نشر بتاريخ: 20/04/2016 ( آخر تحديث: 20/04/2016 الساعة: 10:41 )
الكاتب: عبد الناصر فروانة
إن من حق الإنسان في كل مكانٍ، وفي أي زمانٍ، وأياً كانت جنسيته وجنسه، ومذهبه وعرقه، ولغته ولونه، أن يتمتع بالحرية. هذا حقه، يولد معه، ويرافقه حتى وفاته، وحين يحاول الاحتلال انتزاع حقه الطبيعي هذا منه بالقوة، يمنحه القانون الدولي - كما تمنحه الطبيعة الإنسانية - الحق في الدفاع عن أرضه وحريته.
هذا بالضبط ما حصل مع الشعب الفلسطيني حينما احتل الإسرائيليون أرضه،وسلبوا حريته. فكان لابد من الدفاع عن حقوقه، ومقاومة الاحتلال بقوة الحق وسلاح المقاومة. فكان النضال الفلسطيني المستمر.
إن مقاومة الاحتلال شرفٌ تعتز به الشعوب، وتتباهى به الأمم: فما من شعبٍ كريم وقع تحت الاحتلال إلا ومارس المقاومة. وما من شعبٍ قاوم الاحتلال إلا ونال حريته. لقد أيقن الشعب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدار ثمانية وستين عاماً متواصلة قدم أرقام خيالية من الشهداء والأسرى.
وإذا كان الشهداء قد رحلوا بأجسادهم عنا ودُفنوا في باطن الأرض، فإن الأسرى قد غُيِّبوا بداخل السجون،ونالوا أشد العذاب والحرمان من غاصب أرضهم، وسالب حريتهم.
إن هؤلاء الأسرى، في الوعي الجمعي الفلسطيني، ليسوا مجرد أبناء الوطن المغيبين، بفعل السجن، بل هم أبطال ناضلوا وضحوا، فأفنوا زهرات شبابهم خلف قضبان السجون، من أجل فلسطين ومقدساتها، وهم أيقونات الحرية، الذين ينتظر شعبهم عودتهم. وحتى تتحقق هذه العودة، يرى الشعب الفلسطيني أن من حقه المطالبة، لهؤلاء الأبناء، بالمعاملة الكريمة التي يستحقها مناضلو الحرية وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية.
إن قضية الأسرى تعتبر جزءاً أساسياً من نضال حركة التحرير الوطني الفلسطيني، وأحد أرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، وتحتل مكانة عميقة ومتقدمة في وجدان الشعب الفلسطيني، لما تمثله من قيمة معنوية ونضالية وسياسية لدى كل الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم.
لقد فتح الاحتلال الإسرائيلي سجونه ومعتقلاته، منذ بداية احتلاله لفلسطين، وزج في غياهبها، ما يقارب من مليون فلسطيني، من كافة فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ذكوراً وإناثاً، أطفالاً ورجالاً، صغاراً وشيوخاً.
فما من بيت فلسطيني إلا وعانى مرارة الاعتقال. وما من فلسطيني إلا وجرّب ويلات السجن والاعتقال. منهم من تذوق ذلك بجسده، ومنهم من رأى ذلك على جسد غيره من أفراد أسرته أو أقربائه و جيرانه و أصدقائه.
لقد شكّلت تلك الاعتقالات ممارسة يومية ودائمة، وأداة إسرائيلية للانتقام وبث الرعب والخوف في نفوسهم الفلسطينيين والتأثير على توجهاتهم بصورة سلبية. كما وتعتبر جزءاً أساسياً من منهجية الاحتلال للسيطرة على الشعب الفلسطيني، ووأد ثورته وإخماد مقاومته، وباتت الاعتقالات هي الوسيلة الأكثر قمعاً وقهراً وخراباً للمجتمع الفلسطيني.
