نشر بتاريخ: 18/04/2016 ( آخر تحديث: 18/04/2016 الساعة: 20:42 )
الكاتب: شفيق التلولي
لم أغفُ إلا بعد أن قطعت زقزقة العصافير مخاوفي من كل الخراريف، خراريف الصيادين وخالتي راوية وجاري أبو الليل وسكان الشاطئ الذين خلعوا أبواب غرف بيوتهم التي هجروها ليعتلوها كطوق نجاة من الطوفان القادم، لا أدري لماذا هجمت على كل هذه الخراريف والهواجس والهلوسات والكوابيس بعدما أطلت زوجتي من النافذة عند انتصاف الليل، سألتني بينما أضطجع على فراشي أوشك على النوم:
- لماذا تحول لون القمر من الأبيض إلى الأحمر؟
- هاها لله درك يا امرأة، وما هو لون القمر أصلا؟
غطت في نومها وتركتني مع هزيع الليل أبحث عن القمر الذي اختفى قبل أن ألحق به من النافذة!
دارت في رأسي خراريف البحر وعروسه التي ربما يقذفها إلى البر، وجلت في متصفحي على موقع التواصل الإجتماعي أقلب منشوراته؛ لعل بالي يهدأ بخبر مفاده بأن البحر ساكن والقمر واحد ولا لون له غير لونه القمري، وأنه مازال في صدر السماء في انتظار أن يسلم البحر إلى الشمس وأنه لا قنابل هيدروجينية يفجرها الإسرائيليون في بحرهم المجدلي المحاذي لبحرنا ولا زلزال قبرصي يمتد إليه، فيجلب لنا تسونامي يأخذنا إلى ما وراء الحدود.
قاطعت تصفحي صديقة من بعيد... قل لي يا صديقي:
- ما شكل بحركم الآن؟ وهل لك أن تأخذ له صورة وترسلها لي كي أرى البحر وهو يبتلعه الأفق إلى مرمى المدى؟!
- ها ها ها ها حسنا يا صديقتي!! سألتقط لك صورة بعدما ينهض من المدى وينفلت من أوتاده ونغرق في أمواجه المحمومة، أما الآن فلا قمر هنا يساعدني على التصوير.
اللعنة ما الذي يجري هنا، بالأمس أعلنت الجهات المختصة بأن تسونامي يجتاح مدينتنا وأن اسرائيل ستفجر قنابل في بحر المجدل فيضج بحر غزة خالعا ثيابه البيضاء والزرقاء لتقذف بنا حممه الشعواء إلى بعيد، والآن أقرأ خبرا عن ذات الجهات بأن طابورا خامسا يقف خلف هذه الخراريف والخزعبلات لترويع السكان وأن ما يتداوله الناس عن موجات تسونامية ستقلب المدينة رأسا على عقب هو مجرد إشاعات لا صحة لها!! ما هذا ولماذا؟!
عند الساعة العاشرة صباحا صحوت على تهكم الأصدقاء عبر متصفحي وتندرهم على تسونامي الذي بدا وكأنه كذبة نيسان أو حلم مر سريعا كالسراب، أين ذهب ولماذا لم يأت؟! ربما ظل في قبرص التي قيل بأنها ستكون منشأ الزلزال الذي سيحمله لنا فيأكل غزة عن آخرها، قصص كثيرة وطرائف ونكات جميلة ملأت المدينة وصفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية أنستني موعدي الحواري مع إحدى الصحف الأدبية، ولم أتذكرها إلا بعدما نبهني صندوق الرسائل الخاص بي لتظهر الأستاذة منال وعلامات استفهام وتعجب كثيرة.
- أين أنت يا أستاذ؟ هل نسيت لقاء اليوم؟
- آسف جدا يا سيدتي فقد غرقت في نومي بعدما أثقلني السهر وأعياني انتظار تسونامي.
- تسونامي؟! لم أفهم عليك يا سيدي، لكن لا ضير المهم أنك بخير، أرجو أن ترتب أفكارك مع شريكك الآخر في الحوار، الآن سأدعوكما لمحادثة جماعية كي تتفقا على محاور الحلقة التي أعددناها وأعلنا عنها.
- تفضلي أستاذة منال بكل سرور أنتظرك يا عزيزتي.
إنتقلت بنا إلى غرفة محادثة جديدة سرعان ما انسحبت منها وتركتنا وحوارنا:
- صباح الخير أستاذ شاكر
_ عفوا إسمي صابر، _صابر الغزاوي _
- صباح النور أستاذة ليلى ويشرفني اختيارك الضفة الأخرى من الحوار.
