نشر بتاريخ: 24/04/2016 ( آخر تحديث: 24/04/2016 الساعة: 09:49 )
الكاتب: تحسين يقين
ترى من سبق؟ الشاعر أم الفدائي؟
الإنسان! لللدائرة الأقرب إليه من رفاق الرحلة، أن يتوجوه قائدا فكريا، ولنا أن نتساءل عن المسافة، بين حمل القلم والسلاح. مسافة الزمان قد لا تختلف، فقد كان فتى حين التحق بمركب الثوار، ولم يكن قد غادر طفولته حين راح برومانسية العاشق يبدأ رحلة الشعر والفكر، حيث سارا وتواكبا، وعبرا عن الشخصية الانسانية والوطنية له ولشعبنا.
آخر ما تعلق به في الحياة قلم الفكر وقيم الالتزام الوطني والإنساني. وما بين تعلم اللغة طفلا صغيرا، وما بين آخر الكلمات رحلة حياة مزدهرة وحيوية، جمعت جماليات الإنسان المحب لبلاده والمؤمن بقضيتها، والباحث دوما عن دور لوطنه.
كل بما وُهب، وكل بما وَهب؛ وما بينهما تتجلى الرحلة، لتكثر الأسئلة لا الإجابات المطلقة، خصوصا تلك التي تتساءل عن جدوى الحياة على المستويين الشخصي والعام.
ما بين الخاص والعام خيوط تطول وتقصر، تغلظ وتدق، ويكون حكم الذات الموضوعية قبل حكم الآخرين مرتبطا بسؤال وجودي: هل كان بالإمكان أبدع مما كان!
هو، بمن عاش وبما سيطول عيشه، واحد من فرسان وفارسات العمل الإبداعي الوطني والإنساني، ممن كانوا يؤثرون لو كانت الحياة الفلسطينية على نحو غير ما كانت عليه من احتلال وصراع، ليتسنى لهم الانشغال بما يهوون من تأمل في نشيد الحياة.
في الأمسيات الصيفية الجميلة في بيت دقو المطلة على القدس ورام الله، حيث آثر قضاء أوقات محببة، أمكننا الاستماع لحديثه العذب، فتعرفنا على جوانب من شخصية الأخ عثمان أبو غربية، والذي كان يتنقل برشاقة جميلة بين المواضيع، دون أن نشعر بالقطيعة بين مواضيعه واهتماماته، لسبب بسيط أنها كانت دوما تلتقي في الوطن. لقد سكنته فلسطين والقدس حتى إذا ما قال شيئا أو صنع إلا لتجد فلسطين المنطلق والهدف.
تلك السلاسة والهدوء والأمل والإيمان بالمستقبل تلخص حياته، يسرد علينا الذكريات، من أجل الحاضر والمستقبل، ويسعد حين يجد مجالا للحديث عن الأدب والحياة والوطن، يحدثنا عن آخر قصيدة نشرها، وعينه على كتاب فكري وسياسي، وحين نتعرض للحكم والإدارة فإنه ينتصر لفئة الشباب، حيث كان يؤمن بهم، ويعوّل عليهم الكثير لينجزوه.
كان كبير الأمل، وممن اتصف بوضع روافع، فنشعر أننا قادرون على مواصلة الطريق، وأننا سنحقق الأهداف.
من خصاله احترام العمل الوطني، واحترام رفاقه، وعفة اللسان، ورقي التناول وجمال الصوت، والثقة، ولم يكن يبخل علينا بالإجابة عن أي سؤال سياسيا كان وغيره،. كان يثق في نفسه وفي الآخرين، وتعمق لدينا بما نؤمن به من عظمة الإنسان الفلسطيني، حيث كان رحمه الله دائم التغني بأبناء وبنات شعبنا. كان يفخر بمنجزات الإنسان الفلسطيني العادي، ويراها منجزات غير عادية.
وكثيرا ما كنا نطلب منه أن يسرد علينا تجربته في التي رواها في روايته التوثيقية "طريق الجنوب"، خصوصا ما تعرض له من أسر على يد قوات "الكتائب اللبنانية"، وكنت أقارن بين ما قرأت وبين روايته الشفوية، فتعرفت على المسافة بين المكتوب والمحكي. وكان من العقلانية وبعد النظر والتسامح ما جعله يعيد تقييم الأمور كلها.