والأخطر من ذلك، وجود هذا التلازم المقيت والقاسي، بين الاعتقالات والتعذيب، بحيث يمكن القول بأن جميع من مروا بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، قد تعرضوا - على الأقل - إلى واحد من أحد أشكال التعذيب النفسي أو الجسدي، مما جعل من السجن الإسرائيلي نموذجا تتجلى فيه الحالة الأسوأ في الاحتلال، على مدار التاريخ؛ لأن أهدافه وآثاره لا حدود مكتوبة لها، فهي تطول الجسد والروح، كما تطول الفرد والجماعة، وتعيق من تطور الإنسان والمجتمع.
لذا فإن كان تحرير الأسرى ضرورة حيوية لتعزيز ثقافة الصمود والمقاومة، فان التثقيف بخطورة الاعتقالات، يُعتبر واجباً ملحاً وضروريا لحماية المقاومة. وأن العمل من أجل مواجهة الاعتقالات ووقفها، بات ضرورة موضوعية لحماية المجتمع من خرابها.
لقد فـرض السجن على الأسرى الفلسطينيين، حياةً لا تطاق: وأن عذاباتها لا تنتهي بمجرد الخروج من السجن، بل تتواصل آثارها إلى ما بعد التحرر، لأنها تورث أسقاما مزمنة في الجسم وفي النفس معاً.
كل هذا رغم حقيقة أن تجارب صمودهم وخطواتهم النضالية وإضراباتهم عن الطعام - الجماعية والفردية - لا تزال تشكل نماذج فريدة ومميزة، في الوعي الجمعي الفلسطيني. وأن السجان الإسرائيلي بسلوكه الشاذ لم يفلح في انتزاع فلسطين من قلوبهم، كما لم ينجح في تغييب القدس والأقصى عن عقولهم واهتماماتهم. فكانت السجون مكانا للإعداد والتثقيف، وشكَّلت رافداً مهماً للثورة، ووقوداً للمقاومة، وكان للمحررين دورٌ أساسيٌ في بناء مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
ووفاءً لهم ولقضيتهم العادلة، أقر المجلس الوطني الفلسطيني- باعتباره السلطة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية-خلال دورته العادية عام 1974، يوم السابع عشر من نيسان/ابريل، يوماً وطنيا للأسرى، لإبراز معاناتهم وعذاباتهم، وتعزيز مكانتهم، والعمل من أجل إطلاق سراحهم. ومنذ ذلك التاريخ فان الشعب الفلسطيني يحيي "يوم الأسير" في فلسطين والشتات، بأشكالٍ متعددة. ويشاركه في ذلك مؤسسات وفعاليات عديدة على المستويين العربي والإسلامي وكذلك الدولي.
تحل ذكرى "يوم الأسير الفلسطيني" هذا العام في ظل تزايد الاعتقالات وارتفاع أرقامها واتساع رقعتها، وتصاعد الانتهاكات والجرائم بحق الأسرى، بشكل خطير وغير مسبوق، لاسيما منذ اندلاع "انتفاضة القدس" في الأول من تشرين/أكتوير2015، فيما لا يزال نحو سبعةُ آلاف أسير يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم أكثر من أربعمئة طفل وطفلة، أصغرهم الطفلة "ديما الواوي" ابنة الثانية عشرة، وسبعون أسيرة فلسطينية، أقدمهن "لينا الجربوني"، من المناطق المحتلة عام 1948 والمعتقلة منذ أربعة عشر عاما.
وهناك سبعمئة معتقل إداري دون تهمة أو محاكمة، وستة نواب في المجـلس التشـريعي الفلسـطيني، ووزير سابق، وسبعة عشر صحافيا، ومئات من الأكاديميين والكفاءات العلمية والرياضيين.
ومن الملفات المؤلمة وجود قرابة ألف وسبعمئة أسير يعانون من أمراض مختلفة، بينهم مئة وثمانون أسيراً يعانون من أمراض خطيرة، وخمسة وعشرون أسيراً يعانون من مرض السرطان، بالإضافة إلى سبعين أسيرا يعانون من إعاقات جسدية ونفسية وحسية، بعضهم من فقد القدرة على الحركة، في ظل استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمد. الأمر الذي يفاقم من معاناتهم وبشكل خطرا على حياتهم.
