نشر بتاريخ: 10/04/2016 ( آخر تحديث: 10/04/2016 الساعة: 14:07 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
استحوذت زيارة وفد حركة حماس الأخيرة إلى القاهرة، ولقائها بالمخابرات العامة في مصر، على اهتمام وسائل الإعلام والمحللين والنقاد، وأعقبها سلسلة من التحليلات البلاغية، والتعليلات، أعادت من جديد جدلية العلاقة بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، من حيث محددات الاقتراب والافتراق، وبين حدود التماهي والانفصال، إذ فسر بعض المحللين قيام حركة حماس برفع بعض اليافطات التي تحوي صورا لرموز الإخوان من شوارع غزة، وما أعقبها من تصريحات أكدت على استقلال الحركة تنظيميا عن الجماعة، ورغبتها فتح صفحة جديدة من العلاقة مع النظام المصري، على أنها إعلان انفصال للحركة عن الجماعة، وانطلاق مرحلة جديدة في مسيرة حماس، فيما رأى بها آخرون خطوة تكتيكية تندرج في إطار المصالح المرحلية، وفقه التوازنات، في ظل التغييرات المتلاحقة في المنطقة، وإدراك حماس بأن رهانها على عودة الإخوان للمشهد السياسي المصري هو ملاحقة للسراب.
لا يمكن الإلمام بقراءة موضوعية ووازنة لطبيعة العلاقة بين الحركة والجماعة، من خلال الارتكاز إلى خطوات رمزية، أو تصريحات شعبوية، فعلى الرغم من أهمية التصريحات الإيجابية في رأب الصدع في العلاقة بين الفرقاء، وضرورة الخطوات الرمزية لتمهيد الأجواء لبناء الثقة، إلا أن تلك الخطوات تبقى في إطار الشكليات، ما لم يسبقها، ويرافقها تغييرات في البنى الفكرية، والسياسات، ولكي نتحرر من أمواج الحماسة العابرة في محاولتنا لاستشراف مستقبل العلاقة التنظيمية والفكرية بين حماس والإخوان، فإن ذلك يستدعي قراءة موضوعية في فكر الحركة، وسياساتها العملية، وهو الأمر الذي يتطلب سبر غور ميثاق الحركة، ومذكرتها التعريفية، وأفكار منظريها، وبرنامجيها الإنتخابي والحكومي، وسلوكها العملي قبل وخلال وبعد فترة حكم الإخوان .
فعلى صعيد ميثاق الحركة، وهو المؤصل للمرجعية الفكرية والسياسية لها، والذي لا يزال موجها لسلوكها ومواقفها تجاه نفسها والآخر، تفتتح الحركة الميثاق بالآيتين 112-1100، من آل عمران، تليها مباشرة مقولة لمؤسس جماعة الإخوان حسن البنا يقول فيها " ستقوم إسرائيل، وستظل قائمة، إلى أن يبطلها الإسلام، كما أبطل ما غيرها " كما تؤكد الحركة في المادة الثانية من ميثاقها بشكل لا يقبل المواربة والتأويل بأنها " جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، لتعود وتؤكد على ذلك في المادة السابعة منه، حين تصف نفسها بأنها إحدى حلقات الجهاد المتصلة بالمجاهدين من الإخوان المسلمين عام 1936، وجهادهم في فلسطين عام 1948، وحماس هي جزء من التنظيم الدولي للإخوان، الذي يضم مختلف فروعه في مختلف دول العالم، كما أن تأسيس حركة حماس ما هو إلا انزياح لأعضاء الإخوان المسلمين، ولا سيما الشباب منهم، نحو الحركة الجديدة، حاملين معهم ميراثهم الفكري، والحركي، وتجربتهم الحزبية في صفوف الإخوان، فيما فضل آخرون البقاء في جماعة الإخوان من أمثال المرحوم الشيخ حامد البيتاوي، رئيس رابطة علماء فلسطين، الذي رفع المصحف في إحدى جلسات المجلس التشريعي، مرددا ا قسم الإخوان المسلمين.
أما على صعيد المذكرة التعريفية للحركة، والتي كتبت عام 1993 لتكمل الميثاق لا لتتجاوزه، والتي امتازت بطابعها السياسي، ورآها التفصيلية، ابتداء من استعدادها للانضواء في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وفق شروطها، وتحريم الاقتتال الداخلي، واستخدام العنف ضد الآخر الفلسطيني، والإشارة بأن الحركة غير معنية بالشؤون الداخلية للدول الأخرى، فقد تجاوزتها الحركة على صعيد السلوك، من خلال انحيازها لحكم مرسي، وتنظيمها احتفالات شعبية في قطاع غزة، ابتهاجا بفوزه في الانتخابات، كما سبق أن أقسم عشرات الآلاف من أنصار الحركة قسم الإخوان في ذكرى انطلاقة حماس الحادية والعشرين في غزة، قبل أن يعود نائب رئيس المكتب السياسي للحركة اسماعيل هنية، ليؤكد في العام اللاحق أن حماس هي الفرع الفلسطيني للإخوان، ومن ثم تنظيمها لمسيرات دعما لحكم الإخوان بعد ثورة 30 حزيران الذي وصفته بالانقلاب العسكري، وتنظيم عروضا عسكرية لكتائب القسام رفع المشاركون بها إشارة رابعة ، وحشدها لمختلف وسائل إعلامها، وفضائياتها، ومواقعها الإخبارية، وصفحاتها عبر مواقع الإعلام الالكتروني، للدفاع عن نظام المخلوع، واتهام الجيش المصري بالانقلاب العسكري، وهو الأمر الذي حدا بجميع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 23-7-2013 إلى دعوة حماس إلى عدم الزج بنفسها وبالقضية الفلسطينية في الِشأن المصري الداخلي، وبغيرها من القضايا العربية الداخلية .
