نشر بتاريخ: 15/03/2016 ( آخر تحديث: 15/03/2016 الساعة: 14:34 )
الكاتب: د. "محمد علي" العلمي
الزواج نعمة من الله عز وجل لصون خلقه في نسلهم وإدخال الطمأنينة والسكينة الى قلوب الناس وإشاعة المودة والرحمة فيما بينهم. إذ يقول في كتابه العزيز: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". صدق الله العظيم (سورة الروم,21). هدفنا في هذه المقالة هو بيان ما كانت تقوم به في الماضي المرأة المقبلة على الزواج لحماية نفسها من خلال الشرع. كما نصبو إلى وأد الافتراض السائد لدى العديد من الناس أن الزوجة في كانت دوماً مغلوبة على أمرها وتفتقر للحيلة والوسيلة لحماية نفسها.
للزواج الشرعي أركان أساسية. الأول هو القبول من طرف والإيجاب من الطرف الآخر، ويكونان صادران باللفظ الصريح عن رضا وتوافق وبحضور الشهود. والثاني إشهار الزواج بحيث يصبح معلوما، وهذا ما تتكفل به حفلات الزفاف. والثالث هو تحديد شروط المتعاقدين وهو موضوعنا. وذهب جمهور الفقهاء الى اشتراط إذن ولي أمر المرأة (مثل أبيها أو جدها أو أخيها أو عمها....) لصحة العقد ولكن دون إكراه لها في ذلك. وخالفهم في ذلك الإمام أبو حنيفة النعمان والذي أجاز للمرأة البالغة العاقلة أن تزوج نفسها دون تواجد أو إذن وليها. وقد وجدنا العديد من عقود الزواج المدونة والتي أجازت للمرأة تزويج نفسها دون حضور وليها.
الزواج الشرعي يلزم الزوج بأمور عدة دون حاجة لذكرها في العقد. منها أن ينفق الزوج على زوجته وأولاده, وأن يسكنها في مسكن مستقل بها، وأن يقوم فعلاً في دفع مهرها المعجل والذي هو من حقها وليس من حق وليها. وفي حالة الطلاق على الزوج دفع المهر المؤجل ونفقة مدة العدة وتوفير السكن خلالها. كما أن الشرع يعطي حقوقاً للزوجة في إرث زوجها المتوفي وفي قبض مؤخرها قبل توزيع الإرث على مستحقيه. كانت هذه الأمور تطبق بحذافيرها في الماضي. فهذا القاضي الشرفي المالكي قضى باعتقال علي بن موسى لعدم دفع كامل المهر المعجل لزوجته وذلك بعد ادعائها وإقراره بذلك في 1554 م. وحكم القاضي محمود العثماني (1555م) باعتقال علي دحبور لعدم دفع مؤخر مهر مطلقته. أما القاضي أحمد الديري (1540 م) فقد ألزم بدر الدين بن ربيع بأن يسكن زوجته بدرية في مسكن شرعي وأن يؤمن لها مؤونتها. ونظراً لعدم إنفاق الزوج على زوجته صالحة إبنة خليل حكم القاضي سعد الدين المالكي (1543 م) عليه بتوفير كميات محددة من الأرز والسيرج والدبس والعدس والصابون واللحم كمؤونة شهرية لها. وهذا القاضي حبيب (1604 م) قضى للمطلقة رقية ابنة شمس الدين العينبوسي بنفقة عدتها ونفقة ولديها المتحصلين لها من مطلقها الغائب أبو بكر بن حموده, وأذن لوكيلها بالاستدانة والرجوع بالدين على أبو بكر المذكور.
لا يوجد سبب فقهي لإبرام عقد الزوج أمام القاضي الشرعي. ولكن وبسبب رغبة الزوجة أو الزوج في وضع شروط في العقد فإن التوثيق يصبح ضرورياً تحسباً لنشوب نزاع بينهما. كما كان كل منهما يحرص على التأكد من أن شروطهم مقبولة شرعاً من قبل القاضي وبالتالي تصبح ملزمة. فالشرع يبيح وضع أي شرط طالما كان يلبي أمرين. الأول أن يكون صادراً عن رضا وتوافق بين الطرفين لدى إبرام العقد. والثاني أن يكون الشرط وفق المعنى الوارد في حديث شريف :" المسلمون على شروطهم, إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" (أخرجه الترمذي والبيهقي).