وهناك من بين الأسرى ما يزيد على خمسمئة أسير يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد "مدى الحياة" لمرة أو لمرات عدة. وهناك من كبر وشاب وهَرِم في السجن، خاصة اذا ما علمنا أن أربعين أسيرا قد مضى على اعتقالهم عشرون عاما، بل وأكثر، بشكل متواصل، وأن سبعة عشر أسيرا منهم قد مضى على اعتقالهم أكثر من خمسة وعشرين عاما، وأن من بينهم سبعة أسرى مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثين عاما، وأقدمهم الأسير "كريم يونس" من المناطق المحتلة عام 1948، والمعتقل منذ أربعة وثلاثين عاما. بالإضافة إلى العشرات ممن أعيد اعتقالهم بعد أن تحرروا في إطار صفقة وفاء الأحرار (شاليط).
ونلفت الانتباه هنا بأنه وعلى الرغم من أهمية الإحصاء، إلا أن ما يجب فهمه ومعرفته، هو أن خلف تلك الأرقام تكمن مدلولات هامة، و قصص وحكايات من العذاب و الألم لا حصر لها.
وتحل ذكرى "يوم الأسير" هذا العام، والحركة الأسيرة تمر في أسوأ أوضاعها وأخطر مراحلها، حيث أمعنت سلطات الاحتلال في انتهاكاتها وصعدّت من جرائمها، وتحولت سجونها إلى ساحات للقمع والاعتداءات والقتل البطيء، وأماكن للإهانة والاذلال والتعذيب الممنهج وزرع الأمراض العديدة وحقول تجارب. فضلا عن سعي إدارة السجون لإعادة صياغة وإنتاج مرحلة "نعم ياسيدي" بأشكال جديدة. تلك المرحلة البائسة والقاسية التي كانت سائدة في السنوات الأولى التي أعقبت احتلال باقي الأراضي الفلسطينية عام 1967.
إننا أمام دولة احتلال تنتهك القانون الدولي أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع، وتشرِّع انتهاكاتها بقوانين عنصرية، وبمشاركة كافة مركبات النظام السياسي فيها، وتتصرف على أنها فوق القانون وخارج نطاق الملاحقة أو المحاسبة، وسعت إلى ترسيخ ثقافة "الإفلات من العقاب"، ليس فقط لمن يعملون في الأجهزة الأمنية وإنما أيضاً لدى كل الإسرائيليين، مما يدفعهم إلى التمادي في سلوكهم الشاذ والعنصري.
لذا فإننا نتطلع إلى جهد، سياسي وحقوقي وقانوني وإنساني، ضاغط ومؤثر، يدفع محكمة الجنايات الدولية إلى البدء بفتح تحقيق في الجرائم التي اقترفت بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وهي كثيرة.
فبالموازاة بين السعي لإجبار الاحتلال على تحرير الأسرى بصفقات التبادل، يجب عدم الاستهانة بأي سعي سياسي آخر. وبالموازاة مع ذلك لا يمكن لنا أن نُهمل عمقنا العربي والإسلامي الضاغط. كما لا يمكن لنا أن نُهمل ضرورة التواصل مع كل منظمات المجتمع الدولي والدول الصديقة وأحرار العالم أجمع.
وفي الختام لابد من التأكيد على أن الاعتقالات وبالرغم من ضخامة أرقامها وبشاعة ما يصاحبها ويتبعها، فإنها لم ولن توقف مسيرة شعب يًصر على أن يستمر في مقاومته حتى استرداد أرضه ونيل حريته. فالاعتقالات لن تقود إلى أي نوع من السلام. إذ لا يمكن فصل السلام عن الحرية، لأنه لا يمكن لفلسطيني شريف أن يكون مسالماً، ما لم يكن حراً.