وعلى صعيد الفكر والأيديولوجيا ، وهو الأهم في دراسة علاقة الحركة بالجماعة، وفي توجيه سلوكياتها، وتحديد مواقفها من مختلف الشؤون، فلم تأت حركة حماس عند انطلاقها بفكر جديد، واقتبست أدبياتها الفكرية وتأصيلاتها النظرية عن جماعة الإخوان، سواء المدرسة الإخوانية الأولى ممثلة بحسن البنا وسيد قطب، والتي وإن افترقت معها حماس في بعض القضايا الفقهية كون البنا كان أشعريا، " كرسالة العقائد " التي لا تدّرس في أسر الحركة، إلا أن رسائل البنا الأخرى، ورآه الفكرية وتأصيلاته النظرية يعتبران مرجعا أساسيا للحركة، بالإضافة إلى أفكار سيد قطب " منظر الفكر الأصولي العنفي الدموي " الذي يعتبر أحد رموز الجماعة والحركة على حد سواء، مرورا بالأفكار السلفية الإعتقادية التي اخترقت صفوف الجماعة منذ خمسينيات القرن الماضي، أثر صراعها مع نظام عبد الناصر، وانتقال عددا من قياداتها لدول الخليج، التي احتضنتهم في تلك المرحلة، ووفرت لهم ملاذا، وقاعدة للتمدد والانتشار والتمويل، في إطار صراعهما مع فكرة الوحدة العربية التي كان يقودها الرئيس جمال عبد الناصر، ومرحلة السبعينيات التي تميزت بسياسة الباب المفتوح، والتسامح، التي انتهجها الرئيس المصري محمد أنور السادات لاحقا، وهو الأمر الذي استلهه مؤسس الحركة الشيخ الشهيد أحمد ياسين، إذ أوصى بتدريس " شرح أصول العقيدة الإسلامية " لأبناء الحركة، والذي كان قد قرأ " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي، وكلا الكتابين يتبعان المدرسة السلفية القائمة على اجتهادات ابن تيمية .
كما تتبنى الحركة موقف جماعة الإخوان المسلمين من موضوع الحكم والإمامة والسياسة، باعتبارها من أصول الدين، على خلاف موقف رواد المدرسة الفقهية السنية، من أمثال محمد عبده، وكمال الدين الشافعي ، وابو المعالي الجويني، وفريد الأنصاري، الذين اعتبروها من القضايا الفرعية، وهو الأمر الذي أحدث ثورة كبرى وانقلابا عميقا في نظرة الفقهاء للسياسة، على الصعيدين العملي والنظري، مما مهد لتوظيف الشرعي لخدمة السياسي، وأوجد مبررات شرعية للكثير من السلوكيات السياسية، كما تميز فكر البنا بقدرته الكبيرة على النفوذ والتأثير البنيوي في فكر المجتمع، من خلال تبني خطابا شعبويا بسيطا، استطاع تجاوز الخطابات النخبوية لمنظري الفكر الإصلاحي الإسلامي من أمثال محمد عبده، والأفغاني، ومحمد رشيد رضا، والذي انكفأ برحيل أصحابه دون أن يخترق البنى الفكرية لعامة الشعب، في حين استطاع فكر الجماعة أن يحقق الاختراق والإستمرار، وهو الأمر الذي استلهمته حماس في برامجها الإنتخابية ورسائلها للمواطنين، والتي تميزت بالشعبوية والبساطة، على غرار " أمريكا وإسرائيل تقول لا لحماس، وأنت ماذا تقول ؟"، او شعار الحركة المفعم باستحضار القيم التي تلامس الشعور الديني للمواطنين " الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أغلى أمانينا " وهو الشعار ذاته المقتبس من الإخوان، على خلاف حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي استطاعت أن تتميز بانفتاحها الفكري، واستلهامها في تأصيلها لأدبياتها الفكرية من عدد أوسع من المنظرين المسلمين، أبرزهم جمال الدين الأفغاني، وهشام شرابي، وعلي شريعتي، وتوفيق الطيب، وأبو القاسم الحج حمد، ومالك بن نبي، وسيد قطب، وقبولها للشراكة والانفتاح على الآخر، وإبراز القضية الفلسطينية باعتبارها " قضية الأمة المركزية "، متقدمة على رؤية حماس التي حددت علاقتها بغيرها من القوى على الساحة الفلسطينية ضمن قاعدة الولاء والبراء، وملامستها حدود التكفير والإخراج عن الملّة للقوى اليسارية والتقدمية، قبل أن تعود وتتحالف معها لاحقا لتحقيق مصالح الحركة، ورغبتها الجامحة بالحكم، كما حدث في العديد من الجامعات والمجالس المحلية، محتكرة حق تحديد الصواب من الخطأ، إذ تشير في ميثاقها بأن " لحركة المقاومة الإسلامية الحق في بيان الخطأ والتنفير منه، والعمل على بيان الحق وتبنّيه في القضية المطروحة بموضوعية".