- دعينا نعرف بعضا أكثر حتى نسبر أغوار بعضنا البعض ويكون الحوار مثمراً.
- أنا ليلى الحمصي، زوجي الذي قضى في الأحداث الجارية والمعارك الضارية في بلدي يكبرني بعشرين ربيعاً، وزد عليها خمساً من ربيعنا الذي لم نتنشق شذاه بعد.
- وماذا عنك يا أستاذ؟
- "أنا من هناك".
- من هناك!! أين تقع هذه هناك هاها؟
- لا أدري، إسألي الشاعر محمود درويش، كل ما أعرفه بأنني من المدينة التي ما زالت بوابة الشام الجنوبية، فيها بوابة صلاح الدين قد صدئت وهي مغلقة، في بلادنا ظلم وحصار، فقر وجوع وبطالة، ناهيك عن الحروب التي عصفت بها فأتت على كل شيئ فيها، منذ أعوام مضت ومدينتنا تعاني من انقطاع التيار الكهربائي المستمر، أي منذ أن غطينا في ظلام الإنقسام.
- ياه!! أي مدينة موحشة تلك التي تسكنها؟! كنت أظن بأن مدينتي فقط التي دمرتها الحرب، وما زال فيها قبر خالد بن الوليد يشكو إلى الله هذا الربيع المشؤوم، يبدو "كلنا في الهم شرق" يا عزيزي، لكن درويش الذي أعرف بأنه من بلادكم يقول: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
- الآن عرفت بلدك يا عزيزتي، ففي مدينتكم يرقد هابيل.
- وهل قابيل ما زال حيا في مدينتكم يا صديقي؟
- هاهاهاها سمعت أن في بلادكم شاعر يدعى نزار قباني يقول:
"يتقاتلون على بقايا تمرة، فخناجر مرفوعة وحراب" هكذا هو حال بلادنا يا صديقتي.
- وأنا سمعت في بلادكم عن كاتب يدعى غسان كنفاني يقول في روايته رجال في الشمس:
"علينا أن نظل ندق جدار الخزان"
- إذن كلانا من بلاد الشام التي تقطعت فيها سكة حديدها الممتدة فيما بين مدننا، وانهدمت محطاتها، واغتيل ياسمينها، وغاب ربيعها، في مدينتكم يرقد صلاح الدين وهنا اعتزل القيامة.
- أستاذ صابر ألا عدنا لحوارنا الأدبي أرى أننا استغرقنا الوقت في الحديث عن وجع مدننا ونسينا بأننا في حوار أدبي، إسمح لي بأن أسألك ما الذي دفعك لأن تطلق على قصيدتك الأخيرة "مدينتي من ماء"؟
- ألا ترين معي بأنه نفس السبب الذي كاد ينيني هذا الحوار لولا أن نبهتني إليه رئيسة تحرير المجلة الأستاذة منال السوداني، السبب ببساطة يا عزيزتي هو فزاعة تسونامي التي استحضرتني، فكتبت رسالة من تحت الماء إلى سيدنا نوح عليه السلام وهو ذات السبب الذي أخذني إلى هذه القصيدة، وكم خشيت أيضا أن يبتلعنا البحر، فلا يتم هذا الحوار.
الأستاذة منال من جديد:
-لم ينته الحوار-
ستبث الحلقة على الهواء مباشرة، وفي ظلال الربيع الذي حتما سيزهر بكما؛ لتكملا مشوار الموج والحوار وحكاية الربيع المهاجر.
قاطعتني أمي عنات حينما نشرت على حائطها وأشارت لي بأن اقرأ يا بني يا أيها الفينيق رواية نيكولاي أوستوفوسكي الروسية "كيف سقينا الفولاذ"
وأردفت تتلو علي ما قاله الشاعر الطغرائي:
"أعلل النفس بالآمال أرقبها، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"
منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما قرأتها وأنا شاب فتي يقبع في المعتقل، وهو في عمر الزهور، ومنذ ذلك الوقت وأنا لا أعرف كيف نسقي الفولاذ في بلاد جثم على صدرها أطول احتلال في التاريخ وتكالبت عليها كل ذئاب الأرض؟ وجاء ربيع الانقسامات والتشظي ليأتي ويجهز عليها، وأخيرا يصفعوننا بتخاريف زلزال تسونامي القبرصي، وقنبلة المجدل الهيدروجينية الإهتزازية!!
عذرا يا أماه، إسمحي لي أن أظل أنتظر آدم ليعود بحواء إلى السماء، أو يهبط بها إلى الأرض بسلام، وينتهي سجال قابيل وهابيل ونسلهم من بعد، ويظفروا بزهر اللوز.
نيسان غزة
2016م