وبعد مراجعة العديد من العقود التي أبرمت في محكمة القدس قبل قرون من الزمن, ظهرت أمور عدة كانت تقلق المرأة في الماضي لدى إقدامها على الزواج. فمثلا كانت تخاف غياب زوجها عنها أشهرا طويلة حتى في حالة توفر ما تنفقه من مال. كما أنه وكشأن كل امرأة في كل العصور كانت الزوجة تخشى إقدام زوجها على الزواج من أخرى خاصة إذا لم يكن سبب وجيه يستوجب ذلك. وكذلك أيضا إذا ما وطأ الزوج جاريته أو تزوجها. وأكثر ما كانت تخشاه الزوجة هو قيام الزوج بضربها وإيذائها جسديا, خاصة إن كان مخمورا. وكما ذكرنا في مقال سابق كان الشرع يعتبر تسبب الأذى الجسدي مخالفة تستوجب التأديب. وفي حالة وجود أولاد قاصرين تحصل للزوجة من زواج سابق, كانت المرأة تحرص على أن ينفق الزوج الجديد عليهم وإن كان غير ملزما بذلك شرعا. وكولع جميع النساء في كافة العصور كانت الزوجة تحبذ أن يخصص لها زوجها مبلغا من المال في كل حين كسوة لها لشراء الملابس واللوازم. كما كانت المرأة في الماضي تحب الاختلاط مع صديقاتها وأقاربها من النساء وتخشى منع زوجها لها من مغادرة بيتها أو من حضور الحفلات النسائية. ونجد أن بعضا من المخاوف أعلاها ما زال موجودا لدى المرأة اليوم. بيد أن الزوجة في الماضي كانت تعمل على تخفيفها من خلال ما تضعه من شروط في عقد زواجها. فحتى في أمور المهر كانت الزوجة أحيانا تصر على أن يكون على صفة نقد من الذهب الخالص وليس من النقد النحاسي أو الرصاصي المطلي بالفضة والذي كان يفقد قيمته بعد سنوات, أو يمنع التعامل معه. فكم من إمرأة في عصرنا الحديث تعي أهمية ذلك؟ فهي مثلا تحدد مؤجل مهرها اليوم بعشرات الآلاف من الدنانير الورقية لتجد أن قيمتها قد تدنت كثيرا بعد عشرات السنين. (سعر أونصة الذهب اليوم هو نحو 1200 دولار أمريكي, بينما كان نحو 35 دولارا قبل خمسون سنة. أي أن الورقة النقدية اليوم تساوي 3 % فقط من قيمتها الشرائية مما كانت عليه).
وفيما يلي بعض الأمثلة على ما تم شرحه أعلاه. فلدى قاضي القدس محي الدين الحنفي (1580 م), تزوج عمر بن الحاج حموده المرأة البكر البالغة رقية ابنة صالح على مهر معجله 40 قطعة ذهبية, ومؤجله 30 قطعة ذهبية, وكسوة سنوية مقدارها 4.5 قطعة ذهبية. والتزم الزوج في العقد بأن يطلق رقية ويدفع مستحقاتها في حالة أن أسكنها مع زوجته الأولى, أو تزوج بامرأة ثالثة, أو وطأ جارية بيضاء أو حبشية أو سوداء. وحكم القاضي بصحة العقد وشروطه. فعلى الرغم من أن رقية لا تستطع منع عمر عن ما هو حلال له بالزواج من امرأة ثالثة, بيد أن ذلك بات مشروطا بما هو حلال عليه أيضا بطلاقها. وحكم القاضي حسام الدين الحنفي (1557 م) بطلاق بزة ابنة محمد من زوجها محمد بن عبد الكريم بعد قبول بينتها بأنه ضربها وأن ذلك كان مخالفا لتعهده بعدم إقدامه على ذلك كما نص عليه عقد زواجهما. أما القاضي تقي الدين المالكي (1557 م) فقد الزم عساف بن اسماعيل بأن ينفق على أولاد زوجته فاطمة ابنة علي اليازوري, والمتحصلين لها من زواج سابق, بناء على التزامه بفعل ذلك في عقد زواجهما والذي تم ابرازه في المحكمة. وبناء على طلب الفية ابنة ابراهيم