأطفال على امتداد هذه الرقعة الجميلة، وهي تطرد وتصدر في ذات الوقت مئات ألوف أخرى، محطمة الأمن والاستقرار والهدوء والسكينة لدول وشعوب كاملة.
أما خلاصة القول فهو ذلك الصوت، وذلك الخطاب الذي يكرر في كل يوم ومناسبة دعوته وشعاره الذي أصبح يثير الشفقة اكثر من السأم، الشفقة من الجهل ليس بحقائق التاريخ ولا الجغرافيا، وإنما بحقيقة الواقع الذي يعيشه. الشفقة ممن يدفن رأسه في تلك المقولات التي لا تريد لنا إلا أن نبقى مطئطئي الرؤوس لكي يقفز فوقها تجار الدم والموت والبشر. الشفقة ممن لا يرى هؤلاء المناضلات من حوله، أو هو لا يريد أن يرى منهن إلا طريقة لبسهن، أو جلوسهن أو وقوفهن أو حديثهن. ويريد فقط أن يتأكد من عدم انكشاف وجوههن، أو شعر رؤوسهن.. أو غير ذلك من الأمور التي تعكس ضحالة التفكير، والجهل، والفقر الروحي.
أما بالنسبة لكل إنسانة في مجتمعنا الفلسطيني والعربي عموماً فإن أقل ما يمكننا قوله هو أنه إذا كان الثامن من آذار رمزاً عالمياً ليوم المرأة العالمي، هو فكرة مأخوذة من ثقافات مجتمعات أخرى، فإنه علينا أن نعيد هذه الفكرة الى مجتمعاتها، لسبب واحد فقط، هو أنها ربما لم تعد كافية لكي تعطي المرأة حقها في مجتمعنا. وفي الحقيقة إذا أردنا أن نتحدث عن الإنصاف والعدالة والمساواة فإنما علينا أن نعمل على أن يكون كل يوم في العام، هو يوم من أجل التأكيد على وفاء كل إمرأة حقها.. لننظر حولنا فقط لنرى. ونقول لكل إمرأة كل يوم وأنتِ بخير.