نشر بتاريخ: 23/03/2016 ( آخر تحديث: 23/03/2016 الساعة: 10:54 )
الكاتب: د. "محمد علي" العلمي
في يوم الجمعة 23 من شعبان, 492 للهجرة, الموافق 15 تموز 1099 م, اقتحمت قوات الصليبيين أسوار القدس وتغلبوا على حاميتها من الفاطميين. وما لبثوا أن عملوا السيف في الأهالي رغم استسلامهم, وكانت مجزرة لا ينكرها القاصي ولا ينساها الداني. إذ ذبح الآلاف من المسلمين يومها في الأقصى وجمع اليهود في كنيسهم وتم حرقهم فيه. وتبع ذلك اضطهاد أهالي المدينة من المسيحيين لا لسبب سوى أنهم ينتمون للطائفة الشرقية. وتوالى سقوط المدن في فلسطين وبلاد الشام. أما دمشق فقد اضطر حاكمها لدفع مبلغ سنوي من المال للغزاة ليدرأ شرهم, وأصبحت المدينة تعج بمن لجأ اليها حتى أصبحوا ينامون في الطرقات.
ونتيجة لما حصل لم يبق أي أثر للمسلمين أو اليهود في القدس والرملة وعسقلان وطبريا والخليل وهي المدن الفلسطينية الرئيسية آنذاك. ولكن سرعان ما أدرك الصليبيون أن أعدادهم لا تكفي لاستيطان كلا المدن والقرى, خاصة وأنهم يحتاجون لمن يزرع ويفلح الأرض لإطعام جيوشهم وإطعام سكان المدن من الغزاة والوافدين اليها من أرجاء أوروبا الغربية. فالصليبيون على وجه العموم استوطنوا فقط المدن المحصنة بالأسوار والقلاع الكبيرة منها والصغيرة والتي انتشرت في كل مكان ذو أهمية عسكرية. فمثلا يمكن للمسافر من القدس الى أريحا أن يرى بقايا قلعة صليبية صغيرة على رأس التل المعروف بالخان الأحمر على يسار الطريق. (البناء المقابل على يمين الطريق هو قلعة عثمانية بنيت لحماية المسافرين أثناء توجههم لمقام النبي موسى). وفي مثال آخر كان للصليبيين قلعة صغيرة في منتصف الطريق من القدس الى نابلس أعطوها اسم Saint Giles والتي سماها العرب بسنجل بعد تحريرها. أما بشأن أهالي قرى فلسطين فقد اتبع الصليبيون نهجا آخر. إذ امتنعوا عن تهجير القرى من سكانها الأصليين. لا بل تفيد بعض كتب التاريخ الى أنهم منعوأ من أراد الهجرة منها. إذ كانت تفرض على هذه القرى كميات وأنواع محددة من المنتوج الزراعي وبغض النظر عن عدد سكان القرية أو مساحاتها الزراعية.
بقيت أهالي القرى, وغالبيتهم من المسلمين, في قراهم أثناء الحكم الصليبي. وقد وصف الرحالة العربي الأندلسي ابن جبير وضع الأهالي من المسلمين في القرى التي مر بها أثناء سفره من دمشق الى طبرية ثم الى عكا ليسافر منها بالبحر الى بلاده. وكان ذلك سنة 580 للهجرة, 1184 م, وقبل فتح صلاح الدين لبيت المقدس بثلاث سنوات. وذكر بأن الافرنج كانوا يأخذون رسوما من المسافرين المسلمين ومضاعفة ذلك إن كن من المغاربة والاندلسيين بسبب نصرتهم في الماضي لنور الدين الزنكي. ووصف كيف أن أهالي قرى المسلمين كانوا يدفعون نصف غلتهم للصليبيين إضافة الى جزية تفرض على كل فرد منهم. وأضاف كيف أن مساجد عكا قد حولت الى كنائس باستثناء مسجدا واحدا بقي للمسلمين.