تعهد زوجها أحمد ابن الشاهد النابلسي في عقد زواجهما في 1621 م, بأن لا يكون سكناها خارج القدس إلا برضاها. واشترطت المرأة فاطمة في عودتها لمطلقها تحديد مهر جديد لها وكسوة سنوية وأن "يعاشرها بالمعروف ولا يشوش عليها ولا يضربها". والتزم الزوج بذلك في العقد الجديد المبرم بينهما في 956 للهجرة. أما آمنة ابنة عبد الله فقد اشترطت على زوجها في تلك السنة الطلاق الثلاث في حالة شربه الخمرة, وقبل الزوج ذلك بحضور القاضي الشافعي. أما حليمة ابنة محمد الغزي فقد شرطت في عودتها لمطلقها الحاج بيرام في 1580 م, أن لا يمنعها من الخروج من المنزل لحضور الحفلات النسائية وأن يدفع لها كسوة سنوية وأن جميع ما في بيته من إثاث يصبح ملكها بعد وفاته. وجاء ذلك في عقد زواجهما الجديد والذي التزم الزوج فيه بتوفير كسوة سنوية لزوجته. وفي 1583 م, طلبت فاطمة ابنة مزيد فسخ عقدها على الزوج حسن بن رمضان كونه غاب عنها أكثر من ستة أشهر مخالفا في ذلك شرط العقد الذي ابرزته في المحكمة. وحكم القاضي الحنفي بالفسخ بعد ثبوت الدعوى بحضور وكيل الزوج. وكانت الزوجة في الحالات المماثلة لغياب الزوج وعدم تواجد وكيل له في المحكمة تتوجه للقاضي المالكي أو الشافعي أو الحنبلي. وسبب ذلك عدم حكم القاضي الحنفي على الغائب الغير ممثل في المحكمة. فالمرأة في الماضي لم تخلو من الحنكة.
كان بالإمكان تغيير شروط عقد الزواج في الماضي من خلال إقرار وتعهد أحد أو كلا الزوجين وصادرا عن رضا وتوافق الطرفين. فهذا يوسف بن ربيع أقر برضاه في 1578 م بتغيير عقد زواجه بحيث يطلق زوجته الميسورة الحال ست العز مع حفظ حقوقها وذلك إن تزوج امرأة أخرى, أو وطأ جارية. وتعهد أيضا بطلاق جاريته السابقة مرجانة. وتم ذلك لدى قاضي القدس الحنفي عبد المحسن. وللعلم كان آل ربيع (العسلي اليوم) من كبار تجار القدس آنذاك. وعليه لم يكن إقرار الزوج المشروح أعلاه لأسباب مادية.
لم تسجل جميع عقود الزواج في محكمة القدس في الماضي. ويعود ذلك أحيانا لعدم مقدرة الأهالي أو رغبتهم دفع رسوم التسجيل المطلوبة. بيد أن ما سجل يكفي لإلقاء بعض الضوء على هذه العقود. ففي العام 1557 م على سبيل المثال تم تسجيل 142 عقدا كانت فيه الزوجة إما بكرا بالغة (68 %), أو مطلقة (13 %), أو أرملة (12 %), أو قاصرة (7 %). كما تم تسجيل 33 حالة طلاق تمت غالبيتها بمبادرة من الزوجة وموافقة الزوج بعد تنازل زوجته عن بعض أو كامل حقوقها. بيد أن أكثر من نصف المطلقات قد عادوا الى أزواجهم ولكن بعقود جديدة, وأحيانا بشروط أفضل للزوجة. ولوحظ إلغاء 6 عقود زواج لفساد فيها. أما بشأن الأرامل المنقطعات واللواتي لم يكن لهن مصدر رزق ونفقة فقد وجدنا أمرا في غاية الاستحسان. إذ أقدم الشيخ ابراهيم بن أبي شريف (وهو جد عائلة كمال في القدس) على إقامة وقف خصص ريعه للصرف على الأرامل المنقطعات في القدس. وبينت المحاسبة التي قدمها الناظر على الوقف الى قاضي القدس حسن في سنة 1578 م, أن كميات الحنطة المتحصلة من ريع الوقف وزعت على نحو 120 أرملة منقطعة في المدينة. وهذا يؤكد أن بيت المقدس في الماضي لم يخلو من الرحمة.