روى لنا رحمه الله عن دعوة الرئيس أمين الجميل له، وكيف أنه بعد تكرار عدم تلبيتها عاد ولباها، وحين زاره ذكر له بأنه كان هنا أسيرا لديهم أيام الحرب الأهلية. المهم في الأمر أن القائد الراحل ظل متمسكا برأيه ولم يعترف بهويته الحقيقية كونه يحمل جواز سفر عربيا، رغم أن رفاقه في الثورة عرفوا، وكانت المفارقة أن قوات الكتائب كانت ترجوه ان يعلن عن هويته ليطلقوا سراحه، بسبب الاتفاق على تبادل للأسرى.
سيرة حياته الثورية خصبة، وسيرة حياته الفكرية والأدبية والشعرية مثلها، فكان مبدعا في العمل الوطني النضالي العسكري والسياسي.
اهتم بالفكر والثقافة، وما ندوة الاثنين إلا تجليا لهذا الإيمان، حيث انتصر للكلمة، وآمن بالحوار، ودعم النشاط الثقافي ما أمكنه.
كنا جمهوره لا خاصته، لم نكن من محيطه الخاص، لكنه كان يشجعنا، كنا نود لو اقتربنا منه أكثر لنربط أكثر بين جوانب شخصيته، وبين بعض نظراته النقدية.
مثال وقدوة للرقي والتهذيب، واحترام النفس، ومشاركة الشعب مناسباتهم، ومثال للتصالحية والتسامح وتجنب ما يشغلنا عن الوطن، ولم يكن غريبا أن تسند له الثورة ومنظمة التحرير مهاما تنظيمية ووطنية في فترات التحولات؛ حيث كان هناك إجماع عليه، واحترام، والسبب كما قلنا العقلانية والالتزام وبعد النظر، ورفض دخول نزاعات لا فائدة منها. لذلك استحق بجدارة أن يكون قائدا أجمعت عليه القيادة والفصائل والشعب.
الفدائي والمناضل عثمان أبو غربية بما وُهب من مهارات وخصال، حرص دوما على البناء عليها من خلال تثقيفه الذاتي وتعلمه المستمر، وتلك صفة القادة الحقيقيين.
وعثمان أبو غربية بما وَهب قضيته من وفاء وانتماء إنما كان يحقق قيمة الوفاء؛. فما وهبته الحياة كانت دافعا له ليهب شعبه وقضيته، بل ليهب الحياة ويبادلها الهبات.
من القدس إلى الخليل، إلى عمان، إلى دمشق فالصين، فبيروت فتونس، ففلسطين، وما مرّ ببلاد وأقام فيها، كان حبه العظيم وطنه، كنت ألاحظ ذلك عندما يتحدث عن تفاصيل الحياة الفلسطينية. أما القدس، فظلت تسكنه وقد اختار في الفترة الأخيرة أن يقدم شيئا لها رغم كل الظروف الصعبة.
نحن بحاجة لنتعلم من هذا القائد الوطني، لنا أن نفكر في القيم التي آمن بها، ومنها البحث عما يجمع الفلسطينيين لا الذي يفرقهم. الانتباه للعمق العربي والعالمي، التحلي بالأمل والإرادة، جمع الناس على الحكمة، الحوار، والتسامح، احترام البشر.
ما بين الذاتي والموضوعي، في رحلته الشخصية كإنسان، ورحلة الحياة والنضال الوطني، ليس هناك فجوة بينهما، فقد كان ينشد فلسطين في كليهما. رعى أسرته الصغيرة وعطف عليها، ورأى شعبه أسرته الكبيرة، فكانت الحميمية والدفء تجعله قريبا من الناس.
لنا الظاهر مما نرى، ولكن للناس بوصلة حقيقية إن هم أجمعوا عليها، وهو من القادة الذين كانوا يقدرون وجهات النظر الأخرى. ما لمسته من كوادر العمل الوطني في القدس هو احترام الأخ عثمان أبو غربية، والتحدث معه بصراحة، فكان واسع الصدر والقلب، قريبا، وميسرا ما استطاع من عمل.
لنا الداخل أيضا حين نتعامل معه، فنرى أن الخصال المرئية إنما انطلقت من داخل جميل ورائع، كيف لا وهو ممن أسس لخطوات التحرر، والتي ارتبط التحرر الفكري والاجتماعي والثقافي فيها بالتحرر الوطني، وثمة ارتباط بينها جميعا.
حماسه للفكر حتى اللحظة الأخيرة..حماسه للشعور الإنساني..
هو الفكر والشعور، واندماج أدوات النضال الإنساني؛ لذلك فإن بقاءه سيطول بيننا.
قامة كبيرة رحلت عنا، ولكنه بعمله وفكره سيعيش أكثر من سنوات عمره في سجل الخالدين.