وفي قرى جبل نابلس أبقى الصليبيون أهلها من المسلمين لتوفير ما يحتاجونه من محاصيل زراعية ومواشي. والغريب في الأمر أنه على الرغم من صعوبة العيش حافظت أهالي القرى على متابعتها في تحصيل العلم خاصة الفقهية منها. ونذكر هنا قرية بورين (ولعلها عراق بورين) والتي كان بها علماء من المذهب الشافعي. إذ اختار صلاح الدين بعد فتحه للقدس أحدهم, غانم بن علي بن حسين الأنصاري الخزرجي, ليكون أول شيخ لمدرسة الخانقاه الصلاحية والتي أصبحت أهم مراكز الصوفية في المدينة. (ونرجح أن يكون الشيخ المذكور هو جد العائلة المقدسية المعروفة اليوم بنسيبة الخزرجي). أما إذا ما اتجهنا جنوبا نجد دير إستيا والتي كان أهلها على المذهب الحنفي. (ونرجح أن يكون أصل العائلة المقدسية المعروفة اليوم بإسم الخالدي, والتي كانت تعرف بالديري سابقا, من هذه القرية). ولكن إذا ما اتجهنا شرقا الى مردا وجماعين نجد أن معظم أهلها كانوا يتبعون المذهب الحنبلي.
كانت قرى مردا وجماعين (وكانت تدعى جماعيل آنذاك) وأيضا ياسوف إقطاعا لأحد كبار الصليبيين يدعى بن بارزان, والذي اشتهر بفرضه جزية على الأهالي المسلمين أضعاف ما كان يفرضه غيره. وكان في قرية جماعيل فقيه حنبلي يدعى أحمد بن محمد بن قدامة عرف بخطابته في الناس أيام الجمعة دعاهم فيها الى رفض الظلم. ولما علم بن بارزان بذلك عزم على قتله. فعندها اتفقت ثلاث عائلات من القرى المذكورة على الهرب الى دمشق. وهذه العائلات كانت من بنو قدامة وأولاد الجعفري الحنبلي وأولاد أبي عمر. كان ذلك في شهر شوال من سنة 551 للهجرة, 1156 م. وفعلا رحل نحو 40 نفرا من الرجال والنساء والأطفال في اتجاه غور الأردن. بيد أن فرقة من فرسان الصليبيين من نابلس لاحقتهم لإرجاعهم الى قراهم. وظل المهاجرون ينامون نهارا ويسيرون ليلا تفاديا لأسرهم. وفي الطريق لجأوا الى قرية جبعيت حيث أطعمهم أهلها الى أن واصلوا سيرهم واختبائهم بين نباتات الشريعة (على ضفاف نهر الأردن). وبعد مضي ثمانية أيام من السفر المضني وصلوا الى دمشق ليجدوها وقد غصت بالمهاجرين من بلاد الشام. واضطر هؤلاء الى المبيت في جامع كان يدعى بأبي صالح والواقع بجانب الباب الشرقي لدمشق. ولحق بهم آخرون من قرى جبل نابلس مثل جيت وساريسا ودير عوريف, وأيضا مهاجرين كانوا قد لجأوا الى جبل عامل الواقع جنوب لبنان.
كانت أوضاع مهاجري جبل نابلس في غاية السوء. إذ فتك بهم المرض والموت نتيجة ظروفهم الصعبة, الأمر الذي دعاهم الى الخروج من داخل دمشق واللجوء الى سفح جبل قاسيون خارج المدينة والذي كان خاليا من السكان آنذاك, وشرعوا في بناء منازلهم ومساجدهم ومدارسهم. وعرف المكان فيما بعد بدير الصالحية نسبة الى المسجد الذي آواهم عند نزولهم دمشق. (والصالحية اليوم هي إحدى ضواحي دمشق, وتظهر في المسلسلات التلفزيونية). شرع أصحابنا بتدريس مذهبهم الحنبلي والذي لم يكن شائعا كثيرا في المدينة. كما أقاموا حلقات التدريس كل ثلاثاء في المسجد الأموي. وظهر منهم علماء في فقه هذا المذهب وفي علوم الحديث, وشاع صيتهم في بلاد الشام ومصر. ونذكر هنا ثلاثة من مشاهيرهم فقط ممن ولد في جماعيل ومردا ورحلوا الى دمشق: الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي الجعفري (توفي في 600 للهجرة, 1203 م) ومحمد بن أحمد بن محمد بن قدامة (توفي في 607 للهجرة, 1210 م) وعبد الله بن محمد بن قدامة (توفي في 620 للهجرة, 1223 م).
