نشر بتاريخ: 04/04/2016 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:09 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
في خمسينيات القرن الماضي كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قصيدة "المومس العمياء"، والصحيح أنها ملحمة شعرية تلخص كيف دفع الفقر في العراق فتاة عماء فقيرة لامتهان الدعارة، وهي من أقسى الرسائل الناقدة للسياسيين العراقيين في ذلك الوقت والذين كانوا يرفلون في الفساد فيما الشعب يموت من الجوع، وقد استخدم الشاعر حوارا بين العمياء وبين نفسها في وصف التردد الذي يعيشه السياسيون الذين يقولون ما لا يفعلون، وينتقلون من اليسار الى اليمين بلمح البصر لمصالح ذاتية، وكيف ان المبادئ تنحسر والمصالح تتقدم عليها، وفي النهاية تنتصر الغريزة على العقل.
والموت يلهث في سؤال
باق كما كان السؤال، ومات معناه القديم
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه
وما الجواب؟
ويفترض أن الادباء والشعراء والفنانين والنحاتين ومثلهم، هم الكشافة الذين يستطلعون الطريق لاي مجتمع من المجتمعات البشرية، ولو أردنا ان نعرف مستقبل شعب من الشعوب لا يفترض بنا أن نسأل السياسيين في ذلك المجتمع لأن اجابتهم غالبا ما تمثّل رؤيتهم الشخصية لمستقبلهم هم، وعلينا ان نذهب فورا لمشاهدات مسرحيات هذا الشعب وأفلامه ومقالاته وأشعاره ورؤيته الادبية والشعرية والفنية، وحينها سنجد بوضوح شديد الى اين يتجه هذا الشعب وان كانت النتيجة مخالفة للمتوقع. ويكفينا ان نعيد الى الذاكرة فنون وأشعار ومسرح ومسلسلات واغاني فلسطين واليمن ومصر والعراق ولبنان وسوريا قبل عشر سنوات لنرى انها فعلا حدثت ووقعت تماما، كما توقع المثقفون ورسامو الكاريكاتيرات والفنانون في كل مجتمع من هذه المجتمعات.
مات الضجيج وأنت، بعد، على انتظارك
تتنصتين، فتسمعين
رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه:
الباب أوصد
ذاك ليل مر...
فانتظري سواه.
وربما يستغرب البعض ان الامور أكثر وضوحا مما توقعنا، حتى ان المراحل التي يمر بها كل مجتمع كانت مكتوبة فعلا، ولو عدنا الى رسومات الفنانين في غزة قبل الحصار، والى القصص القصيرة والمسرح لوجدنا كل ما حدث، كان مكتوبا وبشكل واضح ولكننا لم ننتبه. كما ان مرحلة ما بعد عرفات كانت جلية وواضحة وضوح الشمس.
الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة
والعابرون الى القرارة .. مثل أغنية حزينة
وتفتحت كازهار الدفلى، مصابيح الطريق
وفي تشيلي كتب الاديب العالمي بابلونيرودا في السبعينيات لاهله (اني أرى الدماء تسيل من خواصركم) فقال النقاد: جن بابلينيرودا. ولكن وبعد سنوات اندلعت الحرب الاهلية وصارت الدماء تسيل في الشوارع. فكتب النقاد: صدق بابلينيرودا.
وكأنها نذر تبشر أهل بابل بالحريق
قابيل اخف دم الجريمة بالازاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء
ومؤخرا وكلما اقتربت من الناس، أشعر ان شيئا ما سيحدث لكنني لا أعرف ما هو ولا في اي اتجاه. واتنقل بين المدن في الارض المحتلة، واحس بنبض يسري في القدس ونحو القدس، واعرف ان هذا الليل الذي نعيش فيه لن يطول وهو زائل كما يزول ليل مدلهم عن مدينة مليئة بالسكارى. وان العمياء التي تسمع صوت الثمالى في الازقة لا تستطيع ان تمنع النهار من القدوم.
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة
والليل زاد لها عماها
والعابرون:
الاضلع المتقوّسات على المخاوف والظنون
موتى تخاف من النشور
قالوا سنهرب ، ثم لاذوا بالقبور من القبور
أحفاد "اوديب" الضرير ووارثوه المبصرون
حين أرى فنانا فلسطينيا من غزة أو من رام الله أو حيفا رسم لوحة فنية، يصيبني فضول شديد لأراها وأتامل بها لاقرأ مستقبلنا، وحين يكتب المتوكل طه أو غسان زقطان أو عز الدين مناصرة أو غيره من شعراء فلسطين قصيدة، أتوقف عندها جيدا لأقرأ ما بين سطورها. وتذكرون جيدا حين كتب محمود درويش في العام 2002 (أخشى من الطالبانية) ولم نقف عند كلامه كثيرا لكننا لغاية يومنا هذا نشهد الحروب مع وعلى داعش وقد اجتاحت كل العواصم العربية.
ولو عدنا اكثر الى أيام مسرحيات شكسبير، لعرفنا ان صراع الكنيسة مع السياسيين كان متوقعا، حتى وجدنا بريطانيا التي نعرفها الان، ومثلها فرنسا وروسيا.
وأريد ان أؤكد ان هذه المقالة أدبية وليس لها اي بعد سياسي، وحين أقول مدينة لا أقصد غزة ولا رام الله ولا يافا ولا القدس، وحين أقول المومس العمياء لا أقصد جهة ولا سلطة ولا حركة ولا حزب ولا حكومة، وانما اقصد الراهن العربي الذي صار كله "حين ميسرة".
فهل نحن في مرحلة المومس العمياء؟