الكاتب: المتوكل طه
I
يتقدَّم الشاعر بقصيدته ليغزو العالم أو ليفهمه أو ليرفضه أو ليفسِّره أو ليصرخ في وجهه ، يرغب الشاعر أن يحشر العالم الواسع في لغة ضيقة ، ويرغب الشاعر أن يضغط الزمن في ثانية ، يتمنَّى الشاعر أن يلمس بروحه هذا الرحيق العجيب الذي يُدعى الحياة ، بلغة بشرية ليس إلاَّ، لغة بشرية بائسة وفقيرة وعاجزة ، وأنّى للشاعر أو للشعر أن يقبل بالبؤس والفقر والعجز .
الشعر يدَّعي كثيراً ، ويطلب النبوءة والكشف والاختراق والإحاطة.
الشعر فيه "آخرُنا" و"خارجنا" و"زمننا" و"مكاننا".
لكم يتواجد في الشعر من "الخارج" !!
لكم تتطامن الذات في التعبير عن نفسها !!
ولكم تخوننا لغتنا فلا تصبح مثلنا ولا كما نريد !!
وللشعر رغبة في المُقدَّس ، ذلك المقدَّس الذي يأتي من غريزة الخوف والعودة إلى الحضن الأول، فيأتي النصُ محمولاً ومضمَّخاً بالغامض والغارق في التأويل ، والتأويل هو المنطقة المشاع التي نختلف فيها ونتعارك عليها ونقيم أصنامنا ومعبوداتنا عليها .
التأويل "لآخرنا" و"لنا" ، أيضاً !!
يا لهذا الشعر الذي يجعلنا أو يوهمنا بأنَّنا أقوى وأقدر !!
لأعترف أنَّ كتابة الشعر تعني مقاربة ومقارفة "الثورة" !!
لأعترف أنَّ القصيدة نقيض و"تحريض".
لأعترف أنَّ الشعر – كما اكتشف الجرجاني ذات يوم – لا علاقة له بالسائد والمتعارف عليه.
***
هل الشعر علاقة انفصال أم اتصال بالعالم ؟!
هل هو علاقة تدمير وإفناء وإلغاء ، أم علاقة تكامل وتآلف ؟!
قد يبدو السؤال قديماً قدم الألم والفرح والخيبة والأمل ؟!
ولكن أليس الشعر مثل اكتشاف النار والعجلة والكهرباء ؟!
وإذا كانت تلك قد جعلت من الواقع أسهل وأقل تعقيداً وأكثر عرياً وفقراً وقلَّة غربة ، فإنَّ الشعر يغيِّر وظائفه مثل ما نغيِّر قمصاننا .
الشعر من مشغولات العالم ، يأخذ منه بنيانه وهندسته وألفاظه، ولكنَّه سرعان ما يتحوَّل إلى مشغولات سماوية ، فالعالم الذي ينهار يوماً فيوماً ، ويتآكل بوتيرة عالية ، ويُنتهك لحظةً بلحظة ، ويتذاوب في المختبرات ، يتحوَّل إلى مُكتَشفٍ مُذهلٍ في الشِعر.
هناك عوالم بعدد القصائد التي كُتبت أو قيلت .
هناك عالم واحد يتخلَّق في ملايين القصائد التي كُتبت وستكتب ، وهناك حلم واحد يشترك في تأليفه كل شعراء الدنيا الذين خُلقوا والذين لم يُخلقوا بعد .
فمن شعر الخوف إلى شعر العقل والمجالدة إلى شعر السِّحر والأحلام، إلى شعر التدمير إلى شعر التأمل ، هناك رغبة واحدة وحلم واحد – وربما هدف واحد – إلاَّ وهو فحص هذه الذات أمام هذا الواقع .
القصيدة "توهمني"بأنَّني أرى من أعلى ، وبأنَّني "أُشرف" من قمَّة !!
القصيدة تقدَّم لي "الإرث" كلَّه، لأجبل منه تمثالي ، وتقدَّم لي الكرم كلَّه لأصنع منه نبيذي .