وبسبب غزارة علم هؤلاء هرعت ملوك وأمراء الدولة الأيوبية في تكريمهم وكذلك فعل كبار دولة المماليك. فبنيت لهم العديد من المدارس الحنبلية ودور الحديث والمساجد والزوايا في الصالحية ودمشق وبعلبك وغيرها. كما تم وعبر القرون تعيين العشرات منهم قضاة في بلاد الشام ومصر والعراق. وجدير ذكره أن أهل الشام كانوا يلقبونهم بالمقدسي أو القدسي نظرا لقدومهم من أكناف بيت المقدس ولعدم معرفتهم الوافية بقرى فلسطين.
بعد فتح نابلس من قبل صلاح الدين رجع بعض من أصحابنا الى جماعين ومردا. (وقد قابلت بعضا من كبار السن من أحفادهم في جماعين قبل ثلاث عقود. وكم سررت بأن بعضهم كانوا على علم بتاريخ أهل قريتهم). واستوطن البعض الآخر من أهل صالحية دمشق مدينة نابلس وبنوا فيها ما يعرف اليوم بالجامع الحنبلي (قرب خان التجار). وباشر هؤلاء في تدريس المذهب الحنبلي في المدينة, كما درسوا الحديث والفقه طوال العهدين المملوكي والعثماني. وشغل العديد منهم في سلك القضاء الحنبلي في القدس ودمشق والقاهرة. ونسوق كمثال المرأة العالمة مريم ابنة عبد الرحمن الملقبة بست القضاة من نابلس (المتوفية في 758 للهجرة, 1357 م). إذ عرفت بهذا الأسم نظرا لتولي أبوها وجدها وأجداده من قبل وإخوتها وابنها عبد القادر منصب القضاء ابان العهود الأيوبية والمملوكية. أما هي فقد كانت عالمة في الحديث والفقه الحنبلي ودرسته في نابلس ودمشق, كما روى عنها عالم الحديث المشهور ابن حجر العسقلاني. ولعمري لم أجد لها إسم على شارع أو زقاق في نابلس, شأنها في ذلك شأن آخرين (مثل المرحوم المؤرخ إحسان أغا النمر والتي تحتفظ المكتبة البريطانية بكتبه في لندن). ست القضاة هذه كانت من سلالة عائلة الحافظ عبد الغني المذكور سابقا, والتي ينتمي اليها اليوم عائلتي هاشم والحنبلي في نابلس.
ظلت نابلس من أشهر المراكز للفقه الحنبلي ليس فقط في فلسطين وإنما في بلاد الشام ومصر طوال العصرين الأيوبي والمملوكي. أما في العصر العثماني فقد انحازت سلاطينهم للمذهب الحنفي. فعلى الرغم من عدم اضطهادهم للمذاهب الأخرى إلا أننا نجد أن معظم تعييناتهم للمدارس الدينية والقضاء كانت لمن اتبع المذهب الحنفي. وهذا ما فعلوه ليس في نابلس والقدس والخليل فحسب, بل في كافة أرجاء مملكتهم. وانقلب العديد من العلماء ليتبعوا هذا المذهب بحثا عن أرزاق لهم. أما حنابلة نابلس وجبلها فقد بقوا على العهد بما كانوا يتبعون.
بقي أن نذكر أن أستاذا للتاريخ في جامعة كاليفورنيا قال لي يوما بأن لأهل دمشق وطرابلس (الشام) ونابلس العديد من العادات المشتركة في حياتهم اليومية والاجتماعية, وحتى في ما يصنعونه من الحلويات مثل الكنافة. وبطل عجبه حين رويت له ما تقدم. فكل التحية لجماعين ومردا وياسوف وغيرها من قرى جبل نابلس. رفضوا الظلم في الماضي فأبدعوا.
(هذه المقالة مهداة لذكرى المرحوم د. هشام رفعت هاشم النابلسي المولد, الجماعيلي الأصل, ومؤلف العديد من الكتب والمراجع في القانون).