كما لا يمكن فهم علاقة حركة حماس بالإخوان دون الإطلال على فقه التوازنات، أو فقه الأولويات، أو ما يعرف بمصلحة الدعوة، والذي وظفته الحركة والجماعة مرارا لمنح العديد من سياساتها صبغة شرعية، والقائم على تفضيل درء المفسدة الحزبية على جلب المصلحة، واتخاذ القرارات وفقا لمبدأ مصلحة الحركة، ورؤاها الإستراتيجية، التي قد تتطلب في بعض الأحيان اتخاذ خطوات تكتيكية مغايرة لمسار رؤاها الإستراتجية، لدرء المفاسد، ولحماية ذاك المسار على المدى الإستراتيجي، تماما كما فعل حسن البنا حين وصف قتلة النقراشي باشا من أعضاء النظام الخاص الذي أسسه بنفسه بأنهم " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"، ووصفهم قبل ذلك للملك فاروق "بأمير المؤمنين"، ووصفهم للرئيس السادات "بالرئيس المؤمن "، قبل الافتراق معه، وتخوينه، والتحريض عليه، واغتياله من أحد الأعضاء الذين نشئوا على أفكار الجماعة، كما انتهجتها حركة حماس في موقفها من الأزمة السورية، الذي امتاز بالمواربة والضبابية، قبل أن تقرر أن تغادر دمشق والتوجه الى الدوحة، في خطوة تشي بحجم النفعية المتفشية في سلوك الحركة، وكذلك إفتاءها بإباحة استخدام التورية، حيث يقول عضو المكتب السياسي للحركة محمود الزهار في كتابه إشكاليات الخطاب الإسلامي المعاصر " لا شك أن الموقف الاسلامي المرحلي قد يختلف في ظاهره عن الهدف النهائي في بعض الأحيان "، وهو الأمر المثبت في تجارب حركة حماس السابقة، فقد سبق وأن أعلنت الحركة التزامها بوحدانية تمثيل منظمة التحرير في اتفاق القاهرة عام 2005، فيما عادت لتتجاوز الأمر في برنامجها الحكومي عام 2006، كما أنها سبق وان رفضت أي تهدئة مع المحتل، ثم عادت لتطرح هدنة طويلة مغلفة بمسوغات شرعية، وسبق أن رفضت المشاركة في الانتخابات التشريعية في العام 1996، ومن ثم عادت وخاضتها في العام 2006.
على كل حال، من المؤكد أن التورية، والمواربة، وانتهاج فقه التوازنات لم يعد يتماشى مع متطلبات المرحلة، التي تفرضها طبيعة الإصطفافات في المنطقة، فقد حاولت حماس المواربة في موقفها من الأزمة السورية، إلا أنها اصطدمت بحائط عدم قدرتها على المناورة، فيما لا تزال تحاول المناورة مجددا في علاقتها بالإخوان، على أمل المزاوجة بين مغنم العلاقة مع النظام، والحفاظ على مكانتها بين أبناء الجماعة في مصر، في خطوة تدل على قصر نظر، وتعويل على عودة لن تكون للإخوان، وهو الأمر الذي يعيه النظام المصري جيدا،كونه الأكثر خبرة وتجربة ودراية في التعاطي مع حركات الإسلام السياسي عبر التاريخ، فيما طموح حماس بالاعتراف الإقليمي، وبلعب دور شرعي ومعترف به في المشهد السياسي الفلسطيني له مسار وحيد، وهو مسار الوحدة الوطنية، وانهاء الانقسام، والاتفاق على برنامج وطني مشترك، وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، وإعادة بناء منظمة التحرير بما يكرس حقيقة كونها ممثلنا الشرعي والوحيد، ومظلتنا الجامعة في الوطن والشتات، كما أن أي خطوة تساهم في رفع المشقة والعناء عن أهلنا في قطاع غزة، وتسهم في تقريب حماس من مصالح شعبنا ، يجب أن تلاقى بالترحيب والدعم، وأي سياسات تسهم في عودة حماس إلى البيت الفلسطيني، ومفارقة الانقياد المطلق لجماعة الإخوان، وما يقتضيه ذلك من مغارم باهظة، لشعبنا وقضيتنا، هو خبر سار للكل الفلسطيني، كما أن التقاء حماس بالنظام المصري هو خطوة في الاتجاه الصحيح، فمصر هي القلب النابض للأمة العربية، وهي الدولة المركز، وهي الوحيدة المؤهلة والموثوقة لكي تلعب دورا محوريا وحقيقيا في إنهاء الانقسام، كونها تمتلك كافة المقومات الواقعية لذلك.