الشعر فوق الزمن إذا تأمَّل ..
الشعر فوق التاريخ إذا رأى ..
نحن نجد أنفسنا دائماً في الشعر القادر على حثِّ فضولنا واستثارة كوامننا واكتشاف طاقاتنا الراقدة.
ولأنَّ الشعر تراكم التجارب واستخلاصات التاريخ ومفاجآت الاكتشاف ، ولأنَّه يُحمل بالموسيقى والإيقاع والغموض ، فإنه بقدر ما يجعلنا في "غربة" عن عالمنا ، بقدر ما "يجمِّل" هذا العالم.
يا الله !!
كيف لهذا الشعر أن يُشعل الغابات في لحظة ، وكيف له أن يُنضج دلّة قهوتنا الصباحية في لحظة أُخرى !!
للشعر أحابيله وأساليبه وألاعيبه ، وللعالم قوانينه ونواميسه ، والعلاقة بينهما كعلاقة الثائر بالتاجر، أولهما يرى في النهر مرآة، وثانيهما يرى فيه سمكاً .
لهذا الشعر – وهو من قولٍ لغوي ليس إلاّ – قوة التجميع وقوة التفريق ،
اللغة تحكم العالم ، وتهدمه ، أيضاً !!
والشِعر، بما فيه من خيال وتغريب ، حاول – في الماضي على الأقل – أن يتآلف مع العالم، فصاغ أساطيره جميعاً ، أما اليوم ، فإنَّ الشعر يصوغ أُسطورته لنفسه ، إنَّه يتواضع وينزوي، بعد أن صار الخيال والتغريب من صنع التكنولوجيا ، ولهذا ، فهو يحتفي بجمالياته وأساطيره بشكل انفرادي بعد أن فقد الجماهير.
للجماهير أوهامها ، ولإعلام التكنولوجيا أفانينها .
لعالم اليوم نثره وسردياته وصوره ، وللشعر أن يتعوّد انصراف الجماهير عنه ، بعد أن فقد هذا الجمهور آذانه واستعمل عيونه فقط. لم يُغمض "بوذا" عينيه عبثاً ، كان يريد أن يسمع .
نحن اليوم في عصر العيون بدل الآذان !!
والشِعرُ الذي كان يرغب دوماً "بالاتصال" يذهب الآن باتجاه "الانفصال" ، حاملاً معه غضبه وغموضه وادعاءاته !!
والشاعر يلهث للحاق أو الإمساك بما تبقى له من مساحة تسرقها منه تكنولوجيا البصر ، التي تكفي الإنسان شرَّ الخيال، بما تقدِّمه له من عمليات إبهار مذهلة .
الشاعر – والفنَّان – عموماً ، يسابق التكنولوجيا في تغوِّلها وسيطرتها ، ولهذا فهو يضطر إلى أن "يُشكِّل" قصيدته فيما بقي له من هوامش !!
والأزمة – هنا – هي أزمة تاريخ لا أزمة شعر !!
II
أزمة تاريخ أم أزمة شعر، هذا هو السؤال الذي دفعنا لمحاولة القراءة النصيّة والسوسيولوجية للنتاج الشعري والأدبي الفلسطيني في مراحل القوة والضعف، مراحل المواجهة والاحتواء والتمثّل والاستيعاب، مراحل توهّج الشعر وانكساره، أو محطاته التي كان فيها أحادياً ومطلقاً وتلك التي تواضع فيها وتطامن.
هنا أرغب في القول إن النتاج الشعري والثقافي الفلسطيني والعربي كذلك، كان أولاً وأخيراً، يعبر عن ثقافة غنية مليئة بالنماذج والسقوف والمُثل العليا التي ظلت وما تزال تشكل الملاذ الأخير لكل ما يقال أو يكتب، وإن لكل أمة عريقة هناك ما لا يُقايض به وما لا يُباع وما لا يغيّب، وإن هذا "المطلق" هو ما يقاس به وما يقاس عليه، رغم كل الإنكسارات والتسويات.
ولهذا يظل الشعر الأصدق في التعبير عن الوجدان العميق الذي هو بمثابة المسلمات، ولكن الشعر، أيضاً – بسبب من تاريخيته – يتذبذب بين المطلقية هذه والنسبية التي تجعله أكثر رغبة في "المعايشة" و"التفاهم" و"الفهم".
وثمة رغبة طموحة لتأصيل التجربة الشعرية الفلسطينية في مكانها وفي تاريخها، وخاصة، ذلك النتاج الذي صدر في الأرض المحتلة العام 1967، هذا النتاج الذي لم يُدرس بما فيه الكفاية، ولم يُتابع ولم يُسلط عليه الضوء الكافي، لأسباب عديدة ومختلفة، لا نرى فيها ما يبرر هذا التعتيم وهذا الاغماط ، فالنتاج الشعري الذي صدر في الأرض المحتلة العام 1967 كان شعراً حقيقياً وأصيلاً، ذلك أنه اجترح شكله ولغته وأسلوبه وصوره ومضمونه من بيت النار، ورغم هذه الضرورة التاريخية إلا أنه حمل معه ما يبرره وما يجمّله، أيضاً، هذا الشعر الذي لم يكن قادماً من "ثورة الخارج" ولم يكن قادماً من "أدب الداخل"، بل كان شعراً خاصاً يصدر عن معاناة الاحتلال والاستيطان والمصادرة والتقييد والسجون، فأتت مباشرته ووضوحه وشعاريته تماماً كواقعه، وصارت جمالياته تماماً كمعاناته، وتحولت أساليبه تماماً كإيقاع الحياة من حوله.
وبعد هذا كله، فهو جزء من تاريخ الشعر الفلسطيني، ومحطة أصيلة من محطات تطوره وتنوعه.
ولا بدّ من محاولة طموحة لرصد هذا الشعر من زوايا مختلفة وعديدة، لتقدم مفاتيح دراسة، ومناهج بحث، ولتشكل دراسة أولية تحريضية للدارسين والباحثين والنقاد والأجيال الفلسطينية والعربية للتأمل في الشعر تحت الاحتلال، وللتحديق في الفلسطيني الذي لم يهن ولم يضعف ولم يستسلم، ولدور الشاعر الفلسطيني الذي لم يهرول أو ييأس أو يختفي.
وربما كانت القضية الأكثر بروزاً في الشعر الفلسطيني خاصة والعربي عامة هي قضية العلاقة مع "الآخر" على مختلف مستوياته وتجلياته، فالعلاقة مع "الآخر" شكلت دائماً المحرّض لهذه الأمة في تفاعلاتها وحركتها التاريخية والاجتماعية.
فالآخر الغازي والقوي والمستعمِر و"المتنوّر" والباحث و"اللأخلاقي" كان دائماً مصدر إثارة وقلق ومخاوف، ويمكن القول إن ثقافتنا العربية الإسلامية في جزء كبير منها كانت ردوداً أصيلة – أو أقل أصالة – على الآخر ، حسب فترات القوة والضعف، وهكذا كان شعرنا الفلسطيني والعربي، وكذلك معظم النتاج الثقافي العربي وخاصة في العصور الحديثة التي كان فيها "الآخر" ليس مجرد المستعمِر دائماً أيضاً الباحث والعالم والمفكر وحتى الشاعر.
ولا بدّ من نقاش لرصد طبيعة تلك العلائق مع "الآخر" في حضوره لدينا وفي الصورة التي كونها عنّا والتي كونّاها عن أنفسنا بتأثير منه، وكيف تفاعلت تلك الصور فيما بينها لتصوغ ردوداً ثقافية غاية في التنوع – تلفيقاً وترقيعاً وانتقاء وانتفاء وأغماطاً وأصالة - .
.. ويبقى الشّعر غنائية الشعب ، في تغريبته وعودته الأكيدة .